عدا عن صحّة المقولة المشهورة “التاريخ يكتبه المنتصر”، فالتاريخ أيضاً كما يقول المؤرخ العروبيّ السوري أ.د. أحمد الداود هو مستودع فخر الشعوب، وأنا أنظر له كحجر نقوم بشحذ سيوف الحاضر عليه تحضيراً لمعركة المستقبل. وليس هناك من هزيمة بعد الهزيمة المعرفية، فعندما يبصر المظلوم نفسه بعين ظالمه، فإن الجهل الذي هو عدوّ للذات بالإضافة إلى عداء الذات الموروث عن العدوّ كفيل بتركه مهزوماً بل وبتكريس هزيمته دون نهاية، كمرض عضال لا شفاءَ منه غير الموت.
عن سيمون بوليفار، ليس في نيتي هنا كتابة مقال مترجم للغة العربية، فاللغة تتعدّى كونها رموزاً وحروفاً ووسيلة اتصال، إلى كونها في الوقت نفسه منطقاً كاملاً وأداة تؤثر بالعقل وتتأثر به، لذلك أحبّ عند حديثي عن سيمون بوليفار أن أكتب مقالاً عربياً بصفته عربيّ الروح، لأنّه موجّه للروح العربية الأصيلة، وليس فقط حروفاً عربية تتجمع في كلمات ثمّ في جمل لتصف تاريخاً كتبه الغرب المنتصر ويحرص هو وأتباعه من الأمم المهزومة على تكريسه والاحتفاء به.
مَثَل التاريخ كمثل ما قطعناه من درب نقف الآن على نقطة فيها، تسمّى الحاضر، وبما أننا نقف كعرب، منذ فترة لا بأس بها من حياة أمتنا العظيمة، وكأننا دون حراك يذكر، أمام هوّة ضخمة لم نتمكّن من جسرها ولا تسعفنا لياقتنا الحضارية بعد سنين عجافٍ من السكون وقلة الحركة لنعبرها في قفزة واحدة، فلا بدّ أن نراجع الدرب عدّة خطوات إلى الوراء، بإحدى نيّتين؛ إمّا مفترضين أننا ضللنا الطريق في منعطف ما، فنعودَ لنصحح مسارنا، أو على الأقلّ لنشحذ همّتنا ونعطي لأنفسنا مجالا لاكتساب زخم خطيّ يمكننا من القفز فوق هذه الحفرة، كي نعود إلى حركتنا الحيّة على مسار التاريخ، كما يليق بأي أمّة حرّة، فكيف بأمّتنا العظيمة.
مراجعة التاريخ لا تقتصر على تاريخنا نحن فقط، وإن أراد البعض قصر التاريخ على التاريخ الذي زوّره الأوروبيون بعدما دمّروا كلّ ما طالته أيديهم مما رأوا أنه يكذّب أوهامهم على أرض الواقع، بل تتعدّاه إلى تاريخ أمم وشعوب أخرى لاقت مما لقينا وربّما أفظع. لذلك كان لا بدّ عند الكتابة عن سيمون بوليفار من الكتابة بروح عربية تتحرّر من قيود الاستبداد الأوروبي تاريخيّاً وروحاً وأسلوباً، وما بدئي الكلام بأداة استثناء إلا لما توحيه لي شخصية تاريخية بكل معنى الكلمة، مثل سيمون بوليفار، ومثل الأمّة العظيمة التي ينتسب إليها، بل وباتت تنسب نفسها إليه.
فالاكتفاء بسردٍ للوقائع عند الحديث عن تاريخ الثورة البوليفارية، يشكّل خيانة لهذه الثورة، والثورة المعرفية فعلٌ لا غنى عنه عند الحديث عن الثورات، حيث أنّ منطق “المستعمر” أو المحتلّ الأوروبيّ مستبدّ بنفس قدره بل ربّما يفوق استبداده المعرفيّ أي استبداد آخر يقوم به، فهذا المنطق إذا تشرّبه عقل الضحية كان عقلها كفيلاً بتدمير ذاته لصالح المجرم، في ضوء أنّ أي ردّ فعل على الفعل يكون بمثابة استمرار له، الثورة الحقيقية لا تكون ردّ فعل، بل تكون فعلاً ناشئاً بشكل مستقلّ، نعم… لهذا الفعل ظروفه وأسبابه والتي تشمل الظلم نفسه، لكن الثورة لا تكون ثورةً إذا كانت ناشئة فقط من ردّ فعل لما قام به المستبدّ أو المحتلّ، دون أن تكون نابعة من تاريخ الثائر وحضارته وإرثه وظروف بلاده الموضوعية، والتي لا يمكن تصنيفها وفهمها باستخدام منطق المستبدّ وحده وبدون الإلمام بخلفية الحدث، لأنّه بالضرورة ينزعها من سياقها ليضعها في سياق آخر يمليه عليه إرثه، والذي ربّما كان هو دافعه للاستبداد، فكيف بالضحية وهو يستخدم منطق الجلّاد!
ونظراً لما يمكن أن نسمّيه بالقطيعة الثقافية بالقياس لما يجب أن يكون بين الوطن العربي وأمريكا الجنوبية، فإنّ أغلب المصادر المتاحة للعربيّ الذي يسوقه فضوله أو شغفه المعرفي للبحث في شأن الثورة البوليفارية، هي انعكاس لصورتها على المرآة الغربية الشمالية المشوّهة، فإنّ وصف وضع تلك البلاد، ووصف وضع المستعمر الأوروبيّ والأمريكي الشمالي أيضاً، إبّان الثورة البوليفاريّة، خارج التصنيفات الأكاديميّة الغربية المأخوذة من السياق الأوروبيّ، هو ضروريّ وعضويّ بامتياز، وليس من مفرٍّ من مراجعة التاريخ كي نفهم المكوّنات والموروث الحضاري للجنوبيّين الذي يشكّل السياق الطبيعيّ لهذه الثورة العظيمة.
