أغلقوا المدارس!

إذا استثنينا أن المدارس تحتفظ بالأطفال حتى عودة أهلهم من العمل، فنستطيع أن نقول: إن هذا الاختراع المسمّى مدرسة اختراعٌ فاشل، لا يؤدّي شيئا مما يدّعي.

المدرسة الحديثة نشأت مع الثورة الصناعية، وما تزال موسومة بسمة تلك الحقبة، هذا واضح في الجرس الذي يقرع في المدرسة أسوة بالمصنع، وواضح في دزّينة السنين التي يقضيها الطالب على مقاعد الدراسة، وواضح في نظام الساعات الثمانية التي على المعلم أن يقضيها في المدرسة، وفي تسليم “النتاجات” التعلمية من صف لآخر…إلخ. وهذا كله لا يعيبها، ولكن الذي يعيبها أنها أنشئت لصناعة إنسان مناسب لكي يكون عاملا في مصنع في تلك الحقبة، وليس لإنشاء إنسان مناسب لهذا القرن.

نحن نملك تعليما صناعيا ولا نملك صناعة، بل نملك تعليمًا يتّصف بشكليات التعليم الصناعي ولا يحقق أي غرض من أغراضه، وفوق هذا كلّه، هو تعليم مذلّ محطّم للإنسان داخل الأطفال، ولا أتحدث هنا عن عقل الطالب فقط، بل وعن أدنى شروط السويّة الإنسانية المقبولة.

كم طالبٍ رافقني على مقاعد الدراسة، وتسرّب من التعليم، لأنّ أحد “الأساتذة” أذلّه، ضربًا أو سخريةً أو إحباطًا!

أصدقائي في الصفوف الابتدائية، عزيزو الأنفس، الذين أبوا الذلّ فغادروا المدرسة، كانوا أفضل منا جميعا، كانوا يمتلكون خامة إنسانية فائقة الجودة، منعتهم من أن يتركوا للمعلم أن يحقق ذاته بإذلالهم، هؤلاء هم الذين تخطّفهم الفقر والجهل واحتقار المجتمع لهم فيما بعد. المجتمع أكمل مهمّة المدرسة، وعلّمهم الانصياع.

الذين بقوا مصرين على حق الكرامة، الذي يفترض أنه حق طبيعي يكتسب بالميلاد، واجهوا فيما بعد محافظًا ألقى بهم في السجن لأنهم لم يظهروا الخضوع المطلوب أمامه، أحدهم أمضى ثلاث سنوات في التوقيف الإداريّ، جدّد له المحافظ توقيفه سنة بعد سنة، حتى تغيّر المحافظ!

دعنا من ضحايا المؤسسة التعليمية الذين غادروها، ولننظر للضحايا الذين اجتازوها بنجاح:

إتقان اللغة العربية ليس عيارا مناسبا بكل تأكيد، ولكن إذا نظرنا للغة كأداة تواصل إنسانيّ، يعبّر الطالب بوساطتها عن نفسه، ويتعلّم بها مختلف الموادّ الدراسية، ويقرأ بها شتّى الكتب، ويخوض امتحاناته بوساطتها، فإن اللغة حينئذ أنسب عيار لقياس كفاءة المؤسسة التعليمية.

لننظر من حولنا، لنسأل أنفسنا: هل نعرف مواضع الهمزة؟ هل نستطيع تشكيل جملة مفيدة دون أخطاء؟ هل يستطيع أغلب الناس بناء جملة مفيدة من الأصل؟

دزّينة من السنين على مقاعد الدراسة، وأكثر من عشرة مباحث دراسية مختلفة في كل سنة، كلها يدرّس باللغة العربية، وبعد هذا كلّه نجد الخريج الجامعي يلوك اللغة ولا يكاد يسيغها، ماذا كان يفعل طول هذه المدّة!

هل زرعت فينا المدارس غير التنافس المريض على العلامة؟ أعتذر، نعم زرعت الكثير:

تقبّل التنمّر وممارسته مجتمعيا.

تقبّل الإذلال، والخضوع للشروط الجاهزة.

الابتعاد عن الموضوعية، والغرق في الذاتية.

مقارنة النفس بالآخر المنظور، وضياع فكرة “المعايير” من أساسها.

النفاق: أن ننافق المعلمين، أن ننافق الإداريين، أن ننافق المجتمع، أن ننافق أنفسنا.

مرض الـ”كريدنشلزم”/الدرجاتية الذي يجعلنا ننظر للشهادة بدلا من المؤهلات الحقيقية.

.

.

والقائمة تطول.

يظهر جزء من فيلم وثائقي في الإعلام المجتمعي، عن التعليم في فنلندا، فنتداوله باجتزاء معتاد، ونتأثر به إلى حدّ تغيير سياسات التعليم، ويظهر من النقاش الدائر حول التعليم أن أحدا لم يشاهد الفيلم كاملا!

