الأمّة الواحدة | مقالة ميسّرة

لم تمرّ لحظة تاريخية معروفة على المجموعة البشرية التي نصطلح عليها باسم “الأمة العربية” وهي موحّدة في كيان سياسيّ محدّد، وهذا لأن الدولة الحديثة نشأت في مكان آخر من العالم، وهي تسمى أيضا الدولة الوستفالية نسبة إلى معاهدة وست فاليا الأوروبية، التي انبثق عنها تصوّر الدولة القومية، وهذا لم يكن ممكنا لولا الثورة الصناعية، وللأسف لم يكن ممكنا لنا حتى اليوم بسبب الثورة الصناعية أيضا، فهي التي أنشأت الدولة القومية في أوروبا، وأنشأت المستعمرات الأوروبية في منطقتنا ومناطق أخرى من العالم.

نحن نتحدث إذًا عن دولة متخيّلة، لأمّة “متخيّلة”، فالأمة العربية لم تكن قومية أو أمة بالمعنى الحديث للقومية أو للأمة، ولأنّ فكرة الدولة العربية الموحّدة هوجمت كثيرا حتى قبل تحقيقها، وهي لم تحقق لغاية اليوم، فقد دار جدال كبير حول كل ما يخصها، لاسيما فيما يخص الأفكار المهيمنة فيها “العروبة” و”الإسلام”، هذا الجدل والتدافع الذي حصل من جهة الأفكار، كان أحيانا ينحرف إلى مزالق عجيبة.

لكي نعرف عن أي أمة نتحدث فلابد أن نعود إلى التاريخ لنرى ماذا كان حال هذه المناطق الجغرافية التي نسميها الآن الوطن العربي، وهنا نحن نتحدث عمّا قبل نشأة الحدود والدول وشبكات الطرق وما إلى ذلك من بنى تحتية وفوقية تشكّل الدولة.

نعم كان ثمة حواضر مستقرة على السهول النهرية، وأنشأ أهل هذه الحواضر مدنا وممالك وأحيانا جيوشا، وقد يكون لهم أصل عرقيّ مشترك داخل الحاضرة الواحدة، وهذه الحواضر منثورة على جسد الوطن العربي كله، من عُمان إلى المغرب.

الفروق الثقافية بين أهل الحواضر الواقعة على جسد الوطن العربي كبيرة جدّا، فقد لا تجد أي صلة واضحة بين المهريّين في عمان وبين الأمازيغ في الجزائر، لكن الذي حدث، والذي بقيت آثاره ماثلة حتى اليوم، هو أن هذه الحواضر كانت تشبه الجزر في بحر من البادية، وهذه البادية شبه الخالية، كانت موطنا لمجموعات من البدو الرحّل، وهم شعب آفرو-آسيوي، أمنوا طرق التجارة، وكانوا يمثلون قوة عسكرية ومالية وثقافية هائلة، بامتهانهم التجارة، وبكون لغتهم لغة تداول تجاري في المنطقة، والذي أنقذ الحواضر من سطوتهم كان عدم توحّدهم، وأن مناطق نفوذهم قليلة الكثافة السكانية.

ولما وقعت الحواضر الموجودة في المنطقة تحت سيطرة الأمم القريبة، كان من الطبيعي أن تهرب المقاومة من المراكز إلى الأطراف، فنشأت فلسفات وأديان توفيقية في مناطق البدو، تأخذ من المركز الفلانيّ كيت، ومن المركز العلّاني كيت، وتوفق بينهما لتصنع تصوّرا جاذبا للمركزين.

بالفعل بدأ أول شكل للدولة العربية البدوية في صدر الإسلام، وبدأت تجد تعاونا من المراكز التي تتوق للتحرر من الهيمنة الأجنبية، وهكذا كان البدو يشبهون الصمغ الذي وصل الجزر المنعزلة ببعضها البعض، وأسسوا أول الممالك العربية المعتمدة على الدين الإسلامي كعقد اجتماعي.

بقي الظرف الموضوعي للمنطقة كما هو، فعادت لتطغى الحواضر على بعضها البعض، وعادت الحواضر الواقعة تحت ظلم ما تتوق للتخلص من سيطرة الحاضرة المجاورة المتحالفة مع البدو، وعادت الأمم المجاورة لاحتلال المناطق العربية، وفرض سيطرتها عليها.

بقيت الحال على ما هي عليه، حتى جاءت أوروبا الاستعمارية، فأنشأت الحدود المرسومة بالمسطرة، سواء في مناطق سايكس بيكو أو في شمال إفريقيا، وهذه الحدود ليست قائمة بسبب سلسلة جبال أو أي نوع من الحدود الطبيعية، فيمكن للمهاجر أو الحاجّ عبورها على جمله دون أن يقطعة أي مانع جغرافي حقيقي.

منذ أن بدأت فكرة الوحدة العربية، وهي تستجلب تأييدا ومعارضة من سكان المنطقة التي نسميها الوطن العربي، وهذا تجلّى في سرديات تاريخية تجعل الأمازيغ من أصول فينيقية، وتجعل حضارة تل عبيد في العراق آتية من الجزيرة العربية، ولست في وارد نقاش أي هذه السرديات صادقة وأيها كاذبة، لكن لننتبه أن الأعراق في الأصل ليست نقية، ولا يهمّني شخصيا إن كان مرجعي العرقي اليمن أم طاسيلي ناجر في الجزائر، المهم أنني مواطن يعيش في هذا الزمن في هذه الأرض.

المواطن الذي يعيش على هذه الأرض له مصلحة واضحة في أن ينتمي إلى دولة قوية حديثة متطورة، تسيطر على معابرها البحرية والبرية كافة، وتحفظ الخصوصية الثقافية للمجتمعات في الحواضر القديمة، وتذوّب الشعور الإنعزاليّ في فكرة الوطن والأمّة.

هذه الرقعة من الأرض “الوطن العربي” تقع على طرق تجارية عالمية مهمة، ولها سواحل طويلة جدّا، وفيها من مصادر الطاقة الأحفورية والمتجددة شيء كثير، وجسدها الجغرافي متصل دون عوائق جغرافية، ولها من مقوّمات الوحدة ما ليس لألمانيا الدوقية في أيام بسمارك، لكن الظرف التاريخي لم يصل بها للحظة الوحدة،  ولذلك فهي تستجدي الوحدة من ماضيها، مع أن فكرة الوحدة كامنة في مستقبلها الممكن بصورة أوضح من الماضي.

نحن سميّنا الأمة الواحدة التي نحلم بها “الأمة العربية” لأن العرب مكوّن موجود في أراضيها كافة، وقد سيطرت القبائل العربية المرتحلة على أكبر قدر من أرضها أكبرَ قدر من الزمن، ومن الطبيعي أن يكون بعض أجزائها لا يشترك مع العرب في العرق، أو يختلف بصورة كبيرة مع حاضرة بعيدة عنه، كل هذا لا ينفي أنّنا لكي نوجد على هذه الأرض وجودا حقيقيا، فمن الأفضل لنا أن نكون أمّة واحدة.

سمّوها عربية، سمّوها إسلامية، سمّوها الدولة المتوسطية الحديثة الموحّدة، سمّوها ما شئتم المهمّ أنها دولة واحدة تتوفر لها مقوّمات الوجود المنيع الناهض القادر على ردع الغزاة والناهبين.