وفي محاكاة للروح الثوريّة العظيمة التي نحن بصدد تقديمها للعرب، ومن روح الحكاية التي حملت الحكمة شفاهياً في العالم أجمع، وكان لها دورها العظيم في الوطن العربي، أبدأ المقالة التي نحاول ألاّ تكون كسائر المقالات شكلاً، بحكاية كتبها الروائي العظيم صنع الله إبراهيم بعنوان “اليرقات في دائرة مستمرّة”. فحواها أن اليرقات اللائي يرتحلن من أعلى الشجرة التي وضعت أمّهاتها البيوض عليها، مستدلّات بالشمس والظلّ في حكمة إلهية عجيبة، تبقى هذه الحاسّة عاملةً عند إحداهنّ حتّى إذا اقترب أنفها من ذيل أخرى، التقطت موادّ عطرية تصدر بسببها المستقبلات الحسيّة أمراً لدماغ اليرقة أن تستبدل انقيادها بحاسّة الظلّ والشمس إلى انقيادها لدودة أخرى سبقتها، فيتشكّل طوابير كثيرة تتحدّ أسفلَ الشجرة بطابور واحد طويل من اليرقات، وعندما كانت قافلة اليرقات تعبر بمحاذات النهر في منتصف الظهيرة بالضبط، شاء القدر أن تصل الرطوبة تحت إحدى الصخور لدرجة كافية لسقوطها على مؤخرة طابور اليرقات، وهكذا تابعت القافلة سيرها، إلّا أنّ ذيل الطابور كان في مقدّمته يرقة أحسّت بواجب القيادة وتحرّكت فيها غريزة البقاء وإثر فقد الرائحة التي كانت تجبرها على الاتباع دارت نصف دورة حول الصخرة ولمّا تزحزحت الشمس عن كبد السماء امتدّ الظلّ في جهة أخرى أجبرتها على أخذ نصف دورة أخرى حول الصخرة، حتى ارتطم أنفها بذيل يرقة أخرى فغدت تابعة لها، وظلت اليرقات تدور في حلقة ينتظر كل فرد فيها أن يقوده الفرد الذي يسبقه.
تحضرني هذه الحكاية عندما أتكلّم عن أمّة تحت التبعية أو تحت الاحتلال، فلا بدّ من شخص مختلف في هذه الحلقة يفهم الواقع كما هو، ويحلم بواقع مغاير، ويمتلك من العزيمة ما يكفي لكي يعرف أنّه القائد الذي تنتظره أمّته، لكي يكسر هذه الحلقة التي تفتقر إلى أسباب استمرارها، والأهمّ من ذلك كلّه أن يمتلك منطقاً مغايراً، حتّى لا ينضمّ لصفوف من حاول الثورة فقام بها كما يتوقّعها المحتل أو حتّى كما يرسمها. فهل كان اليمين الذي أقسمه سيمون بوليفار وهو فتىً لمعلّمه رودريغز بتحرير أرضه من المحتلّ، هو القسم الوحيد الذي يقسمه فتىً أو فتاةٌ في أميركا اللّاتينية؟!
هذه المقالة تعتمد الأسئلة، فالطبيعة والواقع يتكفّلان بالأجوبة أمّا مهمة الإنسان هي إتقان فنّ طرح الإسئلة، وليست تتقيّد بشروط المقالة التي يعرفها القارئ في الصحف العربية فالشكل يفرضه المضمون، وستحتوي هذه المقالة على ثلاثة أقسام:
إرث بوليفار | سيمون بوليفار للعرب (1-3)
اليابسة في آخر الأفق
“هل سنشاهد الفيلم ذاته للمرّة الألف!”.
إنّ المتتبّع للقصّ الغربي – إن كان فيلماً أو رواية – في مجال الخيال العلميّ والفانتازيا الغرائبية، يستطيع بناء تصوّر لا بأس به عن كيف كان يرى البحّار الاسبانيّ نفسه وهو على متن الباخرة، لا نستبعد من الذهن أسبقية رحلات الإسبان والبرتغاليين العتيدة على صناعتي السينما والنشر، لكنّنا لا ننسى أيضاً أن دورة القصّ في الأسطورة الإغريقية وجدت طريقها إلى كل زاوية في العقل الغربيّ، ومن محطّاتها الأساسيّة احتلالها للقصص الكنسيّ، والمسرح الكنسيّ، وبالتالي سيطرتها على أرواح البسطاء في أوروبا وأمريكا الشمالية، وتجذّرها في عقولهم. لنسأل جادّين عن تأثير الوثنية الأروربية على الرواية التي يطّلع عليها المشرقيّ عن “بداية العالم الجديد”؟
سيكون سؤالنا السابق، بمثابة صدمة أو بالأحرى هزّة أرضية تنال من كلّ أركان بناء الرواية الغربية، عمّا يسمّى “الفتح الكولومبسي للعالم الجديد”، خصوصاً إذا علمنا بعض الحقائق عن تلك اليابسة في آخر الأفق، والتي سيصعب عليك متابعة الغرب على تسميتها “أمريكا اللّاتينية” قبل أن تطّلع على الحقائق كافة، والتي نستطيع أن نلوم العقلية الغربية ذاتها على اختفاء جلّها أثناء عمليّة “الاغتيال الحضاري” التي استمرّت حتّى يومنا هذا، وإن اختلفت أشكالها.
“استمع إلى الأهرامات … إنها تحاول أن تخبرك بشيء”.
ليس سرّاً أن حضارة وادي النيل التي تعدّ مهداً للحضارة الإنسانية، لا تملك العدد الأكبر من الأهرامات، فغالبيّة الأهرامات القائمة اليوم موجودة في أميركا اللاتينية، وتتعدّد التحليلات الأنثروبولوجية والتفسيرات التاريخية لأسباب بناء الأهرامات على اختلاف أشكالها، ولنا أن نضع مسألة طلب الخلود للأفراد في الحياة ما بعد الموت جانباً، إذا كنّا لا نختلف على أنّها كانت سبباً في خلود ذكر الحضارات في هذه الحياة بعد أفول نجم هذه الحضارات.
