مقالة قديمة من مدوّنة سابقة
هذه المقالة وإن كانت تستقل في أفكارها نوعا ما، فهي في جلّها صدى لمحاضرة “جمهور المقاومة: قراءة سيسيولوجية” التي قدّمها د.خالد عودة الله، في دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية، في فلسطين المحتلة، وقد اقتضى التنويه لذلك، كما وجب شكرهم على الجهد المعرفي الاستثنائي الذي يقدّمون في الدائرة.
إذ تتيح وسائل التواصل الاجتماعي للناس الظهور كما يحبّون لا كما هم حقيقة، هي تورّط من شاء ومن أبى في فصام بين ما يبدو عليه، وبين ما هو عليه في الحقيقة، وهذا في حدّ ذاته له حدود مقبولة وهي _في رأيي الشخصي_ تلك المسافة الحاضرة دوما بين ما تطمح أن تكون عليه وبين ما أنت عليه، ما دمت تتحرك بالفعل باتجاه ما تطمح أن تكون عليه، فإذا توقفت هذه الحركة، أو كان الطموح زائفاً تختصره الشكليّات والشعارات التي تفتقر للمصداق الحقيقيّ، فنحن حتما واقعون في الفصام، وإن أدركنا ذلك ولم نقم بتقويمه فنحن واقعون في النفاق أيضا!
سؤال الهوية لم يخفت أبداً، في أي عصر من العصور، كي نظنّ أنه خفت أو بات ثانويا في عصر الاتصال الفائق الذي نعيشه، بل وإنّه على ما يبدو اكتسب المزيد من الزخم، وبات أكثر إلحاحاً، فاحتكاكنا بالآخر هو العامل الأهم في تذكيرنا بسؤال الهوية، ومن الواضح أن هذا الاحتكاك زاد كثيراً، لاسيما إذا تذكرنا أن الطريقة التي نستخدم فيها وسائل التواصل الاجتماعي، هي أننا نجعل منها منابر إعلامية، للتلقي أو للبث، وهذا له أسبابه.
من أسباب تحويل وسائل التواصل الاجتماعي لمنابر إعلامية، هي الحاجة للإعلام، على الحالين متلقين ومصدرين للمعلومة، في ظل وعينا بأنّ وسائل الإعلام السائدة مليئة عن آخرها بالتضليل، وفي ظل النفس الدعائي الذي يطغى عليها، وهكذا فنحن نظنّ أن الإعلام المجتمعي أقل تعرضا للسيطرة من قبل المستفيدين من الوضع القائم، مهما تكن درجة استفادتهم منه، وهذا يضعنا أمام الكثير من الأمراض الأخرى، التي تتفشى في هذا الوسط، من انتشار شائعات، ومواجهة مع صورة الآخر المتخيّلة أو التي يفرضها هو وليست هي التي تفرض نفسها بكونها واقعا، وتكرار هذه المواجهة وتطرفها في القيمة والاتجاه هي أسباب إلحاح سؤال الهوية اليوم أكثر من أي يوم مضى.
يذكر أن الحلول التقنية لحالة الاحتكاك المتطرف في تكراره وقيمته، لا تزيد الأمر إلا سوءًا، فالحظر _على سبيل المثال_ وإن كان يريحنا من الاحتكاك، فهو يسمح لنا بالتطرف أكثر وأكثر، بعيدا عن الأطراف التي سيضيرها تطرفنا، وهنا لا أعني بالضرورة التطرف كصفة سيئة، ولكن كوصف يقارن خطابنا في وسائل التواصل بخطابنا حيث الحياة الحقيقية في وسطنا الاجتماعي.
في مواجهة سؤال الهوية كشعب يعاني من الاستلاب والاحتلال والجهل والحرب الحقيقية مع المحتلّ، وأصحاب المشاريع الإمبريالية، والحرب الطاحنة بين مكوّنات الشعب العربي أو الأمة العربية، نجد الإعلام التقليديّ في الدرجة الأولى ومن ورائه الإعلام المجتمعي، يضعنا دائماً أمام خيارات من السهل وسمها ووصمها، وينهال علينا بضخّ المواقف التي يجب أن نتّخذها تحت تأثير الدافع الأخلاقي، لدرجة أنّه يجعل من خياراتنا المتعلقة بإجراءات، أمراً قيميّا أكثر من كونه إجرائياً بحتاً.
