من منّا يتذكّر الحظّ الأكبر ممّا تعلّمه في المدرسة؟ إذا استثنينا بعض المعلومات التي أعدنا استخدامها مرارا بسبب تخصصنا في الجامعة أو العمل الذي نقوم به، وإذا استثنينا بعض الأشخاص الاستثنائيين الموجودين فعلا، فإن الإجابة على هذا السؤال الاستنكاري معروفة: ببساطة لا أحد!
يشتكي المعلّمون دوما من نسيان الطلبة ما تعلّموه في السنوات السابقة، والمعلمون قد يكونون أكثر الناس تماسّا مع هذه الحقيقة، فهم مضطرون بحكم مهنتهم، والتزامهم بأن يوفّروا للطلبة ما يحفظهم من الشعور بالتقصير، أن يعاودوا شرح ما نسيه الطلاب، مما يسبب لهم صداعا دائما، وهم دائما يلقون اللائمة على الطلبة حينا، وعلى المعلمين الذين سبقوهم حينا آخر، وعلى منظومة التعليم أو المناهج في أحيان أخرى.
كل هذا على صلة وثيقة بنظرتنا للذاكرة، فنحن نتعامل معها على أنها محلّ المعلومات المخزّنة بصورة تشبه طريقة التخزين في مستودع ما، ففي المستودع أو المكتبة أو القرص الصلب، نجد المعلومات مصنّفة بطريقة تسهّل الوصول إليها، وعدم الوصول إليها يعني بالضرورة أنها فقدت، فهل هذا ما يحدث في الذاكرة حقا؟
في شهر حزيران يونيو الفائت نشرت دراسة مفاجئة في مجلة نيورون المتخصصة بعلم الأعصاب، عن كيفية عمل الذاكرة، أجراها عالما الأعصاب فرانكلاند وريتشاردز، أتتنا بصورة مغايرة عن الاعتقادات السائدة حول طريقة عمل الذاكرة، وماهيّة النسيان، ودوره في عملية التعلّم.
توفر الدراسة رسما بيانيّا حول سرعة النسيان، يوضّح أن الإنسان ينسى ما يقارب 45% من المعلومات بعد 20 دقيقة، وبعد يوم واحد يكون قد نسي قرابة 70% مما تعلّمه، وبعد 31 يوما يكون قد نسي 80% منه، ولنا أن نستغرب كيف نتعلّم إن كنّا ننسى بهذه الكثافة!
النسيان، حسب آخر المعطيات العلمية، أحد أهمّ الإجراءات في عملية التعلّم. الإنسان ينسى لكي يفسح المجال للمعلومات والأنماط الأكثر أهمية أثناء عملية التعلّم. تمييز الأهمّ من المهمّ ليس أمرًا إراديّا بحتا، ولا يحدث عن طريق الإقناع، لكنه يحدث وفق خوارزميات عمل الدماغ، التي اُكتسبت خلال ملايين السنين من مسيرة الجنس البشري.
يظهر العلم الذاكرةَ على أنها شبكة ثلاثية الأبعاد بدلا من كونها مستودعا أو مكتبة مصنفة، أي أننا من الصعب أن نتذكر إعراب كلمة “نجا” في خبر مفرح نتلقاه مثل: “عمّك نجا من الحادث”، لكل معلومة ارتباطاتها وأجواؤها، وهي لا تستدعى بسهولة إلّا عندما نكون في مجالها، هنا يسهل علينا أن نتذكر المعلومة، لأن الشبكة العصبية التي هي جزء منها تكون نشطة في ذلك الحين.
يوكي تريدا، صاحب المقال الذي عرّفني بهذه الدراسة، والذي بنيت حظا من هذه المقالة على أفكاره، يضرب لنا مثلا لتوضيح كيف تعمل الذاكرة كأنها شبكة، موضّحا (ضرب المثل باللغة الإنجليزية وعمدت إلى تعريبه):
لو عُرضت علينا مجموعتان من الأحرف كما في الخيارين الآتيين:
1- ع ج غ ت س م ك
2- ب ر ت ق ا ل ة
وطلب منّا أن نتذكرهما، فإننا نميل إلى نسيان مجموعة الحروف العشوائية الأولى، وتذكر المجموعة الثانية، لأنها تقرأ (برتقالة) وتعني لنا شيئا واضحا، نستطيع ربطه بصورة ومعنى وطعم ومشهد وربما مشاعر أيضا.