فالغزاة الإسبان قاموا بحرق شواهد الحضارة في تلك البلاد، بحجّة الوثنية لم يمتلكوا بعد النظر الكافي، لترك الأهرامات مكانها، بل ما شيّده السكّان الأصليّون من أوابدَ حضاريّة هو الذي امتلك أسباب الخلود واستطاع الحياة رغم كلّ ما حمله الغزاة من موت… ولا يفوتنا أن نذكّر بأن ثالث أكبر الأهرامات على وجه البسيطة يقع هناك خلف البحار في ما بات يدعى اليوم “أمريكا اللاتينية” فما الذي يحاول أن يقوله لنا الهرم؟ بل ما الذي يقوله لنا الطراز المعماري في ذلك العالم؟
سادَ لفترة طويلة في العالم القديم اعتقاد يقول بأنّ الحضارة تنشأ بوجود عدوّ، لن أقصّ أثر هذه المقولة لأفضح صلتها بالعقلية الاستبدادية “الاستعمارية” الغربية، ولست بوارد تبيان حتميّة خطئها عقليّاً على طريقة المسلمين العرب من “المعتزلة” ، لكن سيكون أكثر من كافٍ أن نذكّر القارئ الكريم أن العلماء والباحثين تبيّنوا خطأها بمجرّد التفاتهم لحضارات أمريكا القديمة، واضّطروا إلى صياغة نظرية جديدة فيما يتعلّق بنشوء الحضارة، فلننعم النظر في ما تبقّى من هذا التاريخ القديم متسائلين: كيف تنشأ الحضارة؟
من المقاييس الحديثة عن مدى تحضّر الإنسان، تقليل كلفته البيئية على الطبيعة، وهذا العيار الجديد يمثّل عياراً ناريّاً في رأس الفكرة التي تحرص الأكاديميا الغربية على زراعتها في العقول ومن ثمّ تعهدها بالرعاية والريّ حتّى تنمو وتكبر لتصبح شجرة يصعب اقتلاعها من الأذهان، فهل هذه هي شجرة الإثم التى ظنّها آدم شجرة الخلود؟ حيث إنّه آن لنا أن نعيد النظر في تاريخ الإنسانية التي تنقله لنا “الأكاديميا الغربية المحترمة”، ضمن احتمال أنّ “الإنسان الأوّل” المزعوم كان أكثر حضارة من إنسان اليوم، فهو إن كان معدومَ الأثر البيئي، فلا يجوز لنا الجزم بعدم وجوده قبل تاريخ معيّن إذا لم نجد له أثراً.
القليل مما يقوله ما تبقّى من حضارات أمريكا اللاتينية، كفيل بأن يتركنا على يقين بأنّ إنسان اليوم ليس أكثر تحضّراً وليس أكثر سعادة مما كان عليه الإنسان في ذلك العالم القديم الذي يصرّ الغرب على تسميته العالم الجديد منطلقين من مركزية أوروبا في أذهانهم. فهل حضارات تلك الأرض قديمة بمكان أن أكملت دورتها الحضارية ووصلت إلى مقولات أساسية كانت هي السبب في نظام الدولة الفريد (ويمكن تسمية بعضه أيضاً حضارة اللّادولة)؟ أي أنّها تمكّنت من هزيمة ما نظنّه اليوم نزعاتٍ غرزيّة عند الإنسان من حبٍّ للتملّك مثلاً، بسبب أنّها أتمّت دورة حضاريّة كاملة، أم أنّ أصول الإنسان “الأمريكي” الأصيل تعود بالفعل لما ندعوه اليوم عالماً قديماً، وبالتّالي حمل معه دروس تراث التجربة الإنسانية المتعثّرة ليبدأ هو من حيث انتهى العالم القديم بالنسبة له؟
نتحدّث عن بلاد كانت ملكت الكثافة السكّانية الأعلى مقارنة بكلّ البلاد حول العالم، حسب ما تمّ توثيقه من احصائيات، وهذا في مرّتين واحدة منهما قبل الطوفان العظيم، والأخرى إبّان الغزو الأوروبي الإسباني، فكيف استطاع الإنسان الأصليّ في أمريكا اللاتينية البقاء وتوفير الأمن والغذاء والماء الصالح للشرب والنسيج والعقد المجتمعيّ بين أفراده وجماعاته إلى ذلك من مقوّمات الحياة؟
لنتذكّر فقط أن الكثافة السكّانية لدى الإنكا مثلاً بلغت زهاء 1500 نسمة للميل المربع الواحد، ولنقارنها بكثافة الهند اليوم والتي تبلغ 953 نسمة لكل ميل مربّع! وهذا حسب ديامند جارد، في كتاب: كيف تختار المجتمعات الفشل أو النجاح؟ فبالفعل بات علينا أن نسأل، هل اخترنا نحن النجاح أو الفشل؟
وإبّان الغزو الأوروبيّ كان تعداد سكان القارة يبلغ زهاء 140 مليون نسمة! تصوّر أنّه بقي منهم ما يقارب 14 مليوناً منهم فقط بعد الغزو بمئتيّ سنة! فهل أتى الأوروبيّون بالحضارة أم أنّهم جاؤوا محمّلين بأسباب الموت؟ ذلك مع أنّهم بالفعل أتوا بمحاصيل جديدة وحيوانات داجنة لم يعرفها السكّان الأصيلون.
ودعك مما يحرص الأوروبيّون وأتباعهم حول العالم على تكريسه من رواية أنّهم ماتوا بالأمراض، فالخطأ الطبيّ الذي يجهز على أحدهم لا ينفي أنّه زار المستشفى إثر تعرّضه للضرب والتعذيب والاغتصاب! نعم لقد مات كثيرٌ منهم بالأمراض التي حملها الأوروبيّون على شكل جراثيم. لكن ماذا عن الأمراض الحضارية التي حملها الأوروبيّون لأمريكا اللاتينية؟
لنقل أنّ إغفال القتل الممنهج الذي قام به الغزاة لم يأتِ بمحض الصدفة، فمركزيّة المعرفة التي يعاني منها العالم اليوم، حيث تقبع أكبر المكتبات وأهمّ المراجع التاريخية وأضخم المؤسسات الأكاديمية اليوم في أوروبا وأمريكا الشمالية، تعاني بشكل واضح من الإنحياز وعدم الموضوعية، إذ أنّهم أولاً وآخراً يعانون من مرض إنسانيّ قديم من حيث ازدواج المعايير داخل وخارج المجموعة التي ينتمون إليها.
وسنسرد في الفقرة القادمة القليل القليل من الحقائق حول جريمة القتل العمد تلك، في حق هذه الشعوب التي وإن سوّق الغرب عنها معلومات خاطئة -آكلي لحوم البشر مثلاً- فهي قدّمت من المنجزات الحضارية الكثير الكثير، وهذا بعض ما اتصل لنا علم به:
- طوّرت نظاماً زراعيّاً موائماً للبيئة التي تعيش بها، يحقّق توازناً كاملاً. نظام المصاطب أنموذجاً.
