فيلم روائي يحكي قصة الشاب الفلسطيني (عمر) واثنين من أصدقاء طفولته (أمجد وطارق)، وقصة حب عمر لأخت صديقه طارق، المنخرط في صفوف المقاومة المسلحة، يخطط طارق لعملية ضد جنود الاحتلال ينفذها مع صديقيه، ويتعرض ثلاثتهم للمطاردة، وتتعقد الأحداث بين محاولات جيش الاحتلال الكشف عمن أطلق النار، وبين محاولات الرفاق الكشف عن الخائن بينهم، هذا فوق الواقع الفلسطيني اليومي المعقد أصلا.
تدور أحداث الفيلم على جانبي الجدار العازل، الذي يتسوّره عمر يوميا، لكي يقابل طارق وينخرط في صفوف المقاومة أو لعله يريد من ذلك أن يرى حبيبته فقط! إذ يصبح تسوّره أصعب عندما تذهب سكرة الحب ويبقى ألمه في نهاية الفيلم، الجدار هنا يقف عائقا بين الحبيب والحبيبة، وما كتب على الجدار من شعارات ورسائل تكرس فصيلا يروج للتعايش، هذا يكرس النظرة الليبرالية للجدار، كجدار “فصل عنصري” وحسب. حتى انخراط عمر وأمجد مع طارق في العملية يكاد يكون خلفه حبهما للفتاة نفسها وهي (نادية) أخت طارق، التي تتلبس بالوطن لدى عمر، وتتداخل فيه، لكن تناول القضية من زاوية أو زوايا فردية، وعدة إشارات أخرى (بداية تعاون عمر مع المحتل برره له حبه لنادية مثلا) يجعل حب الحبيبة أقرب كتفسير للدافع الشخصي من حب الوطن.
الوجوه عديمة الملامح في بداية الفيلم، والركض في متاهة الأزقة هربا من “المستعربين”، ومجمل خيارات الشخوص في الفيلم، تعطينا انطباعا بأن هذه الشخصيات كلها العربية منها والصهيونية كلها مجبرة تسير في أقدار لم تخترها، وهذا يكرس النظر للصراع العربي الصهيوني، كـ”نزاع فلسطيني-إسرائيلي” فقط، وراءه خيارات أجدادنا أما نحن فأفراد تواجه أقدارها دون ذنب، وكيف يذنب من لا يختار! وهذه رسالة مشبوهة بعيدة عن حقيقة الصراع الجمعي.
اللقطات التي يتدرب فيها الشباب لينفذوا عملية ضد المحتل، وجلوسهم على كراسي السيارات المفكوكة والموضوعة على الأرض، تباهي أمجد بضرب أشخاص حتى تتورم عقد أصابعه، وتقليده لمارلون براندو في فيلم العراب، وكيف يفتن نادية أداؤه، وكيف يضحك الجميع عليه، وبذاءتهم أحيانا، وكيف يصدقون عن بعضهم أخباراً لا أخلاقية، كل ذلك يصورهم كشباب تائه، بعيد عن البناء النفسي للمناضل الفلسطيني الصلب، ربما كان طارق هو الوحيد الذي يخالف هذه الصورة، وهو الأقدم في صفوف المقاومة، وهذا في حد ذاته أمر جيد، لكنه أيضا يبدو كشخصية جامدة لا تتطور، ولا يمتلك حسا فكاهيا، الأهم من ذلك كله، أنه عندما تختفي الشخصية المقاومة تختفي المشاكل وتهدأ الأوضاع، وعندما يعود (طه عبد الرحمن) بديلا (لطارق عبدالسلام) تعود المشاكل من جديد، وهنا نحن أمام مقولة تدعي أن المشكلة في العنف، وهي وإن كانت في مشاهد متفرقة تلقي بوزره على الطرفين! إلا أنها كسياق كامل في الفيلم تلقي بالذنب على الطرف المقاوم، لا على المحتل.
المحتل هنا ليس محتلا لفلسطين كل فلسطين (من النهر إلى البحر)، بل هو الاحتلال “الإسرائيلي” للضفة الغربية (وهذه من مفردات أوسلو و”معسكر السلام” بين الصهاينة)، وهذا يرِد صراحة على لسان محامية عمر الصهيونية، والمحتل وإن كان عنيفا فهو يبحث عن دليل لأنه عادل في محاكمه، ويوكل محاميا للفلسطيني، بل وهو في الأساس يبحث عن الشخص الذي قتل الجندي الصهيوني، فالمشاكل قبل مقتل الجندي كانت مجرد مضايقات من الجيش الصهيوني لعمر، يبدو أن المخرج يصر على وجهة نظر الجندي الصهيوني فيها إذ يعاقب عمر بالوقوف على رجل واحدة، حين لجأ للعنف ليمتنع عن الوقوف على رجلين، وهذا كله يعني أنه يجب ألا نقاوم العنف بمزيد من العنف! فأي رسالة هذه!!!
المقاومون كما الصهاينة يظهرون فجأة ويكدرون صفو العاشق، مسلحون وحولهم حماية شخصية تشبه الحماية التي حول ضابط الموساد، كلاهما يهدد قصة الحب، يحاولون أن يثقوا بعمر كما يحاول ضابط الموساد ذلك، على الأقل يظهر الفيلم ضابط الموساد على أنه إنسان يقوم بعمله وفقط، بغض النظر عن أي أحكام أخرى، هو ليس سعيدا بما يفعل، نقطة ضعف الصهيوني في الفيلم أن يراه الفلسطيني كإنسان ويتعامل معه على ذلك الأساس، فعمر الذي يتلقى الضربات أثناء التحقيق، يفقد المحقق توازنه عندما ينبهه لكي يمسح أنفه، كذلك عندما يبتز عمر المحقق ليحصل على فرصة أخرى لتسليم رفيقه طارق، بعد أن يضيء المخرج على البعد الإنساني لدى المحقق وأنه لديه ابنة يعجز بسبب عمله أن يأخذها من الحضانة.
القصة التي يرويها أمجد لطارق وعمر عن كيفية صيد القرود في إفريقيا، من خلال مكعبات السكر التي تملأ أيديها بها فتعلق لأنها لا تريد إفلات السكر، توضح كيف استطاع الصهيوني اصطياد الخائن، وهو أيضا خان لأنه يحب السكر، ربما علينا أن نتذكر أن كونه قردا هو شيء سابق على عمالته، فـ”القرود” الفلسطينية ماهرة بتسلق الجدار، وفي الركض بين الأزقة، فإن لم يكن الإمساك بها ممكنا من خلال مطاردتها في أزقة المتاهة، فالقبض عليها من خلال مصيدة السكر (إسقاط العملاء) يصير مبررا ومفهوما، لا سيما وأن مطاردتها في الأصل كانت بسبب قتلها جنديا صهيونيا!
تزويج القاصر وجريمة الشرف المحتملة وفوضوية الفلسطيني وغيرها من التكوينات الهامشية في القصة كلها تظهر الفلسطيني ككائن أقل تطورا وإنسانية من الصهيوني، لكن ذلك كله لا يقارن بأزمة الثقة بين أفراد هذا المجتمع، فهم مخادعون إلى درجة أن يتهموا بعضهم بالخيانة فورا، ويفقدوا الثقة عند أول خبر كاذب، على عكس ضابط الموساد الذي تقتله الثقة بعمر!!! الفلسطيني في الفيلم لا يعرف شيئا عن الصهيوني ولا عن لغته، بينما يتحدث الصهيوني العربية بطلاقة، ويعرف كل شيء عن الفلسطيني، لدرجة أننا لا نعرف إذا كان ضابط الموساد من أصول عربية أم لا، كما يشك عمر.
خلال الفيلم يمر عمر في مراحل مختلفة من التعاون مع المحتل، تقدم لنا بنعومة حتى يبقي المخرج على حبنا له، وعلى تورطنا العاطفي معه، فبداية التعاون مستترة، نرى نتيجتها الجيدة ولا نراها، ويرمّز الوشايةَ في حلوى (تيك تاك) التي يعطيها المحقق له في كل لقاء، والتي يخبئ عمر رسائله في علبتها الفارغة، خلال رحلة عمر في اكتشاف العميل، أو اكتشاف نفسية العميل ربما! وحتى آخر الفيلم تستمر رحلة فهم عمر، للكيفية التي يغدو بها العميل عميلا، و(حارس البوابة الحكيم) في هذا الفيلم هو العميل الذي سبق عمر، فالنصيحة أو القصة التي يرويها، هي ذاتها ما ينقذ عمر، ويجعله يتخلص من رق العبودية للموساد، بالموت طبعا! الموت ذاته الذي صنع شهيدا من شخص مات خطأً والتشييع المزيف المتأخر شهرين لشهيد العبث خلال الفيلم ينزع القدسية عن جنازات الشهداء!
لا نحسَب أن هناك طريقة لقراءة الفيلم دون التشكيك بوطنية المخرج، هاني أبو أسعد الذي سبق وأخرج فيلم (الجنة الآن) كان بالفعل أكثر وضوحا في فيلم (عمر) فهو يتبنى الطرح الليبرالي الغربي الذي “يتعاطف” مع معاناة الفلسطينيين ويدين سلوك الصهاينة، يدين بعض سلوكياتهم ولا يدينهم هم، لكنه يتجاوز ذلك إلى اتهام الفلسطيني في شخصيته، ويعزو كل سلوكاته بما فيها الجيد منها، المقاومة مثلا، إلى القدر، فهو مجبر على كل خطوة يأخذها، بينما الصهيوني هو إنسان اتخذ ساسته أو أجداده خيارات خاطئة، وله بعض السلوكات السيئة، التي يجعل إظهارها هاني أبو أسعد بطلا في عيون البعض ويكون إظهارها الغلاف السكري الذي يحيط بالسم!
أهم وأسوأ ما في الفيلم هو تمظهر القضية الفردية في ثوب القضية العامة، وهذا وإن لم يخل من إبداع في قلب العادة السينيمائية من حيث العلاقة بين الخاص والعام (عادة تكون الحركة سينيمائيا معكوسة فتلبس القضية العامة ثوب القضية الفردية) فهو أسير لوجهة النظر الليبرالية التي ترد كل شيء للفرد، وتبتعد عن أية نظرة شمولية، وهذا من شأنه تقويض أي مقولة ساعية للتضحية الفردية في سبيل المجموع، وفي الفيلم حتى البطولات جاءت بدوافع فردية بعيدة عن روح التضحية في سبيل المجموع التي تميز المناضل الحقيقي، الذي لا يصل لدرجة تنفيذ عملية في صفوف المقاومة قبل أن يكون ذا بنية نفسية تمنعه من الظن أنه يمكن أن يتعاون مع المحقق من أجل أن يخدعه، ويصطاده كما تصطاد القرود بجعله يقبض على القليل من حلوى الوشاية! لأن الواقع الذي لا يقدر الفيلم على طمسه يقول: إن أول تعاون مع المحتل يعتبر سقوطا لا رجعة عنه!
كتب هذا النقد تلخيصا لجلسة نقاش الفيلم في نادي كابوس السينمائي.