شتيمة الآيدولوجيا!

يعمد ليبراليون كثر إلى تسخيف ما يعارضهم من آراء، بوصفها منطلقة من آيدولوجيا، وكذلك عمدت وزاراة الشباب والمشاركة السياسية وما كان من قبيلها إلى استبعاد ما أطلقوا عليه وصف “الشباب المؤدلج”، ولا تزال تطّلع على تعليقات في وسائل التواصل الاجتماعيّ تصف الرأي المخالف لها بكونه منطلقا من أيديولوجيا، وإلى ذلك من تعامل مع الآيدولوجيا كما لو كانت شتيمة. فهل هي شتيمة بالفعل؟

دعونا نوضّح أولا معنى أن تكون مؤدلجًا، أو أن تملك آيدولوجيا ما!

يضرب فلاسفة مثالا لجراح أعصاب متخيّل قادر على الكتابة بلغة التفكير، يستطيع أن يفتح دماغك ويوصل الأعصاب فيه بطريقة تجعلك تعتقد بمعلومة ما، أي أنه قادر على زراعة الأفكار، وقد قام الجراح بفتح دماغك بالفعل وزرع معلومة واضحة تقول: إن لك أخًا في هولندا! وعندما استيقظت من البنج، ذكرت الممرضات أمامك هولندا، فتذكرت المعلومة التي تعرفها حق المعرفة، وهي أن لك أخا هناك. قلت للممرضات: إن لي أخا في هولندا!

هنا، تسألك الممرضات: ما اسمه؟ ويأتي دورك لتختار أحد خيارين، أن تؤلف اسما له، أو أن تحاكم هذه المعلومة بناء على ما تعرف، فأنت تعرف عدد إخوتك، وتعرف أماكن سكنهم، فإذا ضربت هذه المعلومات بتلك، عرفت أنك تتوهّم. ما تقوم به آنئذ هو فحص الاتساق.

عندما يتضارب ما تعلم مع معلومة ما، فأنت أمام خيارين: أن تعمد إلى فحص ما تعلم في الأصل، أو أن تعمد إلى فحص المعلومة الجديدة.

فإذا اخترت أن تفحص المعلومة الجديدة، فأنت تتصرف بطريقة الشخص المؤدلج؛ أنت تفحص المعلومة التي تتناقض مع ما تعرف، لتتأكد منها، وإذا وجدت تفسيرا ملائما لها، فأنت بالتأكيد ستراه أقرب لخياراتك من إعادة التشكيك بكل ما تعرف.

كما ترى فإن هذا السيناريو ليس دائما في صالح من يشكك بالمعلومة الجديدة، فإذا كانت هذه المعلومة أكثر أكادة من كل ما نعرف بالفعل، فهي تستحق عناء فحص كل ما عندنا من معارف، ثم إننا إن لم نجد سوى نظرية المؤامرة لتفسير ما أشكل علينا، فإننا إذا نتقمّص الحالة السلبية للآيدولوجيا، وهذه لها اسم في عالم الأفكار وهي الدوغمائية.

 الدوغما أو الاعتقاد الأعمى هي ما يعدّ شتيمة، لكنّ عدم امتلاك آيديولوجية يعني أنك لا تملك منظومة أفكار تساعدك على تمييز الخبيث من الطيب من الأفكار، فكيف ستميّز الوهم من الحقيقة، وكيف ستؤدي وظائف العلم (الملاحظة، التفسير، التنبؤ، التحكّم) دون أن يكون لك منظومة أفكار، آيدولوجية!

تعالوا لنرى الآن شيئا أكثر طرافة من استخدام الآيدولوجيا كشتيمة، وهو ما تفعله الأبواق المعادية لمحور المقاومة أو لمن يعادون “الربيع العربي”، التي تسمي خصومها بكونهم: شيعة، قومجيين، بعثيين، يسار خشبي، علويين… إلخ ذلك.

الحكم على من يتبنون خيارا مشابها بكونهم مؤدلجين، أو أنهم أعمتهم الدوغما التي يعتقدون بها، يمثل خطيئة من جهات عدّة:

فالآيدولوجيا ليست شتيمة وليست مكافئة للدوغمائية.

والشيوعي الذي يساند حزبا بمرجعية دينية شيعية قد تغلّب على أي تعصّب فرضته عليه آيدولوجيته، وهذا ينطبق على كل المذاهب المنضوية تحت لواء واحد في هذه المعركة.

أخيرا فإن الذين لا يفحصون افتراضاتهم، التي يمليها عليهم اعتناق الوهم على أنه صواب، هم الأجدر بوصمة الدوغما.

إذًا، نحن أمام أناس لا يملكون آيدولوجيا محددة، فيما عدا الجماعات التكفيرية، التي تمتلك دوغما دينية واضحة، يرون الآيدولوجيا شتيمة ومنقصة، ويلحقون عيب الدوغمائية بخصومهم، مع أن خصومهم يظهرون تحالفات تنمّ عن مرونة آيديولوجية لا تتوفر عند الشاتمين.

الأطرف أن هؤلاء بالفعل دوغمائيون وإن تمترسوا خلف الليبرالية، فهم، أولا وقبل كل شيء، ما بعد حداثيون، أي أنهم معادون للقيم الليبرالية الأصيلة، والتي ليست بالضرورة أن تكون شيئا جيدا، ثم إنهم متمسكون بسردية وحيدة لفهم خصومهم، وسردية وحيدة أخرى لفهم العالم، فهم يظهرون دلائل امتلاك الدوغما، وأخيرا فهم يلجؤون لسرديات مكافئة لما يسمى “نظرية مؤامرة” لتفسير ما يعجزون عنه.

أمّا ما يستحقّ الدراسة فهو اتباعهم للأعلام المتصهين اتباعا أعمى، يشبه اتباع ملّة ما لتعاليم نبيّها المتوفّى. النبيّ المتوفّى ترك جماعة دينية تثق بكل شيء قاله، وتُعمل كل أدواتها الذهنية لكي يبقى على حق، لكن هؤلاء أمام تدفّق دائم قادم من الأجهزة الإعلامية المعنية، وهذا يجعلهم في مرتبة أدنى من أتباع الدوغما الدينية، فهم يمتلكون نوعا من الدوغما السائلة، التي يمكن تقييفها على هوى الحدث الراهن، أو المعلومة القادمة من الإعلام المشبوه.

أن تنظر في كل المصادر الممكنة لتكوّن تصورك وتفسيرك، فهذا يعني أنك تطلب العلم، وأن تمتلك منهجا واضحا في ذلك، فهذا يعني أنك مؤدلج. أن تمنعك هذه الآيدلوجيا من رؤية الحقائق الصارخة فأنت دوغمائي، أما أن تتبع الإعلام لدرجة أن تتبنى الطروحات الليبرالية وتؤيد في الآن نفسه الجماعات الإرهابية فأنت تصبح مسخا ما بعد حداثيّ، صاحب دوغما سائلة، خائنا لوعيك.