- عرفت الكتابة من خلال الرموز الصوتية، مما يعني أنّهم بلغوا من التعقيد اللغوي آخر ما وصلنا له نحن الآن.
- عرفت نظاماً رياضيّاً وحسابيّاً معقّداً واستخدمت حضاراتها الصفر، وطوّرت عدّة تقويمات بعدّة وظائف وهي من أدقّ التقويمات التي توصل لها البشر، وبالتالي كانت معرفتهم بالفلك والرياضيات معرفة عميقة جدّاً.
- عرفت عدّة أنظمة سياسية وعدّة أشكال للعقد الاجتماعي، منها ما يجدر بكل الأمم أن تحسدها عليه.
- طوّرت كل التقانة التي توفّر لها الرخاء، على سبيل المثال ما زال العلماء مذهولين من التربة السوداء “ترّا بريتا” ، وكلّ الأدوات التي تحتاجها للعيش في بيئات أمريكا الجنوبية كانت متوفّرة.
- ولقد أحرق المستعمرون مخازن المعرفة والمكتبات الهائلة التي أنشأتها تلك الشعوب، ومثال عليها مكتبة من أكبر مكتبات العالم والتي نتج عن تدميرها اختفاء لغة فريدة بكاملها “مكتبة الحبال المعقّدة”.
- عرفت أنظمة شبكات الأمان الاجتماعي وضمنت للجميع حقوقهم حتّى في أن يكونوا أشخاصاً منتجين.
- عرفت أنظمة تعليم متطوّرة وفي بعض الأحيان إلزامية.
والكثير الكثير من الحقائق التي تجعلك تتساءل حقّاً عن ماذا يعنيه الأوروبيّون عندما تصف كتبهم هذه الشعوب بالبدائية!
إرث بوليفار | سيمون بوليفار للعرب (2-3)
القسم الأول من المقال كان “اليابسة في آخر الأفق” حول بعض الحقائق المغيبة عن عملية الاغتيال الحضاري التي قام بها المحتل الأوروبي، القسم الثاني من المقال يتناول الوسط الظرفي الذي حدثت فيه الثورة البوليڤارية، فهل تسقط الثورات بالمظلية؟ أم يكفي أن تكون ممكنة فقط لكي تحدث؟ أم هي كالكوارث الطبيعية تحدث عندما لا نتوقعها كما يروج البعض؟
(2)
الثورة هي الخيار الوحيد
“أسئلة حول سياق الثورة”.
مقوّمات الثورة كما يشرحها الباحثون السياسيّون وعلماء الاجتماع هي:
وجود الظلم.
الشعور بالظلم.
العلم بأسباب الظلم.
تشكيل (أداة عامّة) تضمن التعاون الشعبي لرفع الظلم.
طبعاً مثل كلّ العلوم “الراسخة” في هذا الزمن فإنّ المرجع المعرفي لها هو الغرب الاستعماري، ومحاولات التعميم والذهاب للصورة الكليّة التي قام بها الكثير من الباحثين ليست بالضرورة تسعفهم دائما للتخلّص من أمراض المعرفة الغربية، والتي أعدد منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
-التحيّز للانتماء الحضاري.
-الاشتراك في مرجع معرفي واحد وإرث حضاري واحد.
-القياس والمحاكمة يقومان على المُثـُــل والقيم القادمة من مرجع ثقافي واحد.
-أخلاق المكان.
ما أسمّيه (أخلاق المكان) هو مفهوم جغرافي إجتماعي يمكن فهمه من خلال تخيّل ما يترسب عبر الزمن من سلوكات وأخلاق مجتمعية، يتم توارثها بالعدوى المجتمعية، في قنوات تبدأ بالعيش المشترك، ولا تنتهي بالسرديّات التي يعيد تشكيلها المجتمع وربطها بأي ديانة يتبنّاها، مثل الكثير من السرديات الإسلامية التي تستطيع بالقليل من البحث أن تعرف أصلها الوثني في المنطقة العربية، وهذا المفهوم قائم على افتراض اتصال الوجود للمجموعات البشرية في إقليم جغرافي واحد.
وإذا كان الأمر كما أدّعي أنا، أنّ أخلاق المكان تؤثّر بالباحث أو المنظّر الأوروبيّ أو الغربيّ الشماليّ عندما يصوغ قانونا اجتماعيّا، وتتحكّم هذه الأخلاق في مجمل اتّجاهه الفكري، فلابدّ أنّ أخلاق المكان تؤثّر أيضا على الباحثين من بقاع أخرى في العالم، ولو كان تأثيرها هذا محدودا في أحايين كثيرةٍ أمام تأثير العولمة والغزو الثقافي والاستبداد المعرفي الأوروبي الغربي الشمالي.
فيغلب على ظنّي أنّه عند دراسة تاريخ الوطن العربي أو تاريخ أمريكا اللاتينية أو غيرهما من الأماكن، لابدّ من اطّراح كلّ أركان المعرفة جانبا عدا عن شيئين هما: المنطق المجرّد والميل إلى التحرّر من القبضة الغربية الشمالية الاستعمارية ، بما تشتمله الأخيرة على تحيّز للإرث الحضاري للمنطقة نفسها.
