كثير من الناس يرى أن العقلانية بما فيها التراكم العلمي كانت النقيض للأساطير والخرافات وربما الأديان، لكنّ هل نستطيع أن نكون أكيدين من هذه الرؤية؟ لاسيّما بعد أن نعلم أن كليهما ناتج عن العقل البشري، سواء عمل بصورة فردية أو جمعية، في النهاية العقل البشري عمل بطريقة متشابهة في كل طور من أطواره، قد يختلف من طور إلى طور بصورة جذرية، لكنه داخل الطور نفسه يعمل بصور متشابهة إلى حد بعيد.
دعونا في البداية نصلّب الأرضية التي نقف عليها عند النظر للعقل البشري، وكيف تتشابه طريقة عمله داخل كل طور من أطواره…
نحن نتواصل معًا من خلال اللغة، واللغة تحتاج قدرًا من التواطئ الجمعيّ حتى تكون أداة تواصل فعال، فلا يمكن أن تتخيّل وأن تقرأ هذه السطور أنني أقصد بكلمة “تتخيل”، الواردة في هذه الجملة، أن تركب الخيل، وهذا لأن الكلمة مستخدمة عادة بالصورة التي تعرفها أنت من قبل، وهي أن تتصور أو أن تفكر في شيء غير موجود على الحقيقة، والسياق التي استُحضرتها به كان مناسبا لهذا المعنى لها.
ولأن القدماء، سواء أكانوا شعراء أم أنبياء أم فلاسفة أم غيرهم من أصحاب النصوص التي وصلتنا، كانوا في النهاية يخاطبون مجتمعا ما، فإن الكلمات التي استخدموها لابدّ وأن تعود للمعاني التي يفترضها مجتمعهم، مهما كانت الفكرة الكلية التي يعبرون عنها غريبة على المجتمع.
إذا أردنا إنتاج أساطير معاصرة، فإننا سنستخدم كل ما وصلنا حتى اليوم من أفكار، ولكي تفعل في مجتمعاتنا فعل الأساطير القديمة في مجتمعاتها، فلابد لها أن توافق أفكارًا موجودة في الأصل لدى المجتمع، سواء من جهة المفردات التي توافق معانيًا تواطأ مجتمعنا عليها، أو من جهة أنماط تركيب هذه المفردات في جمل، أو أنماط تركيب كل ما سبق في سرديات.
لهذا فإننا نستطيع استخدام مفردات عوالم قديمة داخل أساطيرنا، لكن لأن الزمن يتقدم للأمام دائما، فمن غير الطبيعي أن نتوقع من فيلسوف قديم أن يستخدم مفردات العصر الحاضر، وسنقفز فورا لفهم يتّسق مع كون هذا الفيلسوف عاش في زمن سابق.
مثلا، لنتخيّل أننا اكتشفنا نصّا إغريقيا قديما يقول: “يمنع على العبيد أن يستخدموا أجهزة الكمبيوتر أو شبكة الإنترنت”، أعرف أنه خيال جامح ولكن أتمنى أن تسايروني في هذه، فلو اكتشفنا فعلا نصا كهذا فلابدّ أنّنا سنبدأ بالتفكير بأسئلة من نوع: ماذا يقصد بأجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت؟ وما الذي يمكن أن يحمل هذه الأسماء في ذلك العصر؟ وكيف نشرح صدفة ذكر أجهزة الكمبيوتر شبكة الانترنت في السياق نفسه؟ نحن مضطرون إلى مثل هذه الأسئلة حتى ولو كنّا أمام أسطورة قديمة.
ما ينسحب على المفردات ينسحب أيضا على أنماط الأفكار وأنماط السرديات، أي إنه ينسحب على جوانب الفكر الإنسانيّ كلّها، ولذلك فحقّ لنا أن نقول: إنه ثمة مساحة تشابه بين العقول التي تعيش في إطار زمانيّ مكانيّ واحد، حتى ولو اختلفت هذه العقول كثيرا في منتجاتها.
