“مدرّب حياة”!

من أطرف ما في المجتمعات الإنسانية أنها تنتقل من طور إلى طور ككلٍّ متكامل. هذا لا يلغي التنوع الفرديّ طبعا، ولكن الحالة العامة هي في النهاية جماعية. فالعلوم لا تتطوّر في بلد حمّاماته العامّة قذرة، وإن كانت هذه الجملة قد تثير جدلا، فالأسهل أن نذهب إلى المقصود مباشرة، وهو: لا تتوقّع أن تجد علم نفس متطوّر، في بلد متخلّف علميّا.

علم النفس في بلادنا متخلّف جدّا. لا تعدم وجود طبيب نفسيّ متميّز، لكنّك ضمن التخلّف العام، قد لا تستطيع أن تجد إبرته بين أكوام القش من أطباء فشلة. أتذكّر مرّة أن طبيب أعصاب نصح أحد أصدقائي بالذهاب إلى “شيخ يعالج بالقرآن”. لماذا نذهب بعيدا؟ فقد وصف لي أحد الأطباء دواء نفسيّا دون أن يسمعني، بناء على الأوصاف التي خلعها عليّ واحد من أهلي عنده، ولكنني لم آخذه، وذهبت أبحث عنه وعن آثاره، وعن طرق أخرى لمعالجة المشكلة التي كنت أعاني منها، ووفقت سريعا إلى الحل.

التخلّف الحاضر في الطب النفسيّ، وعلم النفس بصورة عامة، ليس السبب الوحيد للعزوف عن زيارة معالج نفسانيّ حقيقيّ في بلادنا، فأسعار جلسات العلاج جنونية، وفوق ذلك كلّه ثمّة وصمة اجتماعية حقيقية تلحق بمن يراجع طبيبا نفسيا، لدرجة أنّني رأيت غير مرّة أطباء نفسانيين يضعون على عياداتهم لافتة: “طبيب عام”.

هذا كلّه، وإلى جانبه بعض العوامل الأخرى، تجعل الناس تلجأ لتلقّي المساعدة النفسية بسبل ملتوية. من هذه السبل كتب ما يسمّى بالتنمية البشرية، أو مساعدة الذات، ومنها أيضا موضوع هذه المقالة، وهو: “مدرّب الحياة” أو (لايف كوتش).

في الحقيقة فإن “مدرّب التنمية البشرية”، و”مدرّب الحياة”، و”مدرب البرمجة اللغوية العصبية”، و”خبير الطاقة الإيجابية”، و”المعالج الروحاني” وسواها من التسميات، هي في النهاية الشيء نفسه، وهذا من حيث أنها تسميات تخلع على من يدّعون أنهم خبراء في مساعدة الناس ليكونوا نسخا أفضل من أنفسهم، دون أن يكون لديهم مؤهّل علميّ حقيقيّ يخوّلهم ذلك. هنا أعني العلم الرصين الناتج من الدراسات المنضبطة المحكّمة، وليس أي “علم”.

أن تزور طبيبا نفسيا فهذا يستدعي للذهن أنك مريض، لكن أن تزور مدرّب حياة فهو يعني أنّك تريد أن تكون إنسانا أفضل، ولذلك، فالخائفون من الوصمات الاجتماعية، ومن يعانون من الإنكار، فلا يعترفون لأنفسهم بمرضهم، يهرعون إلى “مدربي الحياة”.

وعود كبيرة

في عالمنا المكتظ بالمخاوف فإن للوعود أسعارًا، ومن يطلق لك وعودا كبيرة، ولو كانت مجرّد احتمالات، لقاء مبالغ ماليّة يمكن تدبيرها، فإنه بالتأكيد سيحصل على أذن صاغية، وإلا لتوقّف بيع بطاقات اليانصيب منذ زمن!

سنأخذ مثالين على “مدرّبي الحياة”، ونقارنهما معا لنصل إلى مخّ هذا الأمر، ونعرف وزنه الحقيقيّ تحت عدسة النقد، والمقصود هنا ليس المثال، بل النمط نفسه، فأنا لا أعرف الشخصين الذين أتناولهما هنا على مستوى شخصي، وقد يكون أي منهما إنسانا جيدا على المستوى الشخصي، بل وقد يصدّق ما يقوله للناس.