الفيلم هو “أين نغزو لاحقا؟” للمخرج الأمريكي الليبرالي (مايكل مور)، وفيه جزئية بالغة الأهمية لم يرد ذكرها في النقاش حول المناهج والتعليم، إلاّ إن كنت سأعدّ ما كتبته أنا سابقًا جزءًا من النقاش، وهي: أول خطوة اتخذتها فنلندا لإصلاح التعليم كانت إلغاء المدارس الخاصة التي تتقاضى المال، وتمويل التعليم المجاني للجميع! وبرّرت وزيرة التعليم (كريستا كيورو) هذه الخطوة تبريرا منطقيا مقنعًا: “حتى يساهم الجميع في تحسين التعليم للجميع”.

هذا رابط يوضّح هذه النقطة باختصار: https://youtu.be/zmG4smezeME?t=549

في الرابط قائمة بالأسباب التي قادت تطوّر التعليم في فنلندا، انظر لها، وفكّر بحلّ لمشكلتنا مع التعليم هنا في البلاد العربية، لاسيّما الأردن.

التعليم لن يتطور والمواصلات بهذه الحال. التعليم لن يتطوّر والإعلام بهذه الحال. التعليم لن يتطوّر ومعاملة الأجهزة الأمنية للمواطن بهذه الحال. التعليم لن يتطور والحريات العامة بهذه الحال. التعليم لن يتطور ونحن نتجاهل وجود عدوّ يتسهدف الوطن، ونفكّر كأننا في حلم يقظة فنلندي!

باختصار، نحن نعلم أن التعليم لن يتطوّر، ونعلم أن القرارات المتضاربة التي تصدر تباعا ليست سوى استجداءات شعبوية، بعيدة عن الدراسة العلمية الرصينة.

لنعد إلى النظرة الطبيعية للتعليم الصناعي: لو دعمنا القطاع الإنتاجيّ الوطنيّ مثلا، ولم نهدمه لصالح صندوق النقد الدولي، واشترطنا على المصنع الأردنيّ أن يوفّر حياة كريمة للعامل فيه، سيكون من المنطقيّ جدّا أن يساهم المصنع في رفع سويّة العمّال الإنتاجية، لكي يحصّل منهم المقابل الحقيقيّ لعملهم، وهذا يتطلب تعليمهم ما يلزمهم لينجزوا عملهم على أفضل وجه.

مع ذلك كله، فالتعليم المطلوب اليوم ليس تعليما صناعيا، التعليم المطلوب هو تعليم قائم على الفضول، تعليم قائم على المشاركة الفاعلة للطالب، تعليم قائم على مشاركة المجتمع في العمليّة التعلّمية، فما دام الإعلام يجهّل الوالدين، فلا نتوقع من الأبناء أن يتعلّموا شيئا من المدرسة، دعنا نتذكر فقط أن المعلمين هم أنفسهم ضحايا للتجهيل الإعلاميّ بالأصل.

إذا كان الدجل السياسيّ ينخر في جسد الوطن، فالدجل الديني والإعلاميّ ينخر في عقل المواطن، والدولة تدعم تراجع دورها لصالح المال الأجنبيّ، وتستجدي شرعيتها في الخطاب الديني والإعلامي، والذين نوكل لهم مهمة الإصلاح هم أفسد الفاسدين.

متى كانت آخر مرّة قوضيت فيها شركة بسبب دعاية كاذبة؟ إذا عجزت عن إجابة هذا السؤال فاسأل نفسك: هل لأحد من الرأسماليين مصلحة في مواطن ناقد؟ لماذا إذًا سيسعى أحد لإصلاح التعليم بجدية!

لا نعدم النوايا الصادقة التي تأتي من الشغف الشخصيّ، ولا أدّعي أنها غير موجودة، ولا أدّعي أننا لا نملك الخبرات اللازمة لإصلاح التعليم، لكن هذا الإصلاح لن يحدث وثمة وزراء في الحكومة نفسها، معنيون بالقضية نفسها، لم يجلسوا ليتفقوا على السياسة التعليمية للبلاد.

وحتى ذلك الحين الذي تتبدّل فيه طريقة تبديل الحكومات، فتأتي حكومة تمثّل المواطن العاديّ وتهتمّ لمصالحه، فإن إصلاح التعليم خرافة، وكل الذي سنراه هو مساحيق تجميلية لوجه المؤسسة التعليمية القبيح.

حتى ذلك الحين، علينا أن نغلق المدارس، ونجفف منابع المنتسبين للجامعات، وبهذا نكون قد جففنا منابع الخريجين الذين لا يتقنون شيئا، ومنابع أساتذة الجامعات الذين يتقمصون دور الآلهة، وهم يقتلهم الجهل، ويقتلوننا بجهلهم.

نحن في حلقة مفرغة من الهراء، ندور فيها وكأننا فئران في مختبر، يُجري علينا التجارب ولا يصل لأي نتيجة، علينا أن نكسر هذه الحلقة.

اقرأ أيضا:

دكتور أم إله؟

تستطيع أن تكتشف بنفسك!

معضلة الكتاب المدرسيّ

التغبية والتعليب

كي لا ننسى!: عن التعليم هذه المرّة…