إذاً وضمن هذا الاتّجاه لابدّ من التساؤل حقيقة، حول الثورة البوليفارية وأي سياق تاريخي خارج أوروبا وأميركا الشمالية وريثتها في الاستعمار، عن بعض الأمور التي تؤخذ عادة كمسلّمات، أو حتّى كاتّجاه معرفي يقبع في أعماق النفس الإنسانية حتّى أنّه لا يلتفت له كأحد المسلّمات:
هل كانت أمريكا اللاتينية قد أتمّت تحوّلها إلى جزء من العالم المعولم، إبّان الثورة البوليفارية؟ أم أننا يمكن أن نقول أنّها كانت تحمل شيئا كبر أو صغر من إرثها الحضاري إلى مستقبلها؟
ما هي الأجزاء الجغرافية والمعرفية والطبيقة والعرقية والعرفية الأقلّ تأثّراً بالمستعمر في أمريكا اللاتينية؟
هل نشأت ظروف جديدة لا عهد للعالم المعولم بها في تلك المنطقة؟ أتحدّث هنا عن أنظمة وأفكار وطبقات إلخ…
هل تمكّن الدارسون من فكّ شيفرة المجتمع الأمريكي الجنوبي بالكامل حتّى نقول أننا نستطيع أن نجيب عن الأسئلة السابقة دون الانجرار إلى النظرة الاستعمارية الاستبدادية للغرب؟
ما هي الخصوصية التي فرضها وضع أمريكا اللاتينية بعد هذا الاستعمار الأوروبي الطويل، مثلا ما الأثر الذي تركته الوحشية الأوروبية في نفوس سكّان المنطقة الأصيلين أو المحدثين؟
هل نستطيع أن نجيب على السؤال حول ما يحلو لي أن أسمّيه أخلاق المكان، أكثر مميزاتها وضوحا، في أمريكا اللاتينية؟
سأترك الأسئلة السابقة وأعتني بالسؤال الأسهل من وجهة نظري وهو عن أثر أخلاق المكان، المسحة الأمريكية الجنوبية أو الثيمة والسمة التي تشكّل طابعا حضاريّا ينتقل من الماضي للمستقبل ويعبر الزمن محمولا عبر الاتصال الوجودي لشعب أو حضارة معيّنة، حتّى ولو تعرّضت لانتكاسات أو استبداد وقهر وحتى لو شارفت على الانقراض، دام أنّها لم تنقرض.
يقرر الباحثون الغربيّون حقيقة أنّ نظام الحكم في أمريكا الجنوبية القديمة كان نظاما يشبه نظاما اشتراكيّا تعاونيّا، لكن مع اختلافات كثيرة، وإذا أردنا تصنيفه فإنني لا أعرف له تصنيفا أقرب من هذا للحقّ. التناقضات تكمن، أكثر ما تكمن، في أنّ هذا النظام أتى سلطويّا توافقيّا على عكس ما ينظّر اللاسلطويّون من الاشتراكيين التعاونيين.
إنّ هذه الفكرة، وهي وجود أصل تاريخيّ لنظام حكم يمكن أن يخلط الأوروبيّ بينه وبين الديكتاتورية للفكرة التي قاتل في سبيلها القائد الفذّ المحرّر صاحب المشروع الوحدويّ لأمريكا اللاتينية سيمون بوليفار، تدفعنا لإعادة النظر في كلّ ما كتب عنه من هراء واتّهامات ساهم أشباهها ووجود أشباه دعاتها في عصر بوليفار بتكريس النظرة التي نراها فادحة الخطأ نحو المشروع البوليفاري وبالتالي إلى أفشال تتمّته أو تأجيلها فترة طويلة على الأقل.
عموما ولكي نبقى على اتصال واضح مع العنوان الفرعي لهذا المقال “سياق الثورة” نعيد وبوضوح أنّه لابد من اعتبار كثير من المُعامِلات واستبعاد مُعامِلات أخرى عند النظر في سياق الثورة البوليفارية، فكل التحليلات المسكونة بالنظرة النابعة من المراكز الرأسمالية استخدمت تراث أوروبا في تحليل سياق الثورة في أمكنة لا تمتّ بأي صلة لأوروبا.
وهنا هل يمكن تحديد الأصول العرقية لمناهضي بوليفار من أتباع الغرب الاستعماري؟ وحتّى بمعرفة أنّ بوليفار نفسه ليس متحدّرا من أصول عرقيّة للأمم الأصيلة في أمريكا الجنوبية فهو اعتنق ثقافة تجعله ينضوي تحت القومية الثقافية لتلك البلاد، ذلك عدا عن أن أجداده عانوا من ظلم شديد، أمّا مناهضوه فلم يكن لهم الحق أن يتكلّموا فهم أنصار للغرب على بلادهم، ثمّ أنّ كونهم من دعاة ثقافة أخرى يسهّل علينا أن ننسبهم نسبتهم الحقيقية للمستعمر وليس للبلاد.
هنا أجد أنّني لابدّ وأن أزكّي للقرّاء الكرام الكتاب الذي أهداه الرفيق “تشافيز” لرئيس أمريكا ” باراك حسين أوباما” في بداية عهده، وهو” :العروق النازفة لأمريكا اللاتينية: خمسة قرون من نهب قارّة”، من حيث هو تقديم وتوطئة حقيقية لشرح الحالة التي ثار عليها بوليفار، والإشارة لحادثة الإهداء هذه إنما هي للشدّ الانتباه إلى أسلوب معقّد في الحرب الثقافية انتحاه تشافيز، حيث بات هذا الكتاب يحتل الترتيب الثاني على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في الغرب، بعد أن كان غير معروف للقارئ الغربي، في خطوة بالغة الذكاء.
الظرف الأمريكي الجنوبي إبان الثورة يمكن تلخيص بعضه في النقاط التالية:
-ضعف الإمبراطورية الإسبانية المتمثل بسلسلة هزائم أدّت لانحسار نفوذها.
-نزعة انتهازية عند أنظمة كمبرادور الأقليات المنحدرة من أصول أوروبية تحاول الانفراد بالسيطرة على البلاد بعيدا عن المركزية الأوروبية.
-حركة فكرية تنويرية سرّية تؤمن بقيم العدالة، لها امتداد واسع بين الأمريكيين المقيمين في أوروبا، وهذه الحركة كانت بقيادة ميريندا.
-شعب تنهكه الحروب الخارجية والداخلية حتى الكوارث الطبيعية من أوبئة وزلازل لم يسلم منها.
-تحالف بين المؤسسة الدينية والحكام الانتهازيين، أدّى لتناقضات عظيمة يراها الشعب، فهم عليهم أن يبذلوا حياتهم في سبيل حرية منقوصة، حرية من أوروبا وليس من الأوروبيين.
-عالم يشهد تغيّرات متطرّفة، حروب كبيرة، ثورات فكرية غيّرت في بنية العلم والعقل عالميا.
– استمرار للمعاناة التي يشهدها الفقراء والسكان الأصليين واضطهاد الساسة ومحاكم التفتيش، فالشعب يرى تغييرات متطرفة لا ينولها منها شيء، فالثابت الوحيد هو الظلم.
هذه ظروف كانت تنادي الأمة الأمريكية الجنوبية لتنجب بوليفار، كما تنادينا ظروفنا في الوطن العربيّ لننجب رجالا استثنائيين يحملون مشروع الوحدة والتحرر والنهضة، كي لا نكون أمة تعاني من الشيخوخة كما يقول رودريغز معلّم سيمون بوليفار.