المثالان هما: عيسى عسّاف، وإهاب حمارنة.

كلاهما يعقدان تدريبات ويتلقيان عليها مالا، مثلا: تدريب عيسى عساف القادم في عمّان الأردن تبدأ أسعار تذاكره من 49 دينارًا أردنيّا أي سدس راتب موظف صغير، وتصل إلى 149 دينارًا!

جمهور هؤلاء في أغلبه من الشباب المتحمّس ذي الثقافة المتواضعة، مثل طلبة الجامعات.

وكتأكيد على هذه الوعود، فإنهما يعرضان شهادات أو قصص نجاح لأشخاص تلقّوا تدريباتهم. الآن، بغض النظر عن أن المدرّب قد ينتقي من بين الآراء والشهادات ما يناسبه أكثر، فإن الناس تميل إلى أن تشهد بأنها انتفعت واستفادت ولم تكن “خرافا” تستغلّ، فهذا أساسا يعني أنهم أناس ناجحون، فالشهادة للمدرّب هي شهادة المتدرّب لنفسه. أنا شخصيا لا أصدّق شهادات الناس لأنفسهم.

في الشريط الترويجي لفعالية عيسى عسّاف القادمة، يظهر مشهد مشي المتدربين على الجمر، كتأكيد على انفجار “القدرات الكامنة” لدى الأشخاص، وكدليل على “سيطرة العقل على المادّة”، وهو مشهد كلاسيكيّ، وفيلم محترق، تستطيع أن تفهم الميكانيكية التي يعمل بوساطتها بمشاهدة هذا الرابط: كيف يعمل المشي على الجمر؟. هذا مثال على الوعود الكبيرة.

أنماط مكرّرة

في أشرطة مدربيّ الحياة، ثمّة نمط واضح لمن ينتبه للأنماط ويُعنى بها، وهذا النمط لو استطعت فهمه والصياغة على منواله، فأنت تستطيع أن تبدأ العمل كـ”مدرّب حياة” ابتداءً من الأسبوع القادم.

سنأخذ مثالين هنا، أحدهما من أشرطة عسّاف، والآخر من أشرطة حمارنة:

رابط المثال الأوّل: “تأثير أفكارك على واقعك“.

رابط المثال الثاني: “كيف تضمن أنو ما حد يأذيك أو يظلمك بالحياة؟“.

أولًا، دعونا نحلّل العنوان الذي ينشر تحته كلّ منهما سائر أشرطته، فعيسى عسّاف يعتمد عنوان “أفخم سنة لهلّأ”، وإهاب حمارنة يعتمد “أعلى تعبير ممكن”. هل ثمة نمط هنا؟ نعم في الحقيقة، فاسم التفضيل “أفعل” (أفخم، أعلى) مضاف إلى كلمة محورية (سنة، تعبير)، ويليه تعبير عن وجود المزيد دائما (لهلّأ: أي للآن، ممكن: فهو موجّه لما هو ممكن وليس لما هو غير ممكن). نستطيع صياغة عنوان على هذا النمط، مثل: “أجمل صورة محتملة”، أو “أكبر نصبة حتى اليوم”.

لن نتطرق إلى هوسهم بالتركيز على كون أشرطتهم عفوية، والحديث هنا عن جميع “مدربي الحياة”، فهذا ينظر في الفراغ ثم ينتبه إلى الكاميرا، ويقول: “أظن أنه بال2009 حدث كذا وكذا”، وكأنه لم يخطط للشريط قبل تسجيله، والآخر يبدأ بنكات سمجة عن رؤيته صورته في كل مكان.

يبدأ كلاهما بمحاولة تسويغ ما سيأتي من خلال ما يسميانه علما أو منطقا مجرّدا، فعسّاف يتحدّث عن تجربة لـ”ـعالم ياباني”، هو ذات العالم المزيّف الذي يتكئ على تجاربه زغلول النجّار، وهي تجربة لا تمتّ بأي صلة لعلم أو لمنطق علمي، وحمارنة يتحدث عن أن “الظلم والأذى هي مشاعر، لا يمكن لأحد أن يشعرك بها، إلا إذا قبلتها”، مسميّا هذا “حديثا منطقيا”، مع أن الظلم شيء والشعور به شيء آخر تماما.