الآن، لنسأل أنفسنا: هل الأفكار التي تحظى بتداول في إطارنا الزماني المكاني كلها أفكار بعيدة عن كونها خرافات؟ أعلم مسبقا أن جواب معظمنا سيكون: الخرافات حولنا أكثر مما تتخيل. وقد يقصدون بهذا شيئا مثل صعود الإنسان إلى القمر، أو كون صعود الإنسان إلى القمر مجرد كذبة، كلّ منّا سيقول عمّا لا يعتقد به: إنه خرافة.
لو وسّعنا صدورنا إلى الحدّ اللازم، سنستطيع أن نحدّد مجموعة من الأفكار الواقعية التي تقف وراء هذه السرديّات التي نصفها بـ”ـالخرافات”، وبطريقة أو بأخرى، فنحن نحاول أن نكتشف أمرًا أراد مطلق الأسطورة أن يعلّمه لمجتمعه بوساطة هذه الأسطورة.
مثلا نستطيع أن نتخيّل أنّ من أطلق الفكرة الخرافية الشائعة القاضية بكون الأرض مسطّحة، أراد أن يقول: إنّ بمقدور الإعلام أن يخدعنا. ورغم أنني أعتقد أن الأرض كروية إلا أنني لا أختلف كثيرا مع احتجاجه على هيمنة الإعلام علينا.
يبقى أن نقفز بخيالنا إلى الأزمان القديمة، ونقرأ الأساطير والخرافات التي اعتقدت بها هذه الشعوب بوصفها أداة للتعليم، ونحاول أن نتخرّص المعنى الكامن وراءها… هكذا لن تعود الخرافة في صراع مع العقلانية، بالطريقة التي نتخيّلها على الأقل.
الخرافات والأساطير أوسع قليلا من العقلانية، فهي تفعل في محيط زمانيّ مكانيّ أكبر من العقلانية. الخيال العلمي مثلا في ستينيّات القرن العشرين وهو ضرب من “الخرافة” استطاع أن يتقاطع كثيرا مع واقعنا اليوم في القرن الواحد والعشرين، والخرافات التي نتداولها اليوم حول “نظرية المؤامرة” تتقاطع مع واقع قرون سالفة. لكنّ العقلانية محدودة بحدود الممكنات المدركة الممكن تقديم أدلّة قائمة فاعلة حولها.
ليس ضربا من الجنون إذًا أن نعتقد أن الخرافات والأساطير كانت وما تزال تعمل جنبا إلى جنب مع التفكير العقلاني، لا كما يعتقد بعضنا بأن العقلانية قتلت الخرافة وقضت عليها، أو أنهما يقفان بالأصل على طرفيْ نقيض.
فإذا كان الأمر كذلك، وبالفعل كانت الخرافات والعقلانية يعيشان جنبا إلى جنب، مع هامش للاحتكاك والمناكفة بالطبع، فإنه من الواجب علينا أن نسأل: ما الداعي لوجود كليهما معا في كل إطار، وفي كل مجتمع؟
الجواب الأقرب إلى المنطقية لهذا السؤال، يمكن اختصاره بالتأكيد على أن المجتمعات المختلفة على مرّ العصور كانت تحتوي صراعا بين الأفكار العقلانية، يدور في أروقة “النخب” الفكرية لكل مجتمع، وكان هذا الصراع ينعكس بصورة أخرى على مجتمع العامّة، على شكل سرديّات يمكن وصفها بكونها “خرافة”.
هذا لا يعني أنّ مجتمع النخب كان عقلانيا مئة بالمئة، ولا يعني أن مجتمع العامّة كان ميّالا للخرافات مئة بالمئة، ولكننا تخيّلنا مكان بؤرة كل صراع منهما، من حيث التأثير لا المنشأ. فمن الممكن أن نجادل بكون منشأ العقلانية في الحقيقة هو حياة المجتمع الدنيوية، ومنشأ الخرافات هو خيال المبدعين من النخب.