إرث بوليفار | سيمون بوليفار للعرب (3-3)
في القسمين السابقين من المقال؛ ناقشنا في القسم الأول “اليابسة في آخر الأفق” بعض الحقائق المغيبة عن عملية الاغتيال الحضاري التي قام بها المحتل الأوروبي، وأثر المركزية المعرفية الأوروبية في نظرتنا المشوهة ومقاييسنا غير العادلة في النظر للتاريخ، وناقشنا في القسم الثاني “أسئلة حول سياق الثورة” الوسط الظرفي الذي حدثت فيه الثورة البوليڤارية، وتراكم التجربة الحضارية لحضارة متصلة الوجود، والأدوات التي أتيحت لسيمون بوليڤار حوله، سنناقش في هذا القسم النظرة الغربية لبوليڤار، ونحاول أن نضع أيدينا على الأسئلة الصائبة التي تتيح لنا إذا سألناها جادّين فهم التجربة البوليڤارية كما ينبغي، ونترك للقارئ بعد ذلك حرية البحث ليتوصل لفهم خاص، لا يعاني من التشويهات التي ألحقتها الإمبريالية بصورته، سواء كان هذا التشوه لحق ما كتب عنه، أو لحق ذهن القارئ العربي الذي بات يقرأ بعينين صنعتا في الولايات المتحدة.
٣. اليسار الذي أقسمه بوليفار
“خذ من الجبال ثباتها … أنت تتحدّث عن بوليفار”.
“قال لي وهو يتكلّم بحيويّته المتوارثة عن أسلافه من سكّان البلاد الأصليين: لا يعنيني ماذا يقول الإعلام عنّي، لقد أنجزتُ للتوّ قراراً يقضي بتقديم كأس حليب ووجبة إفطار لكلّ تلميذ على مقعد الدّراسة في سائر أرجاء جمهوريّة فنزويلا البوليفاريّة … كان قاصّاً بالفطرة لا يُمكن أن تملّ سماعه، وكان يحتفظ ببقيّة من ذلك الجّنون الّذي عُرف به حين قرّر أن يقود انقلاباً عسكرياً مع عدد قليل من الجّنود الّذين كانوا تحت إمرته في حراسة المتحف، يومها شرح خطّته الوطنيّة والاقتصاديّة لإنقاذ البلاد من” براثن الولايات المتّحدة” كما يحلو له أن يقول، لكنّه بعد ذلك وخلال عامين أمضاهما في الزّنزانة قام بتخفيف غلواء ذلك الجّموح وعكف على تأليف كتاب سيتُضمّن كثيراً من أسسه في دستور البلاد، ومنها أن يكون اسمها الرّسمي: جمهوريّة فنزويلا البوليفاريّة، وراح يحكي لي بانفعال عن المحرّر العظيم، ما أخذني بالذّاكرة بعيداً إلى طفولتي حين استوقفني جدّي أمام صورة لبوليفار في غرفة مكتبه، يومها كنتُ في الخامسة من العمر، رفع يده وأشار إلى الصّورة قائلا: هذا هو أعظم رجل في تاريخ البشريّة .. كلام جدّي جعلني أشعر ببعض التّناقض مع كلام مماثل قالته لي جدّتي قبل ذلك بأيّام، لقد قالت لي أيضاً: هذا هو أعظم رجل في تاريخ البشريّة، ولكنّها كانت تُشير إلى صورة للسيّد المسيح، يظهر فيها معلّقاً على الصّليب”.
المقطع السابق يعود لغابرييل غارسيا ماركيز في (يوم التقيت تشافيز).
أنا على قناعة تامّة أنّ أهل تلك البلاد هم الأحق والأقدر على الحديث عن قائدهم ومحرّر أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار. ولكنّني سأتحدّث عمّا يهمّني كعربيّ من شخصين أجدهما في وجداني فكلّ منهما نحت صورة الآخر عميقاً عميقاً، الرّاحلان “تشافيز” و “بوليفار” . لا يوجد هناك تسجيل يطلعني على هيئة بوليفار فيما عدا لوحات لفنّانين وتماثيله (والقطعة الفنية المفضلة عندي هي تمثال بوليڤار في القاهرة) ويبدو أن بعض الفنانين يحبّه وبعضهم الآخر يملك فيه وجهة نظر أخرى، لكنّني كنت أراه أكثر ما أراه في الراحل العظيم “هوغو تشافيز”.
نعم لقد قلت “اليسار الذي أقسمه بوليفار” مع أنّ القسم يكون لليمين، واليمين في العربية الجهة المقابلة لليسار أو القسم ذاته. ذلك عدا عن العلاقة التي عقدها الغرب بين الرجعيّة اليمينية والتقدميّة اليسارية. وكنت أقصد قسمه لمعلّمه رودريغز أنّه سيحرر البلاد من قبضة المستعمر. وباستحضار مواقف خليفته “تشافيز” من القضايا العربية، أستطيع أن أجزم أنّ بوليفار لو كان حيّا كان سيتحيّز بشكل واضح لا لبس فيه لأصالة الدعوى العربية ضدّ حداثة الإمبريالية، أي لنظيره العربيّ محمد علي باشا، والذي يشكل معادلاً موضوعياً له، وهنا فإنّ بوليفار وتشافيز يقدّمان لي دليلاً على أنّ التقدّمية ليست نقيضاً للأصالة، بل إنّ حضارات أمريكا القديمة تقول ذلك بصوت عالٍ يكاد يصمّ أذنيّ.
وأقف حائراً أمام بعض الأسئلة عن بوليفار وأمريكا اللاتينية وأحبّ أن يشاركني القارئ حيرتي أو يهتدي لإجابة لم أنلها: هل كان بوليفار ديكتاتوراً حقّاً؟ وإذا كان ديكتاتوراً، فهل من الخطأ أن يحبّ العرب بعض القادة الذين يتهمون بالديكتاتورية؟ كيف كان سيكون شكل العالم الآن لو أتمّ بوليفار مشروعه الوحدويّ بعد التحرير؟ أيّ إيمان راسخ وعزيمة بركان كان يمتلك هذا الرجل ليفعل كلّ ما فعل؟ هل يمثّل تشافيز امتداداً لبوليفار؟ أم تصحيحاً على نهجه؟ أم كليهما؟ لو كان الشخوص مقالات فهل سيكون هناك مقال آخر بعنوان “إرث بوليفار” أجود من تشافيز نفسه!
يبقى أنّني كعربيّ وأنا أقرأ عن بوليفار تظلّ تدور في ذهني أبيات شعر لشعراء عرب، قالوها في قادة عظام، ماذا كان سيقول أبو تمّام في بوليفار لو عرفه؟ ماذا قال عنه شعراء أمريكا الجنوبية؟ دعني أذكّر القارئ هنا أنّني فارقت مسألة المقالة البحثية وانتقلت للأسئلة وللأدب، وهذا ولو كان قراراً واعياً قصديّاً إلا أنه اضطرار بشكل أو بآخر، لأنّه وكما يعتقد العرب أن الشعر يأتي من عالم آخر، تجلبه “شياطين الشعر” وتسوقه للشعراء، فأنا كشاعر عربيّ أظلّ أتخيّل أنّ سيمون بوليفار نفسه قصيدة في عالم الشعر، لا يعيبها إلّا أنّها لم تترجم كما ينبغي لها، فمثل القصائد هناك قادة أتوا من عالم الشعر وبوليفار أحدهم.
نتحدّث هنا عن رجل بأمّة، عن رجل أدرك وجود أمّة وانتصر لها بعد أن كاد الغرب ليفنيها، عن رجل تمّم وجوده في هذه الأمّة وجود الأمّة كلّها، فعادت أمّة كاملة، هو اعتذار للعرق الأوروبيّ عن فظائعهم، هو انتماء للأرض كما ينبغي. هذا الرجل لا يمكن أن نكتفي عند الحديث عنه بأي حديث على شاكلة ما ورد في ويكيبديا مثلاً مما يجده الطلاب العرب على مقاعد الدرس قريباً وسهلاً فيوردونه كما أتى، إذ تقول ويكيبيديا عنه (تعليق الكاتب سيدرج بين قوسين داخل الاقتباس نفسه):
“سيمون خوريه أنطونيو دي لا سانتيسيما ترينيداد بوليفار أي بالاسيوس (بالإسبانية: Simón José Antonio de la Santísima Trinidad Bolívar Palacios Ponte y Blanco، عاش 24 يوليو 1783 – 17 ديسمبر 1830 م) وطني من أمريكا الجنوبية وهو مؤسس ورئيس كولومبيا الكبرى. أطلق عليه اسم «جورج واشنطن أمريكا اللاتينية» وذلك بسبب الدور الذي قام به في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية: كولومبيا وفنزويلا وأكوادور وبيرو وبوليفيا، التي كانت تحت الحكم الأسباني منذ القرن السادس عشر، وكان بوليفار في شبابه قد زار أوروبا وتأثر بالثقافة الأوروبية (نعم هو زار أوروبا لكن النص هنا يعتبره نتيجة للثقافة الأوروبية بأن يفتتح بذكر هذا) وبغزوات نابليون في أسبانيا وعندما أطاح نابليون بالحكومة الأسبانية وكان ذلك تشجيعا له على أن يفعل نفس الشيء مع الأسبان في أمريكا الجنوبية (وكأنه لا يمكن لأحد أن يفكر حرب التحرير إلا مستلهما تجربة نابليون الامبريالية!)، وأقسم أن يحرر بلاده من الاستعمار الأسباني (هو احتلال وغزو وليس استعمارا!)، وأصبح بوليفار ضابطا في جيش الثورة، وبعد سلسلة حروب طويلة انتصر بوليفار على الأسبان ونالت تلك الدول استقلالها، واشتهر بوليفار كمحرر واحترمه الناس العاديون (ماذا يعني هذا التعبير “الناس العاديون!”)، ولكنه لاقى معارضة شديدة تخللت أيامه الأخيرة عندما هدف إلى توحيد أمريكا الجنوبية كلها تحت سلطته (وكأن مطلب الوحدة هو فقط مطلب توسيع نفوذ شخصي!، وفي الواقع أن الرغبة في توسيع النفوذ الشخصي للمتآمرين على بوليفار ومشروعه هي التي سببت نهايته ونهاية المشروع الوحدوي برمته) وسميت دولة بوليفيا باسمه. وله ميدان وتمثال بأسمه فى مصر. مسيرته ولد سيمون بوليفار في مدينة كاراكاس عاصمة فنزويلا في 24 تموز 1783 وهو ينحدر من أصول باسكية (ماذا عن تراث الاستبداد القوطي ومحاكم التفتيش على الباسك؟) تأثر خلال دراسته بالفلسفة ودرس بشكل خاص لجان جاك روسو الذي ترك أثراً عميقاً في شخصيته. (مرة أخرى وكأن بوليفار نتيجة أوروبية!) سافر بوليفار في مطلع شبابه إلى فرنسا حيث ألتقى بالعالم الألماني ألكسندر فون هومبولت الذي نقل له اعتقاده بأن المستعمرات الأسبانية في حالة استعداد للتحرر، (ألم يقسم قبل ذلك على تحرير بلاده!) فراقت الفكرة لبوليفار وأخذ يمعن النظر في تحرير بلاده.
في العام 1807، عاد بوليفار إلى فنزويلا حيث اشترك في اجتماعات وطنية عدة للتآمر (تآمر!) على السلطات الأسبانية (مهلاً أليس اسمه الاحتلال!) التي كانت تحكم بلاده. واستطاع في 19 نيسان 1810 الإطاحة بالحاكم الأسباني فنسينت دي امبران وإقامة حكم عسكري (وكأن حكم أمبران كان حكماً أمريكياً جنوبياً مدنياً!).
