تقول القصة الشعبية: إن رجلا كانت له أمّ صعبة المراس، فكان كلّما تزوّج امرأة وجاء بها إلى بيته الذي تعيش فيه أمّه معه، قالت لها الأم عن قواعد استهلاك الخبز: “صحيح لا تقسمي، ومقسوم لا تاكلي وكلي حتى تشبعي!”، أي أنك لا تستطيعين كسر رغيف الخبر، ولا تستطيعين أكل أقسام الرغيف إذا توفرت، ومع هذا تستطيعين الأكل، فكانت الزوجات يهربن من منزله، لأنهن خفن من الموت جوعا، ولم تبق إلا بدوية ماكرة، استطاعت تلبية الشروط كلها، بأن تقسم الخبز على هيئة حلقات، فهي لا تكسر دائرة الرغيف.
وبغضّ النظر عن مصير الأمّ المؤلم عندما هزمتها البدوية بدهائها، فهذه القصة تقفز إلى ذاكرتنا بعد أن سمحت وزارة التربية والتعليم الأردنية أخيرا بتدريس مادة الأحياء لطلبة برنامج البكالوريا الدولية، بشرط عجيب، وهو ألا تدرّس نظرية التطوّر كاملة، فيستبعد منها “تطوّر الإنسان”، وهذا يعني بالتأكيد عدم تدريس النظرية من الأصل، فلا أحد يستطيع تدريس التطوّر بصورة انتقائية، تأخذ هذا وتترك ذاك، فكأن وزارة التربية والتعليم هي تلك الحماة اللئيمة المذكورة في القصة.
دعونا نتذكر هنا أننا في العام 2017 للميلاد حسب التقويم الغريغوري، أي أننا في زمن تسيطر عليه المخاوف من الذكاء الاصطناعي الذي تفوق على البشر في سرعة التعلّم، تبدو أمامه روايات الخيال العلمي الكلاسيكية وكأنها نكات سمجة، بعد أن بدأ استكشاف سطح المرّيخ، واكتشفت كواكب قابلة لنشأة الحياة عليها، ودخلت الشبكة المعلوماتية إلى كل بيت تقريبا، بل وإلى جيب نصف سكان الكرة الأرضية، واستطاع الإنسان إجراء أدق العمليات الجراحية بوساطة روبوتات بالغة الصغر. نحن في عصر الجيوش الهجينة والتعديلات الجينية على الإنسان والحيوان. نحن في عصر اختفاء البذور التقليدية لصالح البذور المعدلة جينيا التي تحتكرها شركات خاصة، ستهدد حياتنا عمّا قريب.
توفّي العالم تشارلز داروين منذ 135 سنة، وتوفّي مندل منذ 133 سنة، ولم يعرف أحدهما عن الآخر، ومنذ ذلك الوقت تمّ تداول نظرياتهما في كل جامعة على وجه البسيطة، وأجريت عنها أبحاث أكثر عددا من الكتب التي قرأها موظفو وزارة التربية والتعليم الأردنية مجتمعين، وتعرضت نظرية التطور لتحديثات وتنقيحات وشروح وإضافات لا قبل لمؤلف ببسطها مفصّلة في كتاب، وما تزال “نظرية التطوّر” أكثر النظريات العلمية موثوقية في التاريخ العلمي.
وصلني منع تدريس مادة الأحياء في برنامج البكلوريا الدولية مع وصوله للمدارس، ولم يكن القرار مشفوعا بأي تبرير، ولم يأت على ذكر نظرية التطوّر، لكن حارتنا الضيقة جدّا، وطول إقامتي فيها، جعلا من السهل عليّ أن أحزر السبب، فكتبت مقالة مساء ذلك اليوم، تجدونها هنا على مدونتي بعنوان: “نظرية التطور| مقالة ميسرة” تستطيعون الضغط على العنوان لتظهر لكم المقالة كاملة، لكنني تمنّيت ألّا يكون ظنّي صحيحا، فلم أصرّح بأسباب كتابتها، وتركت وزارة التربية تستفيد من فسحة الشك.
