هل علقت أغنية ما في ذهنك في يوم من الأيام، وحاولت التخلّص منها دون جدوى؟ هذا النوع من الأغاني يسمّى (دود الأذن)، وله أسماء أخرى كثيرة، من ضمنها (دود العقل)، والخيال الموسيقي اللاطوعي… إلخ، ببحث بسيط على الإنترنت تستطيع أن تجد كثيرا من المقالات العلمية تساعدك على التخلص من هذه الأغاني، ولكن هذا ليس موضوعنا، وإنّما أنا هنا لآخذ (دود السمع) مدخلا لفهم عقلية المجاميع البشرية، التي تتصرف بطريقة يدينها العقل الفردي، لكنه لم يستطع للآن أن يهزمها.
نلاحظ في الجهة الأخرى كيف تنتشر فكرة ما كالنار في الهشيم، وتبدأ بالتكاثر على هيئة أمثلة مختلفة للفكرة نفسها، متخذة عقول الناس كمضيف لهذا التكاثر الذي يشبه تكاثر الفايروس، وقد تكون هذه الفكرة “تحدّيا” من التحديات المنتشرة على الإنترنت، أو فيديو أو مقالا أو _وهو الأهم_ طريقةً في معالجة المواضيع، مثل النكات القائمة على “بدليّات الكلمات”، مثل: (يقول الممثل بلهجة مصرية: زنقونا. فيرد عليه زميله في المشهد: زنة أونا سنة ثانية)، هذا النوع من النكات انتشر بصورة هستيرية، وهو مثال على طريقة معالجة الفكرة.
أزعم أنّ (دودة السمع) ستساعدنا على فهم طريقة عمل أنماط معالجة الأفكار التي تنتشر بين الناس.
لننظر كيف تعمل دودة السمع:
الدماغ فيه عدد هائل من العصبونات، تحمل عددا هائلا من الإشارات (السيالات العصبية) دائمة التدفق، وكثير منها خارج إطار الوعي، أي أننا لا نكون نراقبها طول الوقت، فتيار الوعي يقع في نطاق من العمليات الدماغية أصغر من مجمل العمليات الدماغية الأخرى.
الذي يميّز دودة السمع عن سواها من الأغاني هو أنها مكونة من مقطع قصير مكرر، حتى أن أحد أسماءها هو (الموسيقا الدبقة)، أي التي تلتصق بالسمع فورا، هذه الموسيقا يمثّلها الدماغ على هيئة إشارات (سيالات عصبية) تكون أحيانا داخل إطار الوعي، فتعرف أنّك تغني هذه الأغنية، لكن لقصرها فإنها من الممكن أن تبقى تتكرر في أحد دوائر دماغك دون وعي بها، فتتفاجأ بعد ساعتين أنك عدت لتكرار الأغنية ذاتها.
السبب في بقاء إشارة الأغنية تدور في وعيك هو أن دماغك يعمل بطريقة تعطي الأولوية للمسارات النشطة للإشارة، وبالآتي فإن مسارات الأغنية تكون صاحبة الأولوية الأكبر بعد ترديدها، ولهذا تظل الإشارة العصبية تتدفق خلالها، فتظل الأغنية في مكان ما في خلفيّة الوعي، تبرز أحيانا فتتفاجأ أنك ما زلت تغنيها، أو ما زالت عالقة في ذهنك.
هذا السبب هو ما يعنينا هنا، وهو أيضا السبب وراء ظواهر دماغية أخرى، مثل تأثير كوليشوف، وهو يستغل كتقنية في مونتاج الأفلام، حيث أثبتت تجارب ليف كوليشوف الريادية أن تفسير المشاهدين للقطة سينمائية ما يعتمد على اللقطة المقرونة بها، فإذا صورت وجه رجل ثم عرضتلقطة لامرأة فإنهم يفسرون ملامح الرجل على أنه يشعر بالانجذاب لها، ثم إذا استخدمت اللقطة نفسها مقرونة بلقطة تعرض طعاما سيرونه على أنه جائع.
الفكرة هي أن المنطقة النشطة في الدماغ بسبب الصورة الثانية تؤثر في الطريقة التي يفسر بها الناس اللقطة الأولى، وهذا ما يحدث في كثير من فهم النصوص حسب سياقها والمشاهد حسب سياقها، وهي حيلة الدماغ ليتعامل مع أمر معقد مثل السياق.
هذه الخاصية في الدماغ، رغم عبقريتها، إلا أنها باب من أبواب الحماقة، فمثلا: إذا اقترن اسم بلد ما لمدّة من الزمن بأخبار طائفية، فإن أي حدث يدور في تلك البلد فيما بعد سيتعرّض لتفسيرات تلبس نظارة الطائفية، وتعمى عن أي شيء آخر.
الأكثر خطرا من كل هذا أن الدماغ المصمم لملاحظة الأنماط، يجدها في كل شيء، فإذا حاول تفسير شيء ما فإنه يذهب أولا لأكثر الأنماط نشاطا فيه، ويعتمد على مشاهداته لتأكيد تفسيره، فإذا وافقه عدد كبير من الناس على ما ذهب إليه تكرّس تفسيره وثبت عليه.
ما أزعمه هنا هو أنّ بعض الأنماط في معالجة الأفكار تتسمّ بصفات دودة السمع التي تحدثنا عنها في بداية المقال، فتنتقل بين الناس بصورة فيروسية. هكذا يمكن فهم ذهنية الغوغاء، التي تفاجئنا بقناعات راسخة تشكّلت سريعا في أذهان الناس من حولنا، عن طريق تكرار الإعلام لأنماط محددة من تحليلات الأحداث.
ولا أعرف طريقة للتخلص من دودة السمع خيرا من أن تغذي سمعك بمقطع موسيقيّ معقّد التركيب، لا يسمح له تعقيده أن يدور في دماغك خارج دائرة الوعي، فإذا غنّيت لحنا معقدا فإنك تنظف دوائر السمع من إشارة الأغنية العالقة في ذهنك.
كذلك فإن التخلص من دود الذهن يكون باستحضار أنماط أكثر تعقيدا لتفسير الحوادث، والانقطاع عن وسائل الإعلام التي تكرّس الأنماط الشائعة وتروّج لها، حتى لو كانت الحوادث التي تفسّرها الأنماط المعقّدة مختلفة جدّا، ولكنها تنشّط أماكن أخرى في الدماغ، مما يجعل التفاعل الآنيّ الذي يعتمد على الأنماط الشائعة أقل فأقلّ، حتى يتلاشى.