كلّنا الخرابشة! | عن ورطة الأنثى بيننا!

 

في حلقة للقناة الألمانية الناطقة بالعربية دوتشه فيله من برنامج شباب توك _والحلقة في أسفل المقال_، احتدّ النائب الأردني السابق الدكتور محمود الخرابشة بسبب ذكر أن الأردن فيه تمييز بين الأنثى والذكر لصالح الذكور، وشكك في هوية مواطنة صرحت بأنها تعرضت للتحرش، لأن الأردنيات حسب تعبيره لا يظهرن في الإذاعات، وطلب من أحد أبناء الأردنيات مغادرة بلده الأردن ليعود إلى مصر، لأنه حسب تعبيره “مش مجبور فيه”.

دعنا من أن المدافعين عن التفسير الجائر للدستور الأردني في الحلقة _وهم يمثلون رأي الدولة الأردنية كموظفين رسميين حاليين أو سابقين_ لم يغادروا نقطة وحيدة صاغوها بعدّة طرق، وهي أن “هذا هو القانون الذي صيغ بطريقة تحترم خصوصية الأردن وعلينا احترامه”، عبروا عنها مرة بالصراخ ومرة بالتشنج ومرة بالتهديد ومرة بالمطالبة بحق الردّ، ومرة بالتظلم … إلخ، ولننتبه إلى أنهم أضافوا إلى ذلك الاستشهاد بالدين والعادات الأردنية.

لم يقتنع الدكتور الخرابشة أن الفتاة الأردنية يمكن أن يتحرش بها أحد، عازيا ذلك إلى أنها يمكنها أن تلجأ إلى أي رجل وسيحميها، وعرّض بأن التمييز ضد الأنثى والجرائم المرتكبة بحقها جاءت بسبب اللاجئين في السنوات القريبة الماضية، لكنه شكك بهوية فتاة وبأخلاقها لأنها تحدثت بحديث لا يعجبه، ويبدو أنه لا يرى أن ما قاله يقع في باب التحرش، لأنه تعرض لسمعة الفتاة، لمجرد أنها لم توافق هواه فيما تقوله، لاسيما عندما ذكرت أن شرطيا “تغزل فيها” عندما ذهبت للمخفر، وهي عندما ذكرت ذلك كانت تلطف حقيقة أن الشرطي نفسه قد تحرش بها.

الحقيقة التي نعرفها نحن الرجال الأردنيون هي أن الأنثى في بلادنا قد تكون أقوى من الرجل في حالة واحدة، هي أن تكون غير مكترثة بالسمعة، إما لأنها بالفعل لا تملك شيئا تخسره وهو النموذج الغالب على أذهان الأردنيين، أو لأنها حرة مستقلة نشأت في بيئة داعمة ومستعدة لأن تقاتل دون كرامتها. أما سوى ذلك فالأنثى ضعيفة مهدورة الحق، تلقى تحرشا واضحا تحت باب التظارف والنغاشة والغزل و”التميلح”… إلخ، وأقصى ما يمكنها فعله عادةً هو “تطنيش” المتحرش، أي تجاهله.

أريد أن أفضح كأردنيّ ما تلقّيته من تصور مريض عن الأنثى في بيئتي الشعبية، التي حجبتني عن الاحتكاك بالإناث بمجرد بلوغي، مع التنويه إلى أن هذا التصور زال مبكرا بسبب المراكز الشبابية التي أتاحت لي التفاعل مع صديقاتي اللاتي ما زلت أحب الأثر الذي تركنه فيّ، وهاكم بعض النقاط التي توضّح ما نقل إليّ بالعدوى من بيئة الأحياء الشعبية:

  • اسم الأم أو الأخت كان سرّا يجب ألا يفتضح.
  • الأنثى كانت بعيدة لا تذكر إلا مرتبطة بالجنس، فهي لم تكن إنسانا حقيقيا بالنسبة لنا.
  • إذا حدث تحرش فالملام هو الذكر المسؤول عن هذه الفتاة الذي عجز عن حمايتها بـ”ضبّها” أي منعها من الاحتكاك بالذكور.
  • القول المشهور “يتمنّعن وهن راغبات”.
  • أي تواصل بين الذكر والأنثى فهو من أجل الجنس أو متعلقاته.
  • الأنثى عورة.
  • الأنثى بنصف عقل ونصف دين.
  • عملية التقرب من الأنثى من خلال التحرش اللفظي أو الجسدي هي الطريقة الطبيعية للتعارف، وبعد رؤية ردّة فعلها يمكن الاستمرار أو التوقف.
  • سكوت الأنثى عن التحرش هو موافقة عليه.
  • إذا اعترض شاب على التحرش بفتاة فيجب أن تكون الأنثى “تخصّه” إما لأنها تمت له بقرابة أو لأنه يقيم معها علاقة.
  • الشاب مسؤول عن كل تصرفات نساء عائلته.
  • “لا تدخل امرأة النار إلا ودخل معها زوجها وأبوها وأخوها وابنها” حسب القول المأثور.
  • إذا أراد رجل مسنّ أو إحدى الأمهات أو واعظ أو غيرهم الحد من تحرش شاب بفتاة يسألونه مستنكرين “أليس لديك أخوات بنات؟!”، بمعنى أن عليه التزام الأدب لكي لا يجد عاقبة فعله في أخته، أي أن للشاب الوقح ضحيتين من النساء، تلك التي تحرش بها، وأخته التي سيعاقبه الله من خلالها.
  • “اللي ما بيخاف من الله خاف منه” أي أن الشخص الذي يرتكب الفعل المشين جدير بأن يهاب وأن يخشى، ولذلك فالحديث عن النخوة كان مجرد حديث أسطوري، في الحقيقة كانت بيئتنا تعلمنا أن نترك من يتحرش بفتاة أو يضرب طفلا أو شيخا لأنه مخيف وغير طبيعي.
  • العذرية يمكن الكشف عنها عند الطبيب، وهنا أنوه لكون هذه أسطورة طبية معروف خطؤها منذ قرن.
  • الشاب إن مارس الجنس خارج إطار الزوجية فله أن يتوب، والله أمره بالستر، أما الفتاة فهي تكون قد تلوّثت إلى الأبد.
  • الشاب يجب أن يحافظ على عرضه بقتل أخته إذا “تلوّثت”.
  • شرف الشاب بين رجلي أخته!
  • إذا أراد شاب أن يهين زميلا له، قفز فورا إلى الجنس، إما بحق نساء عائلته، أو بحقه هو شخصيا، بطريقة تجعل منه “أنثى”.
  • نساء العائلة قوارير يجب المحافظة عليهن والتلطف معهن لأنهن كائنات هشة.

بصراحة تعبت وأنا لم أبح بنصف ما عندي، لأن هذه التصورات بالفعل مريضة، وهي تدفع الشاب دفعا إلى التحرش وإلى السكوت عنه، وتدفع الفتاة إلى قبوله أيضا. وهذا الواقع غير السار يزيد برغبتنا بالتخلص منه، سواء أكنّا رجعيين أم تقدّميين، فالرجعي إذا قام بعملية جمع منطقية لكل ما سبق، فهو يعلم تمام العلم أن رغبته بالمحافظة على نساء عائلته لن تتحقق في جو يعاني من هذه الأمراض، والتقدّميّ يعلم أن هذا التصور غير علمي وأن نتائجه غير إنسانية وليست مما تنادي به قيمه المستمدّة من الأخلاق أو الدين أو أي عقد اجتماعيّ.

التقدّمي، يزهّده في خوض المعركة من أجل تغيير هذا الواقع ما يعلم أنه سيلاقيه من اتهامات بالدياثة والكفر والانفصال عن المجتمع والتعالي عليه.

الرجعيّ، ليس أمامه إلا الإنكار، ببساطة يسلك السلوك البدائي الذي يجعلنا نغمض أعيننا عندما نرى منظرا لا نحبّه، وكأن عدم الرؤية يعني عدم الوجود! وهذا بالضبط ما تفعله الدولة أو ما فعله من يمثلون توجهها في الحلقة المذكورة بكونهم من النخبة السياسية الحاكمة في وقت من الأوقات.