هذا يمتدّ بالطبع لكل حقل نحن فيه على خط مواجهة ما مع آخر، حتى فيما يتعلق بالتفاصيل الصغيرة، ولكن لعل المواجهة الأساسية لكثيرين من الجمهور الواعي، هي الصراع الوجودي بيننا وبين العدوّ الصهيوني، وهكذا نشأ ما يسمّى “جمهور المقاومة”، وهو مفهوم أوسع من الحاضنة الشعبية لفصيل مقاوم، وأوسع من البيئة المقاومة، والمجتمع المقاوم الذي يضمّ أكثر من فصيل، فهو قد يشتمل على أي منها، لكنه يشملنا نحن أيضا الجالسين خلف الشاشات، دون أن ندفع أثمان مواقفنا، أو لنقل ندفع أثماناً أقلّ بكثير مما يدفعه المقاومون على الأرض، وفيما يتعلق بسؤال الهوية فنحن نجني أكثر مما ندفع، إذ ننتمي بسهولة نسبية للمقاومة، ويبقى دفع الثمن، وإن كان أقلّ مما يدفعه المقاومون، منوطاً بدرجة صراحتنا مع أنفسنا، وتمثّلنا ما ندعو إليه، أي أنه في تناسب عكسي مع حالة الفصام التي أسلفنا الحديث عنها، ومع ذلك فإن صحّ علينا تسمية (مقاومون) فنحن “مقاومون بلا مقاومة” كما يصطلح د. خالد عودة الله!
يعاني جمهور المقاومة الذي يجادل عن فصيل مقاوم ما، من صعوبات الانتصار على الخطاب الإعلامي السائد، ولذلك فهو يكثر أيضا من وضع خصومه أمام أسئلة أخلاقية في الدرجة الأولى، ويتفنن في جعلها أسئلة حادّة، أو لنقل أكثر حدّة من أسلوب الحياة الرخو الذي نعيشه، وبهذا يكثر استخدام الصورة وهي وسيط مستبدّ، إضافة للشحن العاطفي المضادّ للخطاب اللاعقلاني المستفاض به من قبل الإعلام التقليدي، وما يتابعه من الإعلام المجتمعي الذي يجد في انحسار الرقابة منفذا للمزيد من التطرف في الاتجاه ذاته. و “استبداد الوسيط التقني” هذا له آثار آخرى أيضا، فحدود الرسالة (إذ تفرض وسائل التواصل المجتمعي حدودا لطول الرسالة لسبب أو لآخر) يجعلها أكثر حدّة، وأبعد عن الإطناب في الشرح والتسويغ والنقاش العقلاني، وبهذا فنحن كجمهور للمقاومة أمام خيارات أخلاقية وليس سياسية.
من آثار ذلك، حالة التقديس التي يفرضها جمهور فصيل مقاوم ما له، بل إن ذلك يعمّ كل حالة لها جمهور، مهما تكن خسيسة أو كريمة، وهذا ينسحب على تأييد الجيوش الوطنية في حربها ضد تفكيك المفكك، وينسحب على تأييد “الثورات” في مواجهة “الأنظمة القمعية” على حد تعبيرهم، إذن فالجميع يبلغ حالة من تقديس الفصيل الذي يكون هو ضمن جمهوره، وهذا التقديس لا يمكن فصله عن فكرة أن هذا التأييد هو ما لدى الجمهور ليجيب به عن سؤال الهوية، فهو لا يدافع عن الفصيل فحسب، بل ويدافع أيضا عن كونه هو، عن هويّته التي ارتضاها!
