الأكاديميا المجتمعية

التصوّر الشائع، لاسيّما في مجتمعات عالم-ثالثية كمجتمعنا، يقول: إنّ الأكاديميا لا تكون أكاديميا رصينة حقيقية، إلّا عندما تكون منفصلة عن المجتمع. ولذلك فقد حرص المشرّع التربوي على ألّا تفتح المدارس أبوابَها إلّا لأشخاص مصرّح لهم بالاحتكاك بالطلبة، وهم معلّمو المدرسة، وإداريّوها، وموظفو وزارة التربية من موجّهين ومشرفين. وهذا يسهُل تبريره في ظلّ الجهل المتفشّي والأفكار المتطرّفة التي تموج في المجتمع.

الأمر مشابه في الجامعات، فلا تفتح الجامعة أبوابها للأحزاب السياسية، حتى بعد كل التصريحات السياسية التي تعقد آمالها على انخراط الشباب في السياسة، ويفصل الطلبة المسيّسون من الجامعات، ويعانون من تكميم الأفواه. أمّا البرامج الأجنبية فتصول وتجول دون حسيب أو رقيب.

ما أقوله ليس مبنيّا على قراءة ما ينتشر في الإعلام، مع أنّه يمكن الوصول لقناعة مشابهة من مجرّد القراءة، لكنّه مبنيّ على التجربة، فقد رأيت خلال أسبوع واحد من حياتي الطلابيّة العمليّة (وقد كنت أعمل ولمّا أزل طالبًا)، كيف ترحّب بيَ الجامعة كمدرّب ومحاضر ومدير جلسات حواريّة، تحت برنامج مرتبط بجمعيات وهيئات مرتبطة بالمموّل الأجنبيّ، وكيف أُمنع حتى من دخول حرم الجامعة، أو أعاقب كطالب فيها، إثر نيّة إقامة نشاط له طابع سياسيّ وطنيّ، مرتبط بقضية مجتمعيّة.

تفسير هذه المشاهدات تفسيرًا سياسيًّا محضًا هو تفسير مضلّل كما أدّعي، فالقضية لها تبريرها الأكاديميّ، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالمدرسة، فالطالب وأهله ومعلّمه يظنّون أن الدراسة هي أمر منفصل عن الحياة الواقعية، هذا نلمسه في جملة شائعة بين أهلنا ومعلمينا: “اهتمّ بدروسك، بدلا من كذا وكذا” وتستطيع استبدال أي قضية مجتمعية مكان “كذا” هنا. الاهتمام بالدروس كما تفهمه الأكاديميات العربيّة يعني الابتعاد عن قضايا المجتمع لاسيّما الراهنة منها.

الطالب كغيره من أعضاء المجتمع مهتمٌّ بما يجري حوله. يتداول طلاب الحيّ في أحاديثهم ما يحدث حولهم، ويتلهّفون على الفُرَص، وسهوات المعلّم عنهم، ليتحدّثوا في هذه الشؤون، هذه حقيقة نعرفها جميعا، لأننا شهدناها بأمّ أعيننا عندما كنّا طلبةً.

فإذا أضفنا ما سبق إلى كون المعلمين لا يحسنون إيضاح الأهمّية العمليّة لما يعلّمون الطالب، فالطالب لابدّ أنه سيفقد الاهتمام (غير الموجود أصلاً) تجاه المنهاج، لصالح الاهتمام بما يدور في بيئته، سواء أكان حدثا خاصّا بحيّه، أم حربًا تدور في بلد مجاور.

لامبالاة الطلبة، التي يشكو منها الجميع، لها حلّ “سهلٌ” إذًا! وهو أن ترتبط المناهج بواقع الطلبة وبيئتهم، ولكن هذا دونه ما دونه من صعوبات، فالمعلّم في ثقافتنا يجب أن يدليَ بمعلومات أكيدة، والأهل سيأخذون ما يقوله المعلّم كتشكيل لأبنائهم، وبالآتي فهم سيعدّون التعليم المرتبط بالبيئة تدخّلا في حياة الطالب، والوزارة تريد أن ترى الكتب المدرسيّة وهي تنزل في عقل الطالب، وأقلّ ما تنتبه له هو تحقيق نتاجات المناهج التي وراء هذه الكتب، والمعلّمون غير مؤهلين لإعداد موادّ مشتقّة من بيئتهم وبيئة الطلبة، وكثير من المعلمين ليسوا قريبين من بيئة طلبتهم أيضا، وإذا وجد المعلم المؤهّل المطّلع والإدارة المتفهّمة لفكرة التعليم المرتبط بالبيئة، فإن الصعوبة تأتي من كون ما يتقاضاه المعلّم أقلّ من أن يستحقّ بذلَ جهدٍ إضافيّ فيه، هذا إن سلّمنا بتوفّر الوقت لديه، وأنّه لا يشغل وظيفتين.

حتى في المجتمعات الأكثر انفتاحا، تتدخّل الاختبارات المدرسة المعياريّة الموحّدة دون تحقيق التعليم المرتبط بالبيئة، ويصعّب الأمرَ أيضا وجودُ تصوّر عامّ يربط الثقافة بالعرق، فيطلب أستاذ يدرّس طلبة ذوي بشرة سوداء، منهاجًا من معلّم آخر في منطقة أخرى، ليدرّسه لطلبته لأنهم سود البشرة، وكأنّ مكوّن البيئة الوحيد هو اللون، أو النوع الاجتماعي.