لتكون المعلومة أكثر قابلية للتذكر فنحن نحتاج إلى ربطها بأكبر عدد من المفاهيم من حقول مختلفة، وهكذا تضمن لنا السياقاتُ المتعددة التي ترتبط بها المعلومة أن تكون في متناول الذهن بصورة أسرع، وكذلك فإن استدعاءها بصورة متكررة من خلال سياقات متعددة يضمن لها أن تظل نشطة وألا تنسى.
كثرة الروابط التي تنتظم معلومة ما، وعدد مرات الاستدعاء الكثيرة، كلاهما أمر حاسم في نظرة العقل إلى هذه المعلومة على أنها مهمة، وليس مهمّا كثيرا اقتناعُ الشخص أن المعلومة مهمة، هذا واضح لنا عند محاولة تذكّر كلمة مرور لأحد حساباتنا على الإنترنت.
ثمة بالتأكيد عوامل أخرى مثل طرافة المعلومة وغرابتها، وتحريكها لأكبر قدر من المفاهيم الراكدة في عقولنا، موافقة أو مخالفة لها، كذلك الإمتاع والخرائط الذهنية وسوى ذلك من الأمور التي تدفعنا للتذكر، وأهمّها أن تحدث المعلومة إرباكا للطالب، لذلك فالتركيز على المفهوم حين إعطائه لا يكون بالفائدة المرتجاة، ولكن يمكن الاستطراد في حقول مختلفة عند إعطائه، وإعادة التركيز عليه والتذكير به في سياقات أخرى.
عن الاستراتيجيات التي يمكن للمعلم أن يستخدمها لكي يتذكر الطلبة المعلومة، يذكر لنا يوري تريدا ما جمعه من عدد من المؤلفين، نزيد عليها بنودا أخرى من عندنا:
1- زاوج: أي اترك للطلبة مساحة أن يوضحوا لأقرانهم المعلومة كما فهمومها، فمحاولة الشرح تنشط الروابط المتصلة بالمعلومة، وتزيد من عدد تكرارات استعادتها.
2- وزّع التركيز: بدلا من تناول الموضوع الواحد بكثافة مرة واحدة، قم بتناول الموضوع مرات عديدة متفرقة على مساحة واسعة زمنيا، هذا يسمح بتكرارية أعلى لورود المفهوم على ذهن المتعلّم، ويربطه بعدد أكبر من المفاهيم، التي تكون موضوع الدروس.
3- اختبر بصورة متكررة بقصد التمرين: ليس المقصود هنا الاختبارات المدرسية المعتادة، فقد يكون التكرار عن طريق أوراق العمل، أو الألعاب، أو الألغاز، أو النقاش، أو سوى ذلك من الطرق، لكن المهم هو تكرار تردد المفهوم على أذهان المتعلمين، وزيادة عدد مرات استدعائه.
4- اجعل المفاهيم تتراكب: بدلا من تقريب الأسئلة التي تختبر المفهوم نفسه من بعضها، وزع الأسئلة بصورة تخلط بين المفاهيم المطلوبة، لأن الطالب لا يستفيد من حلّ عدد من الأسئلة المتشابهة في وقت واحد، فهو يتذكر المفهوم لأنه ضمن جوّه فيحلّ الأسئلة، ثم يصعب عليه تذكر المفهوم في جوّ آخر.
5- امزج بين الحواسّ: في الغالب يكون تذكر المفاهيم التي قدّمت من خلال عدّة وسائط أسهل من تذكر المفاهيم التي اعتمدت على وسيط واحد، الخلط بين الصورة والنص مثلا، وكذلك الخلط بين الصوت والصورة، وليست الفكرة هنا في تقديم المادة النصية مصحوبة بصورة، ولكن تقديم المفهوم نفسه مرة من خلال نص، ومرة أخرى من خلال صورة.
