عند النظر إلى داعش وأخواتها، فإن الناظرين بنقسمون _بصورة أساسية_ إلى قسمين رئيسين؛ قسم يردّها إلى التراث القديم حصرا، وقسم يردّها إلى مخططات دولية تسعى للتأثير السياسيّ والعسكريّ في بلادنا، لكن هل يمكننا الفصل بين داعش وبين ذهنية ما بعد الحداثة؟
قد تكون الميكانيكية العاملة داخل ذهنية الجماعات الإسلاموية المتطرفة، ميكانيكية تراثية بالفعل، أي إنهم كذوات يتناولون المواضيع المختلفة بصورة تراثية، لكنّ الفكرة التي أحاول أن أمسك بها تتعلق بهم كمواضيع لا كذوات. أتحدّث هنا عن الجماعات الإسلامية بصفتها موضوعا تتداوله ذوات أخرى، غير الجماعات ذاتها.
الذوات التي تعالج موضوع الجماعات الإسلامية تضمّنا كأفراد في مجتمع، وكأجهزة إعلامية، وككيانات سياسية، ومراكز دراسات، حتى أنها تمتد لتضمّ جزءًا من أفراد تلك الجماعات. أزعم أن داعش كانت موضوعا ما بعد حداثيّ بالنسبة لهذه الذوات.
ملامح ما بعد حداثية في داعش وأخواتها:
أولا: سيطرة الافتراضي على الواقعي.
وهذا واضح في الأهمية البالغة التي احتلّتها الصورة عند تناول أي من هذه الجماعات، إذ فظاعة الصورة غطّت على كل شيء خلفها. كانت الصورة التي صدّرتها داعش عن نفسها، والتي أيّدها أغلب من تناولوا موضوعها، تشبه بقعة دم حمراء فوق صورة، تشدّ الانتباه لدرجة ألا ينتبه أحد لشيء آخر غيرها.
ثانيا: سيطرة العاطفة على العقل.
مع وجود هذه الصورة الفظيعة لداعش وأخواتها، واحتلالها الشاشات والنصوص، فقد خفتت العقلانية لصالح العاطفية. كيف سيستجمع أحدنا منطقه أمام فظاعة الأخبار والصور التي تأتي من جهتهم! وهذا تسبب في إرباك عظيم للجميع، وقد شكّل هذا الإرباك أرضية خصبة لخلخلة المفاهيم الراسخة. الشقوق التي سببتها داعش في المفاهيم الراسخة، تسرّب منها مواقف كثيرة، فمن الناس من تطرّف بعد أن كان معتدلا، ومنهم من أعاد النظر بمعتقداته الراسخة، وسوى ذلك من مواقف أساسها العاطفة لا التفكير العقلاني.
ثالثا: إلغاء الفرد لصالح الجماعة.
ليس سرا أننا كأفراد نتيجة تفاعل مع البيئة المحيطة، ومن العبث النظر إلى الإنسان كفرد مطلق، لكنّ هامشا واسعا من الفردية ضاق بسبب سيطرة الصورة والعاطفة على المجاميع. لم يعد بمقدورك أن تتحدث عن هذا الشيء دون أن تستنكره أو تؤيده، وهذا كان يحشرك فورا في جماعة من الجماعات.
هذا الاستقطاب العالي الذي صاحب صعود داعش، ما زال فاعلا بصورة أو بأخرى، لكنه بلغ مراحل هستيرية خلال صعود داعش وأخواتها.
رابعا: توظيف التقنية مع التنكر للأساس النظري الذي بنيت عليه.
داعش الآتية من ذهنية ما قبل حداثية توظّف منتجات الحداثة، من صورة وفيلم وإنترنت…إلخ، لتنفي الحداثة على المستوى النظري، فهي لا تعترف بالعلم إلا بوصفه أمرا تقنيا له مهمة محددة.
اتضح هذا بكون أغلب منتسبي الجماعات الإرهابية المتعلمين ينتمون لتخصصات علمية. الطبيب مثلا ينظر للطب بوصفه أمرا تقنيا، مستبعدا ما يقف خلف هذه التقنية من نظرة علمية. أي هو يعالج المريض باستخدام العقار الفلانيّ، لكنه لا يقبل أن اكتشاف هذا العقار قام في الأصل على التصديق بنظرية التطوّر. أي أن العلم يجرّد من شقّه الأيدولوجي النظري، ويبقى الشق التقني.
وهذا يشبه استغلال ما بعد الحداثيين للتقنية مع رفض الأساس الحداثيّ الذي بنيت عليها.
خامسًا: تحالف النيوليبرالية العربية مع الذهنية ما قبل التاريخية التي تتبناها هذه الجماعات.
هذا التحالف كان واضحا في الاصطفاف السياسيّ، فكلاهما يقف ضدّ الكيانات القطرية ذاتها، وكان واضحا أيضا في دعوات عدم إقصاء المتطرفين من يؤيدون علنا هذه الجماعات، وعدم فرض قيود على ظهورهم الإعلاميّ.
الليبرالية، بصورتها القديمة، ترافقت مع الحداثة، وكانت تدعو لكفّ يد كل سيطرة مطلقة على الفرد، ولم تتوانَ عن استخدام القوة المفرطة في ذلك، لكن”الليبرالية” العربية المزعومة، كانت تدعو لقبول المتطرف كشريك في الأرض، وأن لا حلّ إلا الحلّ السياسيّ.
سادسا: قبول تعريف أي جماعة لنفسها كما هو.
نجد هذا واضحا عند مناقشة الكيان الصهيوني، فالغالب عدم القبول بفكرة “يهودية الدولة” أمّا في حالة الجماعات الإسلاموية فقد قبل كثير من الناس والدول فكرة إسلامية هذه الجماعات. وهذا أحد الأشياء التي يستبطنها التحالف المرئي وغير المرئي بين هذه الجماعات والصهاينة.
سابعا: الضجر من الحداثة.
الهاربون من حداثة العالم، سواء كانوا رافضين للحداثة بسبب فشل دولهم في احتلال مركز محترم في عالمها، أو كانوا من أبناء المراكز التي تنتشر فيها الدعوات ما بعد الحداثية ضدّ النظام القائم، وجد بعضهم في داعش وأخواتها ملاذا، فرأينا الأفارقة والأوروبيين والأمريكيين ينضمّون لداعش.
كان انضمام بعضهم بسبب البحث عن الإثارة الدموية، فيما كان يبحث بعضهم الآخر بدافع إيجاد معنى للحياة العدمية التي يعيشها، وكثير من العرب انضمّوا بسبب سيطرة سردية “دولة الخلافة التي تحتل العالم” لكن هذا يعدّ في الرغبة بتجاوز الحداثة التي فرضت على أوطانهم التأخّر.
لا أريد أن أطيل في تعداد الملامح ما بعد الحداثية في هذه الظاهرة، لكن سبعة ملامح واضحة تكفي لتبرير وسم داعش وأخواتها بكونها ظواهر ما بعد حداثية كموضوع، وإن كانت الذوات المكوّنة لها ذواتا تفكر بطريقة ما قبل تاريخية.