البيئة التي أقصدها تشكّلها عوامل كثيرة، منها ما هو متعلّق بالطبقة، ومنها ما هو متعلّق بالدين، ومنها ما هو متعلّق بالفئة العمريّة… إلخ، أي أن كل مدرسة أو مجموعة صفوف داخل المدرسة ذاتها لها بيئة مستقلّة، ويمكن فهم ذلك بترك الطلبة يتحدّثون فيما بينهم بحريّة، لفهم بيئتهم الخاصة بهم.

وإذا كان صعبا أن يقوم كلّ معلّم بفهم بيئة الصفوف التي يدرّسها، فهو يستطيع الركون إلى الأحداث التي تكون عامّة في بيئة المدرسة أو الحيّ أو المدينة أو الوطن.

لنتخيّل الطلبة في مدرسة يقرؤون مقالة عن قضية الساعة في بيئتهم، وثمة كمّ هائل من المقالات المتوفّرة عن الشأن ذاته في الصحيفة اليومية، ألن يكون انتباههم وانخراطهم فيما يتعلّمونه آخر همّ المعلّم حينها! فهو شيء مضمون لا يحتاج جهدا. أو لنتخيّل طالبا يجمع النباتات الشائعة في منطقته ليصنّفها، ويعرفَ أصولها، وطرق استغلالها، والعناصر الموجودة فيها. لا أريد أن أستطرد في الأمثلة فهي مجرّد أمثلة.

هذه الطريقة في التعليم ليست صعبة كما يبدو، كلّ ما على المعلّم فعله أن يترك للطالب أن يتساءل، ويحاول أن يرشد الطالب إلى مكان الجواب ليلتقطه بنفسه، ويدير حوارا حضاريا بين الطلبة ليتناقشوا حول الأجوبة المختلفة التي حصلوا عليها، ويستدخل النتاجات المطلوبة لذلك الصف في هذا الموضوع.

إنّ هرم ماسلو للحاجات الإنسانية يكاد يكون أكثر مفهوم راسخ في العلوم الإنسانية، وكلّنا يحبّ أن يصل هو وأبناؤه وطلابه إلى قمة ذاك الهرم، حيث يقع “تحقيق الذات”، ولهذا نذهب للمدارس أصلا، ولهذا نحرص على التعليم، لكننا لأسف نُغفِل أنّ الوصول لقمّة الهرم غيرُ ممكن قبل بلوغ الدرجة التي تحتها، حيث يقع “احترام الذات”، واحترام الذات لصيق بمعرفتها وفهمها، وفهم البيئة التي تعيش فيها، وتتفاعل معها.

لهذا فإنّ الأكاديميا الرصينة لا تتحقق دون الحضور المجتمعيّ الفعّال، كما أن الحضور المجتمعيّ الفعّال غير ممكن دون الرصانة الأكاديمية، والتحقّق من مصادر المعلومات، والحرصِ على معالجتها بموضوعية، والتزام قواعد البحث العلميّ، فسوى ذلك يكون استدخال البيئة إلى المدرسة فتحًا لباب تدخل منه الخرافات الشعبية، والأهواء الشخصية، إلى عقل الطلبة.

من له باع في التعليم، إذا بلغ لهذا السطر من هذا المقال، فهو يتوقّع أن أذكر (النقل)، أي قدرة الطالب على توظيف المعرفة والمفاهيم في حقل آخر غير الحقل الذي تعرّف عليها فيه، ولكنّي لن أشرح علاقة هذا بالتعليم المرتبط بالبيئة (الأكاديميا المجتمعية)، لأنني أزعم أن الصلة أوضح من أن توضّح.

إنّ الأكاديميا المجتمعية هي الباب لعلاج أمراض التدريس، وهي أيضا الباب لعلاج أمراض المجتمع، وهي تنتج طالبا متصلا ببيئته، فاهما لها، محترما لثقافته، قريبا من نفسه، منفتحا على الأفكار الجديدة، دائم التساؤل والبحث، غير متردّد بالمجازفة، معبّرا عن ذاته، قادرا على نقل المعرفة بين الحقول المختلفة، قادرا على النقاش، يحترم الآراء المختلفة، يحسن التفريق بين الحقائق والآراء والمشاعر، متعاطفا مع غيره، ومتبنيّا للقضايا التي تؤثر فيه، مؤثّرا في بيئته.

والأكاديميا المجتمعية تنتج معلّما متجدّدا، لا يشعر بالملل في مهنته، يشعر أنّه يحدث فرقا، قريبا من الطلبة إلى حدّ مذهل، هو أقرب للمثقف المشتبك منه إلى المدرّس. وهي تؤثّر في بيئة الطالب المنزليّة والمناطقيّة فتجعلها بيئة صديقة للتعلّم والعلم، لا تقف على النقيض من كل تطوير، ولا تشعر بالغربة من المفاهيم التي تستدخل على يد المختصّين الرصينين أكاديميا.

هل يحتاج الأمر إلى كتابة توصيات! أم أنّه بلغ من الوضوح ما لم تبلغه فكرة تخصّ التعليم من قبل! انظروا في هرم ماسلو، وقوموا بإجراء اللازم! أمّا عن الموانع التي ذكرتها في أوّل المقال، من شيوع التطرّف وسواه من تبريرات لفصل البيئة المدرسيّة عن المجتمع، فإنّني أحتار في تصنيف الخبر الذي أنقله لكم، هل هو سارّ أم محزن؟ فالحقيقة هي أنّ المحاذير، التي يبرّر تجنّبُها لنا فصلَ المدرسة عن بيئتها، واقعة وحاضرة والحذر من وقوعها هو مجرّد حالة إنكار له فقط.