نزيد على ما قدّمه الكاتب تريدا اقتراحات أخرى، جاءت من خلال سؤال من يتذكرون ما تعلّموه، ومن خلال قراءة أبحاث أخرى:
6- اطرح مواضيع خلافية: ما يثير الجدل يعلق بالذهن أكثر من المعلومات التوافقية للغاية، فبعكس ما نظنّ المعلومة البديهية لا تعلق في ذهن المتعلّم، فنحن نتذكر المواقف المربكة لنا، ولا نتذكر اللحظات العادية.
7- اسأل أسئلة واتركها دون إجابات: الحَيْرة المستمرّة تنشط الذهن، وتجعل موضوع الدرس موضوع حديث للطلبة بعد انتهاء الحصة، مما يزيد في تكرارية ورود المفاهيم على أذهانهم، ويزيد في تنشيط الشبكة التي تحتوي هذه المفاهيم.
8- كن مسليّا: لكي تكون مسليّا عليك أن تتصرف بأقل مظهر من مظاهر الرقابة على نفسك، بالتأكيد عليك أن تراقب أداءك، ولكن لا تجعل وعيك بذاتك يفقدك العفوية. فكّر دائما: هل يمكنك بيع التذاكر للطلبة لحضور هذه الحصة، أم أنهم سيفضلون عمل شيء آخر؟ إذا لم تكن قادرا على أن تشعر بالمتعة وأن تقدّمها فإن الطلبة على الأغلب لن يشعروا بها، وسيهربون ذهنيا إلى شيء ممتع، وسيستعينون بك لتبسيط الأمر إلى قطع صغيرة، “تقسيم الكعكة إلى لقم صغيرة”، ليتمكنوا من هضمها بأقل جهد. العكس هنا هو الصحيح، اشعر بالمتعة، فالمتعة معدية، ذب في الموضوع، وذب بين الطلبة، واجعلهم يجتهدون لتقسيم الكعكة بأنفسهم.
9- لخّص: في بداية كل حصة، أعلم الطلبة بخطّتك، ثمّ في نهايتها، راجع معهم كيف أنجزتم المخطط، هذا سيجعل المفاهيم تمرّ على الطلبة مرّات أكثر، وسيقلل الإرباك الحاصل بسبب الحصة، وهو النوع السيء من الإرباك، بعكس الإرباك الحاصل بسبب الموضوع الذي تتناوله الحصة.
10- اضرب أمثلة طريفة: الأمثلة التي تضحك الطلبة، يتذكرونها بصورة أوضح. اجعل أمثلتك من الطرافة بمكان أن تكون خليقة بعدم النسيان، هكذا تستطيع عند المراجعة أو التلخيص استعادة المثال سريعا ليتذكر الطلبة المفهوم بسهولة. وعدا عن كون الضحك منشطا ذهنيا من الطراز الأول، فالضحك يحدث بسبب هزة للوعي، بين ما يتوقّعه وبين ما يحصل، مما ييسّر دخول المفاهيم بسرعة.
11- صرّح بمشاعرك، وكن مستعدّا لسماع مشاعر الطلبة: ارتباط المعلومة أو المفهوم بمنظومة مشاعر يجعلها خليقة بالتذكر أكثر، إذا تحدّثت عن مشاعرك سيتشجّع الطلبة على التعبير عن مشاعرهم، وهذا يساعد على ربط المفاهيم بمشاعر مختلفة.
ما ورد في هذه المقالة لا يقتصر على التعليم المدرسي، هو متعلّق بالإعلام أيضا، وبالكتابة الصحفية، وبإدارة ورشات العمل، والتدريبات، وغير ذلك مما يساهم في جعلنا مجتمعا متعلما، وليس كما نواظب على وصف أنفسنا أننا نمتلك “ذاكرة سمكية”.