ثم يبنيان على هذا الأساس الهرائيّ بالكامل الذي يدعيان أنه الأساس “العلمي” أو “المنطقي” لكلامهما، بقية طرحهما.

بقيّة الطرح هي تذويت لكلّ شيء، كل شيء حسب كلامهما ينبع من الذات، وهذا الكلام مردود بالكامل، لكنك تستطيع أن تصيغ على منواله ما شئت من أفكار. هذا التذويت يجعل الفقير فقيرا لأنه اختار أن يكون فقيرا أو أراد ذلك عميقا في نفسه، أو على الأقل قبله، وكذلك أي ضحية أخرى، لعدم الرضا عن النفس مثلا، أو لظلم أو أذى وقع عليه.

إذا كنت مقتنعا بفكرة التذويت هذه، فأنا أوصيك بقراءة مقالين آخرين لي، رابط الأول: هل الفقير كسول؟، ورابط الثاني: مطاردة المطاردة.

وتستطيع أن تقرأ الحلقات الناجزة من سلسلة “ما بعد الحداثة” للاستزادة أيضا، وهي موجودة على هذا الموقع.

بعد “الأساس المتين” علميا كان أو منطقيا، يأتي التذويت، ثم تأتي لحظة الكشف، وهي في شريط عسّاف: “إذا كان دماغي 70% منه ماء… إلخ”، وفي شريط إيهاب: الأسئلة الأربع التي يطلب من الضحية أن يسألها لنفسه.

ثم بعد ذلك، أو قبله بقليل، تأتي الوعود بأن تصبح مثله، على أساس أنه قدوة وتجربة تستحق الوقوف عليها.

أخيرا، يعود إلى العنوان الذي ناقشناه في البداية.

هذا النمط ملاحظ في عدد كبير من أشرطة عسّاف وحمارنة. تستطيع عمل تمرين لنفسك باكتشافه داخل شريط من اختيارك.

ثمة مشتركات أخرى وهي استخدام لغة أدبية تخييلية لجعل الشريط ممتعا، وحشر تعابير من اللغة الإنجليزية لجعل الحديث متثاقفا، وغيرها من الحيل.

قبل الختام أريد أن أنبّهك إلى حرص المدرّب على صورته لدى الناس لدرجة تشكك بشعوره بالأمن والسلام الداخلي المدّعى، فعسّاف قام بالفعل بعمل “سِلف براندينغ”، وحمارنة عكس الشريط لكي يرى نفسه بالصورة التي اعتادها في المرآة: لاحظ أن الجمل خلفه باللغة الإنجليزية تبدو معكوسة. (نبّهت إلى كون ذلك ناتجا من طريقة البث المباشر في فيسبوك، ولكنني سأبقي هذا الجزء، مع أنني قد أكون بالغت في تحليل شيء غير مقصود.)

ختامًا

قد تقول في نفسك: “ما تقوله غير مهم… فأنا استمتعت، وشعرت بشعور إيجابي، بسبب حديث المدرّب”. دعني أزفّ لك خبرا سيئا: خداع وعيك من خلال “المخدرات” بأنواعها ليس حلّا، وعقلك أذكى من أن يمرّ عليه هذا الكلام.

لكن الأخطر في هذا الخطاب هو أنّه يجعل الإنسان إما متبلّدا إذا نجح، أو جلّادا لذاته إذا فشل، ويجعلك تبحث عن “السعادة الداخلية”، تاركا حلم تغيير الواقع للأفضل، وتاركا المعنى الذي تكتسبه ذاتك بكونها ترى أنك تفعل شيئا إيجابيا في الحياة.

أخيرا، هل ثمة فرق بين المهووس دينيّا الذي يستغلّ منتجات العلم والحداثة ليروّج لتحريمها، وبين مدرّب الحياة، الذي يستغلّ منتجات العلم والتفكير الموضوعي الذي أنتج العلم، ليروّج للتفكير الذاتي والهراء المنسوب زورا للعلم! أنا لا أجد فرقا سوى في طريقة تصفيف الشعر وما شاكلها ربّما! لكن للأسف… الطرفان يلقيان رواجا هائلا بسبب الثقة العمياء التي يتحدّثان بها.

ملاحظة: للاستزادة حول التقنيات التي تتسبّب برواج هذه الطروحات راجع المقالة في الرابط التالي: “كيف خدعوك؟“.