كيف سيدرس الطلبة مبحث الأحياء دون مفهوم التطور! كيف سيتعرفون على سبب وجود الزائدة الدودية، ولماذا يمتلك الذكور حلمات في صدورهم دون أثداء؟ كيف سيتعرفون على مفهوم التكيّف؟ كيف سيتناولون موضوع التوّع الحيوي؟ ماذا سيقال لهم عن مندل؟ ألن يطبقوا قانون مندل على ألوان عيونهم بين أهلهم! ماذا سيقع في نفوسهم عندما يخبرهم أستاذ الأحياء أن المادة الوراثية التي شكّلت ملامحهم، هي ذاتها التي تمتلكها البكتيريا، لكن البكتيريا وسائر الحيوانات تطوّرت، بينما الإنسان وحده نزل من جنة في السماء؟
كيف سيرى الطلبة قدرة الله في خلقه، وهو يخلق كائنا جديدا اسمه الإنسان، لكن خلقه الجديد هذا جاء على منوال الكائنات التي تطوّرت تطوّرا؟ فهو استخدم المادة الوراثية نفسها، وتقاطعت الجينات التي تشكّلها هذه المادّة مع جينات كائن مثل الفأر بنسبة 97.5%، أي أن الكائن الجديد يختلف عن الفأر بنسبة 2.5%، ماهي كميّة الحفظ والتلقين التي تجعل معلومات كهذه تتجاور في عقل طالب دون أن يفكّر بالإلحاد!
لماذا يصرّ المسؤولون عن التعليم وضع الدين في مواجهة العلم؟ هل عرفوا فكرة ناقضت المنهج العلمي وصمدت؟ ولماذا هذه المواربة في “منع تدريس تطوّر الإنسان” وحده؟ تحلّوا بالشجاعة ودرّسوا الطلبة رواية الأديان الإبراهيمية لخلق حيوانات مثل القط والخنزير على سفينة نوح، أخبروهم بأن الأسد عطس فخلق قطّا، والفيل تغوّط فخلق خنزيرا! وأدرجوا هذا في منهج الأحياء! ولتمنعوا كتب الجاحظ والبيروني وإخوان الصفا! وتصرفوا سريعا مع قصة ابن طفيل عن حيّ بن يقظان! أحرقوها هي وغيرها من التراث البشري، وليكن هذا في حفل مهيب توقدون فيه نارا كبيرة تلتهم كل ما لا يناسب “فلسفة” الوزارة!
ثم لماذا تسمونها “فلسفة التربية والتعليم”؟ أليست الفلسفة هرطقة! والمنطق زندقة! أعلنوها حربا على كل ما لا يتفق مع “دين” التربية والتعليم الذي تسمونه فلسفة! ألا تخافون أن ينظر الطلبة في كلامكم وكلام داعش فلا يجدون فرقا سوى أن الدواعش أكثر جرأة في قول ما تزعمون أنه “الحق”!
ثمة سبيل واحدة لتدريس مادة الأحياء مع حذف مفهوم تطوّر الإنسان، وهي أن تحوّل مادة الأحياء إلى أجزاء غير متصلة، يحفظها الطالب حفظا ولا يفهم منها شيئا. لكن إذا بقي هذا خياركم التعليمي، فلا تصرفوا قرشا أحمر على البحث العلمي، ويا حبّذا لو أغلقتم المدارس والجامعات، وأنشأتم “مراكز تحفيظ الأشياء”، يحفظ فيها الطالب شكل الحروف، وجدول الضرب، وتاريخ الأردن الحديث، وقياسات المدافع المتوفرة لدى الجيش، وكثيرا من أغاني التسحيج، فهذا هو كل ما يحتاجه ليعيش في الوطن الذي تريدون!
في الحقيقة نظرية التطوّر لا تتعارض مع الدين الإسلامي على الإطلاق، وقد بينت هذا في المقال الذي أعطيتكم رابطه، لكنها كما كل ما نسمّيه علما تتعارض مع الحجر على الآراء المخالفة، والتلقين، والمنهج الارتجالي الخرافي الذي تديرون به المؤسسة التعليمية، وتتعارض مع طروحات ابن تيمية، والإسرائيليات، والوهابية، وكل ما هو مرتبط بالحلف الذي تختار بلدنا أن تنضمّ له.
نعم التطوّر خرافة، والدليل أننا ما نزال على قيد الحياة!
وكما قال صلاح جاهين: عجبي!