نيوليبرالية دون حرية! | وصفة لتقويض الوطن

يدور جدل في الأوساط الغربية، حول أثر وسائل التواصل الاجتماعي، وما تفرضه من ثقافة شعبوية، في ظل حدة الاستقطاب، على فكرة الديمقراطية. وهذا الجدل له علاقة، كما ستقترح السطور القادمة، بحكومة الدكتور عمر الرزاز في الأردن، التي جاءت بعد هبّة غضب شعبية على حكومة الدكتور هاني الملقي.

الفكرة هي أنّ امتلاك صوت يخاطب الجماهير كان قديما يتطلّب نوعا من الأهليّة، ويقترن بمسؤولية ما، حتى في أكثر البلدان حفاظا على حرية التعبير. كان هذا شيئا يحدث بمقتضى الحال، ولا يحتاج لتشريعات.
اليوم الجميع يستطيع أن يمتلك القدرة على مخاطبة الجمهور. لا يحتاج الأمر سوى بعض الأمور التقنية التي يمكن أن تتعلّمها في يومين أو ثلاثة، ليكون لك خلال أشهر صفحة يتابعها آلاف الناس.
عدا عن ذلك فإن الطريقة التي تعمل بها وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على تفاعل الجمهور، ضمن قيود يحددها أصحاب المنصة، وبالآتي على إسماع الناس ما يودّون سماعه، أو ما يظنون أنهم يودّون سماعه.
لنا أن نتوقع في ظل هذا أن ما حدث مع الفنّ والشعر، من انحدار في المستوى بسبب دخول الشعبوية كعامل حاسم، سيتكرر مع السياسة.
احتاج الأمر مئات السنين من التطور، ليصل المنتج الفني والأدبي لما كان عليه قبل هيمنة الشعبوية. بعد دخول الثقافة الشعبوية رأينا الفنانين والأدباء الناشئين، وهم يعيدون اختراع العجلة، ولم يعد الفرد قادرا على تعديل الخلل الذي يراه، فلابد أن تراه الجماعة كاملة لكي يتعدّل، أي أننا نتحدّث عن شيء يشبه فكرة التنظيم الذاتي للسوق المفتوح.
التنظيم الذاتي للسوق كان فكرة لدى آدم سميث، وقد أطلق عليه اسم اليد الخفية، التي تتدخل لتجعل الناس تتجه لإنتاج ما يحتاجه السوق، أو هذا ما كان يعتقده، لكن الحقيقة أن فكرته هذه فشلت فشلا ذريعا، وتسببت بالكساد الكبير في الاقتصاد الأمريكي.
راجت الفكرة مرة أخرى على يد ميلتون فريدمان تحت اسم “النيوليبرالية”، ورغم أنها جربت في مناطق نفوذ الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية، وأثبتت فشلها، إلا أن الساسة المهيمنين على العالم أصروا على تعميمها.
بين الليبرالية والنيوليبرالية، نشأ نظام الحماية الاجتماعية، وتدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد، بالفتح والإغلاق المتحكم بهما، وبعد أن تسببت النيوليبرالية بالأزمة الاقتصادية عام 2008، عادت الدولة للعب دورها بضخ السيولة في الشركات الكبيرة، وتنظيم الاقتصاد.
الذي يدفع الدولة للتدخل في كل مرة تفشل فيها فكرة يد آدم سميث الخفية في تنظيم السوق، هو تهديد عدد كبير من موظفي وعمال الشركات بالفصل، مما يعني ضغطا كبيرا من الناخبين على الساسة الذين وصلوا سدّة الحكم عن طريق أصواتهم، فتقوم الدولة بإنقاذ القطاع الخاص بأموال دافعي الضرائب، وهم الشعب ذاته المهدد بخسارة دخله.
الحجّة التي جعلت فكرة تحرير السوق تروج بعد فشلها المتكرر، هي حجّة ماكرة، تقول: إن التنظيم الذاتي ليس بإمكانه أن يعمل إلا على نطاق الكوكب كله. وهكذا ارتبط النهج الاقتصادي الرأسمالي المهيمن بفكرة تعميم الديمقراطية التصويتية في العالم كله، لكي تصبح أسطورة اليد الخفية قادرة على العمل.
صندوق النقد والبنك الدوليين هما أدوات معتمدة لدى الساسة في دول المركز المالي، الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، تستخدمان لنشر الانفتاح الاقتصادي، والحكم القائم على تصويت الشعوب.
قد تبدو فكرة تصويت الشعب رائقة، وديمقراطية جدّا، لكنّ ذلك ليس بالضرورة صحيحا، فالتصويت قائم في النهاية على الدعاية الشعبوية، والدعاية تحتاج مالا كثيرا في دولة كالولايات المتحدة، والذي يؤمن هذا المال هو الشركات ذاتها التي تتلقى الدعم حين فشلها. أي أن الأغلبية الفقيرة في كل دولة تتبع هذا النهج هي التي تستغلّ مدة طويلة من الزمن كطاقة عاملة، ثم كسوق للمنتجات، ثم كناخب شعبوي تنطلي عليه الدعاية، ثم كدافع ضرائب ينقذ الشركات من الإفلاس، بينما تبقى الأقلية الثرية في سدّة الحكم، والهيمنة على الاقتصاد رغم قراراتها المجحفة، التي تؤدي لسقوطها مرة بعد مرة.
نلاحظ أنه في المناطق التي لم تصل الشعبوية إلى هذا القدر من السلطة، بسبب وجود هياكل تنظيمية أخرى، مثل العشيرة أو الطائفة، أو غيرها من القوى المجتمعية، والقضايا الجامعة، تأتي النيوليبرالية منقوصة من “حرية التعبير” و”حرية التنظيم” وقد يكون ذلك بسبب فشل النخب الحاكمة من بسط نفوذها على عقول الناس، على الأقل بسبب القضية الجامعة التي تفضح اصطفاف النخبة ضدّ مصلحة الشعب.
في ظل فشل النخب الحاكمة في السيطرة على عقول الجماهير، فإن حريتيّ التعبير والتنظيم تصبحان من المحظورات على الشعب. وهذا هو سرّ المزيج العجيب من العقلية الأمنية التي تتعامل مع الإعلام والتنظيمات، والعقلية النيوليبرالية التي تدير الاقتصاد. لكنّ هذا ليس مطلقا في الزمن، ففي اللحظة التي تتمكن وسائل التواصل الاجتماعي من إيصال المجتمع للانسياق للثقافة الشعبوية، والانقسام حول كافة القضايا، بما فيها القضايا المركزية الجامعة، انقساما يثبت سلطة النخب المهيمنة، فإن حرية التعبير حينها ستعود مقدّسة.
النيوليبرالية تعني، على مستوى ما، أن تأكل الدولة نفسها لصالح الشركات العابرة للحدود، متعددة الجنسيات، وما دام التصويت مقترنا بالمال، فإن الديمقراطية حلم بعيد المنال، وستظل النخب التي يفرزها المركز المالي في العالم، تتحكم في الدول الطرفية، وتفرض عليها نهجا يقوم على نهب الفقراء وعصرهم، وامتزاز آخر طاقة مالية أو حيوية لديهم، لتوظفها في صالح الرأسمال الذي جاء بهم.
نعود للأردن، لكي نتبيّن العلاقة بين كل ذلك وبين الحال في الأردن… الاقتصاد الأردني اقتصاد خدمي، الإنتاج فيه يحتل جزءا بسيطا، وفوق ذلك فإن القسم الأكبر من القطاع الإنتاجي قائم على الصناعات التحويلية، التي تحتاج مواد خام آتية من خارج البلد، ولذلك فإن الشركة التي تنتج في الأردن تحتاج تفضيلات قانونية لكي تنافس في السوق المحلية، فضلا عن السوق الدولية. التفضيلات قد تأتي على هيئة إعفاءات ضريبية، أو تقييد لدخول البضاعة الأجنبية، أو سوى ذلك من طرق التحكم بالاقتصاد.
إذا تأخرت الحكومة في منع استيراد منتج زراعي مثلا، فهي تهدد المزارع الأردنيّ، الذي لن يحقق عائدا يسمح له بالاستمرار في الزراعة، وإذا تأخرت في منع التصدير لمنتج محليّ فهي تهدّد جيب المواطن، لاسيّما إن كان هذا المنتج سلعة أساسية. هكذا فإن السوق المفتوح مضرّ بالاقتصاد الأردني.
