فتاوى الموسيقا: الوهابية ليست منهجًا!

منذ نعومة إظفاري وأنا أشهد الجدالات حول حرمة الموسيقا، ومنذ أن امتلكت شيئا من المنظق والفقه وأنا أشترك في هذه الجدالات منحازا إلى الموسيقا، ومحاولا إقناع الطرف الآخر بأن الأدلة التي يسوقها محرّمو الموسيقا خاطئة، وهذا على المستوى الإنساني وعلى المستوى الفقهي الإسلامي.

المقالات والكتب التي كتبت في حليّة الموسيقا كثيرة، والكتب التي كتبت في حرمتها أكثر، وكان الجدال الدائر حولها مليئا بالحجج والمغالطات والتذرّع وبكلّ ما تمتلئ به الجدالات عندنا، وهذا لم يقنع أي واحد من أتباع رجال الدين حسبما رأيت، فالتابع لا يشغل عقله، ولا ينفعه دليل أو إبطال دليل مضادّ.

أستطيع أن أقول حسب تجربتي: إنني لم أشاهد من يغيّر رأيه حول حرمة الموسيقا على الإطلاق، إلا إن كان شخصا يحكّم العقل والحوار في الأصل. الناس التي تتبع شيخا محددا أو مدرسة فقهية بعينها لم تغيّر رأيها، ولم تتزحزح قيد أنملة عن تحريم الموسيقا.

الملفت مؤخرا أنه منذ أن قال حاكم السعودية الفعلي محمد بن سلمان أمام الإعلام: “إن عهد النبي محمد قد شهد اختلاطاً بين الرجال والنساء وكان هناك مسارح موسيقية”، شهدنا عددًا من فقهاء الوهابية يتحدّث عن كون الموسيقا حلالًا، كان أبرزهم قائد سابق في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعروفة بتشددها، ورفعت كثير من القيود في المملكة الوهابية عن الغناء والحفلات.

ليس شيئا صادمًا أن يغيّر شخص رأيه الفقهي في حكم شيء ما، ولا حتى أن تغيّر دولة أو مدرسة فقهية رأيها في حكم شرعي ما، الصادم حقيقة هو أن يحدث هذا دون جدل، وأن يكتفى بقناعة الأمير وحدها، ليغيّر قطاع كثير من الناس رأيهم في الموسيقا، وأن تكون الحجة دليلا ركيكا لا يجاوز كونه ادّعاء مطلقا على عواهنه، كالقول أن المسارح الموسيقية انتشرت في عهد الرسول!

المنتصرون لهذا القول سيبدأون بإعادة تعريف المسرح، والمسرح الموسيقي، ليجعلوا من رقص الجواري وضرب القيان للآلات مسرحا موسيقيا، وهذا كله من أجل أن يكون كلام أميرهم صحيحا. وتحرير المصطلحات في الحقيقة واجب قبل أي جدال، لكنه الآن يحدث بعد حسم الجدال لتبرير قول قاله الأمير، وهنا تكمن المشكلة.

أتساءل هنا: هل كنّا نجادل بشرا عاقلين من قبل؟ كنا إن طالبناهم بتحرير مصطلح مثل “لهو الحديث” أو المعازف أو حتى توضيح متى يكون حكم فعل ما حراما أو حلالا، وُوجهنا بردود سخيفة جدّا، لا تحمل غير أحكام قاطعة ليست تستند إلى منطق أو دليل حقيقي واحد.

فرح كثير ممن يدعون بالتنويريين بالتطورات الأخيرة في السعودية، وبدأ عدد من الكتاب يهللون للعهد الجديد في السعودية، وكيف أن التنوير والتحديث ينتصران على الظلامية. في الحقيقة إن هذا التهليل لا يختلف عن تهليل الأشخاص نفسهم لأدوات المشروع الوهابي ضدّ الدول الوطنية في المنطقة، حين بشّروا الناس بديموقراطية ستأتي عن طريق جبهة النصرة وداعش وغيرها، وهو له دافع وحيد، للأسف، ليس غير الارتزاق.

يجب أن نكون واضحين في أن هذه التطورات ليست تحسّنا بأي شكل من الأشكال، فالعبرة ليست بالقرار وحده، وإنما بطريقة اتخاذه، فنحن لم نرَ جدالا حضاريا يحسم بالدليل، ولا حتى بالتصويت، وإنما رأينا التبعية وهي تتحكم، التبعية العمياء للحاكم، والتبعية العمياء لرجال الدين، وتبعية كليهما للدول الغربية، ولهذا فليس ثمة ما يدعو للفرح أبدًا.

إن ما حدث مدعاة للحزن الشديد على طائفة من أبناء قومنا وهم يساقون كالبهائم حيث يرى صاحب النفوذ، ومدعاة للسخرية بالتأكيد، ومدعاة للخوف من القادم، الذي يعدنا بتطبيع غير مسبوق مع عدو الأمة، ويعدنا بمزيد من الشرعية للتيار الإخوانيّ، فهو سيكسب مزيدا من الأتباع الذين لم يعجبهم التطوير الجديد لـ”ـمنظومة الأفكار” الوهابية.