في أوضاع طبيعية، فإنّه من الطبيعيّ جدًّا أن يؤسس الشباب نواديَ نقاش للكتب والأفلام. وفي الأوضاع الطبيعية أيضا، من الطبيعيّ أن تختار الكتب والأفلام بالتصويت، أو عن طريق أي آلية يرتضيها أعضاء النادي.
لكن… والمشكلة أن هناك دائما لكن، أوضاعنا ليست طبيعية، أقصد أنّ تنطّع الشخوص لتأسيس نوادي نقاش الكتب والأفلام لا يحدث دائما بصورة طبيعية، بدون تأثير خارجي.
استغربت قبل مدّة من أحد النوادي، حين أعلن نقاش كتاب لمحتال مشهور، من أباطرة التسويق الشبكيّ، وقررت أن أحمل مسؤوليتي في نقل الوجه الآخر لكتب التنمية البشرية عموما، وهذا الكتاب خصوصا، وفكرة أن “الناجحين” أذكياء، وبما أنّ النجاح في هذه الكتب هو الثراء، فالفقراء بالضرورة أغبياء، أو يكون فقرهم مؤقتا.
قرأت الكتاب بالفعل خلال ساعات، وأجريت بحثا حول الكاتب ومصائب احتيالاته، وتسلّحت بكل المعلومات اللازمة، وذهبت للنادي لكي أدلي بدلوي. الذي حصل كان ملفتا للانتباه، فأنا كنت الوحيد الذي يحمل وجهة نظر مخالفة، وصار الجميع يردّ على النقاط التي طرحتها، ولأنّ لي حق الردّ، وأنا لا أتسامح بحقوقي، فقد علّقت على ردودهم، وهذا من الممكن تفهّمه، لكن الذي لا يمكن إحسان النية حوله، هو أن مدير الحوار حمل عليّ، وأبدى تحيّزًا واضحا.
في النهاية اكتشفت أنّ مدير الحوار شخص مدعٍ، وهو بالفعل لا يملك من الثقافة شيئا يذكر، وأن كثيرا من المناقشين لم يقرؤوا الكتاب أصلا، وأنّ الطريقة التي تختار بها الكتب، هي طريقة منهجية، تقف وراءها خيارات تدعم الفكر الأمريكي السائد، إن جاز أن نسميه فكرا.
ولأنني أمضيت جزءًا غير بسيط من حياتي داخل المنظمات المموّلة أجنبيّا، وأعلم أنّه ثمة مِنَح تصرف للأشخاص، وتأتي على دفعات لكي لا تثير الشبهة أمام أجهزة الرقابة للدولة، وأنّ كلّ ما يهمّ القائمين على كثير من المبادرات _التي تبدو مجانية_ هو شروط المموّل، وأنّ شروط مموّل كجوروج سوروس مثلا، متعلقة بترويج “مبادئ المجتمع المفتوح”، فأنا أسأت الظنّ حول تلك المبادرة.
بالمقابل، فإنني مرّة رأيت نقاشا لفيلم صهيونيّ، يقدّم على أنّه فلسطينيّ، في نادٍ داخل جامعة أردنية، فتواصلت معهم بصورة ودّية، وطلبت منهم أن يفتحوا المجال للنقاش، وأن يقرؤوا مداخلة منّي حول الفيلم، ولمّا لم ينفذّوا هذا لأسباب تقنية محضة، فقد طلبت منهم أن أجتمع مع النادي لأوضّح الخلل في هذا الفيلم، وفي اختياره، وقد سمحوا مشكورين لي بذلك، واكتسبت صداقات عديدة ورائعة بسبب تلك الزيارة.
أي أنّ الأمر قد يحدث بسوء نية، وقد يحدث بحسن نيّة، وهذا ثابت لي من خلال تجاربي الكثيرة، والتي من ضمنها تأسيس نوادٍ لنقاش الكتب والأفلام سابقا.
الآن، كيف نتعامل مع هذا؟
لو قفزت في هذه أو تلك، إلى مهاجمة القائمين على النادي فورا دون محاولة إقامة نقاش متحضّر معهم، فإنني سأنفّر الناس من طرحي، وسأكون أقيس الناس بمسطرتي الخاصة، وأحاكمهم ضمن شروط أعرف أنهم لا يلبّونها، وهذا في الحقيقة ضرب من التصيّد، أحاول فيه أن أثبت أنني “النقيّ” الوحيد في هذا الزمن.
وبعد أن قدّمت ما عندي من طروحات فإنني أقيس ردود الفعل، عالما بأنّ الناس ليست على سويّة فكريّة واحدة، فإن ظهر لي سوء النيّة، فإنني لا أتصرّف بناءً عليه دون دليل، فإن وقع في يدي الدليل، تحدثت عن الأمر، آخذًا الاحتياطات القانونية اللازمة.
أعتقد أن المشكلة تقع أصلا في الآلية ذاتها، ففكرة نادي النقاش، بحد ذاتها، فكرة لا تحتمل الحوار الفكريّ الثقيل، وتقتصر على انطباعات الجمهور السطحية، إلّا إن كانت بين أهل تخصص ما، لا أقصد هنا، تخصصا كالهندسة، بل أن يقوم عدد من العاملين في قطاع السينما، أو المهتمين بها، بتأسيس نادٍ لنقاش الأفلام غير الشائعة، أو مجموعة من اليساريين تقرأ أدبيات الشيوعية وتناقشها، أو مجموعة من مناهضي التطبيع تشاهد السينما لتظهر الاختراقات الفكرية فيها.
إذا لم يتحقق في النادي أنه نقاش بين أهل اختصاص ما، فإنه لا يجاوز أن يكون أداة ترويجية لزيادة مبيعات هذا الكتب أو ذاك، أو لترويج فكرة ما بين الجماهير، أو إن كان أسس على حسن النوايا، فإنه سيكون مجرّد صدًى بائس لما يدور خارجه.
فهذه النوادي تقوم على فكرة تقسيم الجمهور إلى مهتمّ ذاتيّ، ومهتمّ اجتماعيّ، وغير مهتمّ أصلا، وهي تستهدف الصنفين الأخيرين، أمّا المهتمين بدافع ذاتي بالكتب والأفلام، فهؤلاء يضيقون ذرعا بسرعة من سطحية النقاشات عادة.