الطرح التقدّمي ليس طرحا واحدا في الحقيقة، فهناك طروحات مستمدّة من التقليد الأعمى للغرب، تضع عقبات غريبة أمام خطتها لمواجهة التمييز ضد الأنثى، وعليّ بيان ذلك في نقاط سريعة:

  • يؤكد المتغربون على التصور الداعشي للدين الإسلامي، فيخلطون دعوى التطوير بدعوى محاربة الدين ذاته، مما يخلق ممانعة مجتمعية هم في غنى عنها، فالدين باعتبار النصوص التي يتكئ عليها، يمكن إعادة قراءته آلاف القراءات الممكنة، تمكّن من الانتقال الناعم في درب التطور المجتمعي.
  • يربط دعاة المدنية بين الثقافة الداعشية المنتشرة في المدن والمخيمات والقرى وبين البداوة، وفي الحقيقة فالبيئة البدوية أكثر تحررا مما يعتقدون، وقد كان البدوي ينتخي بذكر اسم اخته أو زوجته، وينفذ رأيها، ويقاتل دون الذي تجيره.
  • أحيانا يعالج دعاة الانتصار للمرأة في اللغة المسألة علاجا غريبا، فيبنون على الخطأ القاضي بعدّ التاء المربوطة تاءً للتأنيث كما عدّها بعض علماء العربية في العصور الإسلاميّة، والحقيقة أنها تاء للتمييز، تلحق ما يحتاج تمييزا، إما بسبب شذوذه أو ندرته أو المبالغة فيه، ولذلك فالأصل هو الخطاب الذي يسمى اليوم “مذكرا” وهو ينسحب على الجميع، وقد أخطأ بعض القدماء في ربطها بالتأنيث، وذلك أنهم امتلكوا نظرة داعشية للمرأة من الأصل.
  • ينظر كثير من دعاة الانتصار للمرأة إلى قضايا المجتمع بالتجزئة، ما يجعلهم يقرّون الانخراط في برامج مشبوهة سياسيا بدعوى ظاهرها صالح، وباطنها يملؤ الأرض فسادا، فالخطأ إذا أضيف إلى خطأ لا يصنعان صوابا!
  • تختلط على كثير منهم الدعوة إلى معالجة الأمور بنظرة جذرية، بالدعوات القصووية التي لا تفهم من الجذرية غير التطرف في الرأي، مما يجعلهم متشنجين يرون غيرهم متشنجين أيضا!
  • يقبل كثير من دعاة التحديث والتنوير في صفوفهم شخصيات معروفة بتطبيعها وعدائها لمصالح مجتمعها.

كل ما سبق من شأنه أن يضيع كثيرا من الجهود الجادة، ويصرف كثيرا من المحافظين عن الانتباه إلى التناقضات التي يقعون فيها، وهي من شأنها أن تجعلهم ينادون بتغيير واقعهم الذي لا يريدون مواجهته. فلكي نساعد مجتمعنا على أن يتطوّر إلى الأفضل، ويتكيّف مع حقائق واقعه الاقتصادية والسياسية والآيدولوجية، لابدّ أن نقف في صفّه، وألاّ نعاديه.

في النهاية الإنسان هو ابن بيئته، ولا نستطيع المضيّ في إلقاء اللوم على الضحية الذكر، لكونه بذاته مجرما في حق الأنثى، فأمّهاتنا كنّ مجرمات في حقّهنّ وحقّ بناتهن، ومعلماتنا أجرمن في حقّ طالباتهنّ، أي أننا أمام قسمة خاطئة تقسم المجتمع إلى ذكر وأنثى عند معالجة الأمر، والأصل أن نتصدّى للظلم كله، وأن نرى الأنثى والذكر أفرادا في مجتمع، يقعون ضحية تكلّس الثقافة المجتمعية، وأن نرى أسباب هذا التكلّس والتقوقع بصورة موضوعية، لا تلقي اللوم على طرف واحد.

لا أدعو لتبرئة أحد، ولا لإدانة أحد، ولكني سردت بعضا من الوقائع التي تلزم للتفكير في حلّ هذه التناقضات، فالنخوة التي نتغنى بها غابت قبل أن يحل محلها عقلانية حيّة تنصف الفرد من الجماعة، وتنصف الجماعة من تعدّي بعض الأفراد على حقوق غيرهم فيها.

الحلقة المذكورة: