تعبير مطلع النجم| “تفسير بدايات سورة النجم”

إثر نشر مقالة تتعلق بما يسمّى حادثة “المعراج”، راجعني أحد القرّاء، قائلا: ماذا عن آيات سورة النجم؟ فالقائلون بعروج النبيّ إلى السماء يحتجّون بها. هكذا بات لزاما علينا أن نشرح هذه الآيات التي التبس فهمها على كثير من المسلمين، بسبب ما يسمّى بالتفاسير، وفي الحقيقة إن التفسير يكون لما هو غامض، وليس لما هو مبين، فتسمية كتب الشروح بالتفاسير هي طعن في فصاحة القرآن. ولذلك فأنا أسميه تعبيرا، أو تعصيرا لأنه نقل للمعنى البيّن للعقول التي لم تحط بأدوات فهمه، بسبب اختلاف العصور.

 الآيات 1:

{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } * { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } * { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } * { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ }

الشرح:

من البلاغة أن يكون القسم متعلقا بالمقسوم عليه، فنقول: “أقسم بعينيّ أنني رأيت فلانا يفعل كذا”، أو “أقسم بحبّنا أنني لم أخنك”، كما أن أغلب مطالع القصائد القديمة فيها وقوف على الأطلال، لكن الطريقة تختلف باختلاف المعاني اللاحقة في القصيدة نفسها، ولهذا يقسم القرآن بجسم لامع في السماء (النجم) يهوي إلى الأرض، وكأنه يقول: لا تستغربوا هبوط القرآن من السماء إليكم، فثمة نجوم تهبط. ومن المعروف أن النجوم حسب التسمية الحديثة لا تهبط، لكنه يتحدّث حسب شرط اللغة في ذلك الزمان.

فهو يقسم كما شرحنا، ولكنه يقسم على أمر محدد، وهو أن صاحبهم (محمّد بن عبد الله) لم يضلّ، أي أنه لم يبتعد عن الصواب دون إرادة، ويتابع أنه لم يغوِ، أي أنه لم يبتعد عن الصواب بإرادة. إذن؛ هو لم يتقصد الإضلال ولم يقع في الضلال. لكن السؤال هنا: حول ماذا؟

الجواب على السؤال السابق يأتي في الآية التالية، في كون لا ينطق عن الهوى، أي أنه لم يضل ولم يغوِ في أمر القرآن، وأنه وحي من الله وليس من وهم النبيّ، أو تدليسه.

 صيغة: “إن هو إلا” في اللغة صيغة للتهوين من الأمر، وكأنه يقول: إن ما تستعظمونه هيّن، وليس بالأمر العجيب أبدا.

إذن؛ حتى الآن يقول القرآن:

أقسم بما ينزل من السماء من أجرام إن محمدا لم يتوهّم ولا كذب، ولا كذبته نفسه فقال ما تهواه، ولكنه جاء بوحي من السماء.

الآيات 2:

{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } * { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } * { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ}

  هذا الوحي جاء به ملك شديد القوى كثير استخدامها، فاستوى، أي استتب واستقرّ، وهو في أعلى أفق يراه النبيّ.

الآيات 3:

{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } * { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } * { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }

ثم اقترب الملك إلى أفقيا، وحين صار قريبا من موقعه، نزل إليه، وبدأ يوحي له القرآن.

أمّا كلمة عبده، فهي كخادمه، أو رسوله، أو مطيعه، فالنبيّ رسول الملك، والملك رسول من الله.

الآيات 4:

{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } * { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ }

أي أن فؤاد محمد صدّق ما تراه عيناه، فلا داعي للجدال الذي يقصد منه الغلبة، على أمر رآه، فهو لن يصدّقكم ويكذّب عينيه!

الآيات 5:

{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }

فلنلاحظ هنا كلمة نزلة!

أي أن محمد رآى ملك الوحي رأي العين في نزول آخر له، ولم تكن رؤيته مرّة واحدة.

الأيات 6:

 { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } * { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } * { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } * { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } * {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }

قد تفهم الآيات على وجهين: أن الرؤية الثانية وقعت عند سدرة المنتهى، أي رؤية محمد لجبريل، في عالم الغيب. أو أن الحديث انتهى عن الرؤية الأخرى، وجاء الكلام عن سدرة المنتهى استئنافا لكلام جديد.

إذا كان كلاما جديدا فالموضوع بات ملك الوحي، ولم يعد الرسول، وهنا فإن ملك الوحي، رأى من آيات ربّه الكبرى، وما نقصت رؤيته رغم ما يغشى السدرة، وما زادت على ما رأى حقّا. وهذا قد يذهب له من يتابع الآيات فيجدها تذمّ اعتقاد قريش بأن الملائكة إناث، فيرى أن الكلام في الأصل عن ملك الوحي وعن قوته، والكلام عن الوحي ومحمد كان مقدّمة لهذا.

وإذا كان كلاما متصلا، فهو يتحدّث عن عظمة ملك الوحي، وعن أن فيه من آيات الله آيات كبرى، والرائي هنا هو محمّد.

وهذا جعل الناس يتساءلون عن توقيت هذه الرؤية، التي حدثت لمحمّد، فقاموا ينسبونها إلى ما يسمّى حادثة المعراج.

فإن كان الكلام متصلا فإنه لا يلزم عليه أن يكون في زيارة لمحمّد إلى السماء، فنحن لا نعلم ما هي سدرة المنتهى، وأين تقع، ولا نعلم إن كانت رؤيا أم رؤية، أي رأي عين أم رأي قلب، وسوى ذلك من المشكلات.

النتيجة:

من الواضح أن الآيات ليست قطعية الدلالة، ولأنها ليست كذلك، فإن منهج كثير من المسلمين يرفض الاستدلال بها لإثبات أمر عقديّ، فالعقيدة لا تؤخذ إلا من قطعي الدلالة قطعيّ الثبوت.

ما أراه هو أن الحديث في الأصل عن ملك الوحي، وهذا يبدأ من القسم، ويستمرّ حتى نفي الأنوثة عن الملائكة، وذكر النبيّ جاء لأنه أولى حلقات الوحي، الوحي الذي وصل عن طريق محمد قريش، أي أن محمدا أول طرف في القصة من جهة قريش، ثم يتابع القرآن عن ملك الوحي، وقوّته وعلمه.