والآن كي لا نكون نتحدّث بطريقة الومضات، لابدّ أن نخيط القطع المتفرقة في ثوب واحد؛ أي أن الفصام الذي نراه بسبب الإعلام المجتمعي، مضافاً إلى الضخ الأخلاقي، في ظل استبداد الوسيط التقني، وما يدفع به لمزيد من الحدّة، ورفع عتبة التأثر بسبب الشحن العاطفي وثقافة الصورة، بل وفي أحايين كثيرة تلاشيها، وما ينتج عن ذلك من حالة تقديس للفصيل الذي نرتضيه انتماءً يعبّر عن هويتنا، يجعلنا كجمهور “تواصل مجتمعي” عموماً، وبالأخص كجمهور مقاومة، نتبنّى خطاباً مبدئيّا وهذه هي أكثر صيغة محمودة لوصف الأمر، لكن يمكن وصفه بأوصاف سيئة كالموقف التطهري من الفصائل الأخرى، والتبريري لكل أفعال الفصيل الذي نؤيّد، وهذا له ضريبته التي تتضح عندما يتخذ الفصيل المقاوم موقفاً براغماتيّاً، يتصادم مع “مبدئيّة” جمهوره غير مدفوعة الثمن، أو لنقل مبدئيّتنا المجّانية، وتتدحرج هذه الكرة لتصل إلى التطهّر الفعلي، وحالة اللامبالاة التي تبدأ بالتفشّي وبدل أن يصل بنا انحيازنا الأخلاقي والمبدئي إلى نهضة معرفية وحياتية، يصل بنا للدرك الأسفل من اللامبالاة ونعيد هنا دورة حياة (العرب والسياسة – جذر العطل العميق… وهو كتاب للأنصاري) والمستفيد الأكبر من هذا هو عدونا، إذ نتحوّل شيئا فشيئا لأقليات متطاحنة وأغلبية تطهّريّة تدين الجميع!!!
ما معنى كل ما سبق؟! هي دعوة لقراءة حركات المقاومة، والممانعة، بمعزل عن التقديس، فهم بشر مثلنا، بل وإنهم أمام اضطرارات أقسى مما نتخيّل، ودعوة لترك مساحة لتأييد حراك ما حسب سلوكه، لا حسب هويته، فالتحرر المعرفي من ثقافة الثنائيات التي يفرضها الصراع الطاحن، وما تطرقنا له من شروط الاتصال الجديدة، هو خطوة أولى في سبيل العقلانية، والتأييد الحقيقي الأكثر رشداً والأكثر استمراريّة لحركات المقاومة، ترشيد المواقف ضرورة ما دمت ستدفع ثمنه! لكن لأن هذا الثمن ستدفعه الأمة جميعها وليس ثمنا تدفعه كفرد، فهذا قد ينزلق بك أن تستحقره.
وهذا كما ينطبق على حركات المقاومة التي تخوض الصراع الأكثر شرفا، فهو ينطبق على بعض الجيوش الوطنية التي تحمي بلداننا من التفكيك، وينطبق على أي حراك مهما كان بغيضا في رأيي ومقدّساً في رأيك، لنستغل الفسحة التي لدينا في حوار عقلانيّ مع الفصائل الأخرى ما دامت لم تخترق حدود الثوابت، التي يجب أن تبقى قليلة وحادّة الوضوح، ولنقدّم بين يديّ موقفنا مبرراتنا له، لعلّنا إن كنا على صواب نملك تأثيرا على غيرنا المخطئ، والأهمّ أن نترك للسياسيّين فسحة للبراغماتية التي لا ضير بها ما دامت براغماتية جمعية! فمهما كان توجّهنا داخل الأمّة يجب أن نبقي على الأمة ككيان واحد في مخيالنا، وألا نسقطها ككل لصالح الجزء الذي نراه يحقق المصلحة! والأهمّ من ذلك كله ألا نكون ضحايا لاستمناء الخطاب الأخلاقي فنتحوّل لجمهور لا مبالٍ.
إذن نحن يجب أن نطالب أنفسنا بالحزم ضد من يخترق الثوابت، وبالقراءة الموضوعية لمن يقاوم وألا نحمّله فوق طاقته بمبدئيتنا المجانية، مع ترشيد في التأييد، الذي لا يجوز أن نظهره إلا أن نمتلك قدرة على صياغته بطريقة عقلانية، حتى نتجنّب الحروب الكلامية التي يتساوى فيها الخائن والشريف، بل قد يتفوّق فيها الخائن والمتخاذل، فهو أقدر على الفجور من سواه.
وأؤيد صاحب القراءة التي كتبت ما كتبت كصدى وردة فعل عليها، أن هذا القول كلّه يجب أن يبقى في إطار النقد التقويمي، وأضيف أنني لم أتخذ موقفا نهائيا من القضية، بل إن المقالة هي محاولة لقراءة قراءة د.خالد عودة الله، وأي اعتراض فج على نقد ذاتي لسلوك جمهور المقاومة، سيكون تأكيداً على حالة القدسية التي لا تقبل النقد، بل توسيع لحلقة القدسية التي ننتقد لتشمل حتى سلوكات جمهور المقاومة.
وأختم بما قرأت لصديق في العالم الافتراضي إذ يقول : “النهاية للإيمان ليست الكفر بل اللامبالاة”!