عمليا كان الوضع يسير بصورة معكوسة، فقد كانت الحكومة تسمح بتصدير سلعة ما، ما دامت المزارع التي تنتج هذه السلعة تعود لشخصية نافذة في الدولة، وكانت تسمح بالاستيراد حتى من كيان معادٍ، مما دفع المزارعين الأردنيين لإلقاء إنتاجهم في الشوارع، لأن سعر البيع لم يكن يغطي كلفة نقله للمستهلك، مما يعني خروج المزارعين من السوق، وتعطل كثير من الأراضي الزراعية.
هذا مثال على كيف تحارب الدولة اقتصادها، وثمة مئات الأمثلة، آخرها مشروع قانون الضريبة الذي سحب بضغط شعبيّ، أشعلت شرارته فئة متعلّمة صاحبة مصلحة في إلغائه.
ولهذا كله، فإن الخيار الأمثل لاستمرار السقوط كان الاتكاء على حكومة علاقات عامة، تتقن التأثير على الجمهور من خلال قنوات الثقافة الشعبوية، لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي، وبالآتي كسب عدد من الأنصار الذين كان من المستحيل كسبهم بطريقة أخرى.
النهج الذي استمر منذ 1985 لم يزل قائما، وهو بيع الشركات الإنتاجية التي بناها الأردنيون خلال سنوات صعبة، بأبخس الأثمان لمستثمرين أجانب، وإبقاء الوضع الذي يسمح باحتكارهم السوق قائما، وجعل الاستثمار كابوسا أمام الرساميل الأردنية، بحيث لا يبقى سبيل للربح أمامها سوى الانخراط في عجلة الفساد.
طبق هذا النهج من خلال حزمة من القرارات السياسية غير الدستورية. هي تخالف الدستور لأنّها مُرّرت في ظل مجلس نواب أقرب إلى مجالس بلدية، ولا يصل بحال من الأحوال لأن يكون برلمانا. ولأن نظام الحكم في الأردن بنص الدستور هو برلماني ملكي، فإن كل ما حدث كان مخالفا للدستور.
اليوم نرى الحكومة ما تزال متمسكة بقانون الجرائم الإلكترونية، وبمشروع تعديلاته الأفظع منه، الذي يتيح تكميم الأفواه، ومنع غيرهم من كسب قاعدة شعبية، ضمن شروط الثقافة الشعبوية الخاطئة أصلا، ونراها تتحدث عن “عقد اجتماعيّ” جديد، لن يكون سوى إبر تخدير للمجتمع الذي يئنّ تحت وطأة الفقر والجهل. الفقر والجهل الذين هما من ضمن منتجات خيارات النخبة الحاكمة، التي جاءت في ظلّ تعطيل العقد الاجتماعي الأصيل وتعديله، ألا وهو الدستور الأردني.
ما يزال الشباب، الذي يتطوّع لمحاولة تنظيم أي غضب شعبي ليكون منتجا، ملاحقا، ومهدّدا أمنيا، رغم أنّ مطالبه لم تصل لسقف يتيح للقانون الذي صاغته النخب الحاكمة أن ينال منهم!
هذا يعني أننا أمام نيوليبرالية خالية من مكوّنها الذي جعلها تنطلي على بعض شعوب دول المركز المالي، وهو حرية التعبير والتنظيم، تطبّق في دولة طرفية، مما يعني أننا أمام نخبة تسعى لتجريف مكتسبات الشعب الأردني، وتحويله لطاقة عمل رخيصة لرأس المال الخارجي، الذي هو في الأصل معادٍ لقضاياه الجامعة.
وفي ظلّ عدم قدرة الناس (بسبب الجهل، أو بسبب المنع) على تنظيم أنفسهم لتشكيل أداة عامة تدافع عن مصالحهم، فإن هذا المخطط التدميري لديه فرص نجاح كبيرة. الذي يبطئه هو قوى شدّ عكسي مكونة من رأسمال غير كفؤ إداريّا، كان منتفعا من ريعية الاقتصاد، يتغذى على العطاءات الحكومية، وتمتدّ شبكة نفوذه إلى عدد من مؤسسات الدولة، لاسيّما مجلس النوّاب، الذي لم يكن برلمانا، منذ إقرار قانون الانتخاب المناطقي، المستمرّ حتى اليوم رغم خضوعه لعمليات تجميل.