في العام 1811 أعلن المجلس الوطني استقلال فنزويلا فانخرط بوليفار في الجيش تحت قيادة فرانسيسكو ميراندا وأصبح عقيداً ثم عميداً. إلا أن أسبانيا لم تعتبر نفسها مهزومة فقامت بهجوم مضاد على فنزويلا مما دفع ميراندا إلى توقيع الهدنة معها عام 1812، وغادر بوليفار إلى كارتاجينا في غرناطة الجديدة التي أصبحت في ما بعد كولومبيا. ومن هناك أكد أن انقسام شعب فنزويلا هو الذي أعادها إلى العبودية، فتجاوب معه شعب غرناطة وتم تعيينه قائداً لحملة هدفها تحرير فنزويلا. في العام 1813 اشتبك مع الأسبان في ست معارك ودخل منتصراً إلى كاراكاس بصفته منقذاً للبلاد. (ماذا يعني تعبير “بصفته” هنا!) وحصل من جراء ذلك على لقب “المحرر” واستولى على الحكم (استولى!) ، إلا أنه أسس حكماً ديكتاتورياً قوياً ( هل هذه هي الصفات المناسبة للحكم على قائد جيش تحرير يحكم البلاد بعد تحريرها من المحتل) وأنزل أحكاماً قاسية بمعارضيه ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية (لا تذكر ويكيبديا هنا من هم أطراف هذه الحرب وما هي تصنيفاتهم العرقية والطبقية!)، فاستغلت إسبانيا الوضع وأعادت احتلال كاراكاس، (يبدو أنه لم يكن ديكتاتوراً بالدرجة الكافية!) في حين غادر بوليفار فنزويلا والتجأ إلى كارتاجينا (“التجأ” ماذا ينبغي أن تعني هذه الكلمة!).
واصل بوليفار ثورته (الثورة التي انضم إليها وهي ثورة أمة تحولت عند ويكيبيديا إلى ثورة شخص!) وأقام اتصالات مع ثوار السهول الذين انضموا إليه، وفي ربيع 1819 قاد حملة لضرب القوات الأسبانية في غرناطة الجديدة. ويعتبر هذا الهجوم من أكثر الحملات جرأة في تاريخ الحملات العسكرية إذ قام به جيش صغير (2500 رجل) سلكوا طريقاً صغيراً في جو ممطر، وقطعوا بحيرات وجبالاً، كان الأسبان يعتبرون المرور فيها متعذراً وحتى مستحيلاً.
انتخابه رئيساً ديموقراطياً
بعد استسلام القوات الملكية لبوليفار، تم اعلان جمهورية كولومبيا الكبرى وانتخابه رئيساً ودكتاتوراً عسكرياً (“انتخابه رئيساً وديكتاتوراً” ماذا ينبغي أن يعني هذا! هل يعني أن كل الرؤساء المعادين للاستعمار وبغض النظر عن الطريقة التي وصلوا من خلالها إلى السلطة “ديكتاتوريون”؟) لكن هذه الدولة الفدرالية التي ضمت فنزويلا وكيتو (الاكوادور) وغرناطة الجديدة، كانت حبراً على ورق، لأن فنزويلا وكيتو كانتا لا تزالان تحت سيطرة إسبانيا. وشعر بوليفار ان الثورة في اميركا الجنوبية أصبحت حتمية، فعاد لمجابهة القوات الملكية (الغزاة التابعين للملكية الإسبانية) وحرر كاراكاس في حزيران 1821، والاكوادور في ايار 1822. وبذلك تم تحرير جمهورية كولومبيا بأسرها. ولم يبق بأيدي المستعمرين سوى البيرو التي تمكن بوليفار من تحريرها في كانون الأول 1824 باستثناء القسم الأعلى منها الذي حرره مساعده بعد عام فقط. واتخذت هذه المنطقة اسم بوليفيا تيمناً ببوليفار.
في العام 1826 اقام القائد المنتصر حلفاً يضم دول اميركا الأسبانية. ووُقعت اثر ذلك معاهدات بين كولومبيا والبيرو واميركا الوسطى والمكسيك التي اتخذت قراراً في ما بينها بإنشاء جيش واسطول مشتركين، وتعهدت بأن تحل جميع مشاكلها بالتحكيم.
في مطلع العام 1827، دبّ الخلاف بين غرناطة الجديدة وفنزويلا فأصلح بوليفار الوضع، إلا أن الأخيرة ما لبثت ان انفصلت عن كولومبيا في شتاء 1829، فأصيب بوليفار باليأس (هل هو حقيقة اليأس! وهل تؤرخ ويكيبيديا لمشاعر الناس!) وغادر البلاد بناءً على دعوة أحد الإسبان المعجبين به. (يبدو من النص هنا وكأنه غادر لإسبانيا!!! )
ومن المفارقات العجيبة أن ينهي حياته في بيت أسباني في كانون الثاني عام 1830 (نعم أنهى حياته في بيت رجل من أصول إسبانية وليس في بيتٍ إسباني!). يعتبر بوليفار من أشهر رجالات أميركا الجنوبية السياسيين والثوريين العسكريين في القرن التاسع عشر، إن لم يكن اشهرهم على الإطلاق.” انتهى الاقتباس من ويكيبيديا.
كلّ هذا لم يحدث في نفسي الأثر المطلوب لأحسب أنني أعرف شيئاً عن بوليفار، لولا قرأت غابرييل غارسيا ماركيز، وسمعت خطابات تشافيز وتعلّقت بتجربته، وقرأت خوسيه مارتي، وخطابات ورسائل بوليفار نفسه، وكنت قوميّاً عربيّاً اشتراكيّاً، فهل من تقدّمه ويكيبيديا هو بوليفار فعلاً؟ هل هو ذلك الرجل النتيجة الضرورية لسياقه؟ هل ذاته القوميّ الذي كان ينوي توحيد كل البلاد الأمريكية الجنوبية الناطقة بالإسبانية؟ هل هو ذاته الاشتراكي الذي قال “علينا أن نتنوّع أو نموت” عندما لاحظ توزيع الأدوار الإنتاجية في السوق المعولمة؟ هل هو ذاته الذي احتار المفكّرون في تصنيف رؤيته حتّى اتخذت اسماً خاصاً بها “البوليفارية”؟ هل هو ذاته الرجل الذي اكتشف سريعاً مهمّة الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبلها المتوحّش؟
بالطبع لا، بوليفار الذي تلمسه في رسائله وما كتبه قومه عنه بوليفار مختلف، هو ليس سوبرمان ولكنه موجود حيث يودّ أن يوجد أحد أجزائه، بالعاطفة الوطنية الجياشة التي كان يكنّها لأمته، هو ليس مستبدّاً ولكنه يدرك الضرورة ويتحرك حسبها، ولأنّه شخصية مركّبة جدّاً، كان مستيحلاً أن تحيط بسيرته مقالة، فأفردت المقالة كلّها لمحاربة التشويش الذي يفرضه الغرب الشمالي المستبدّ على صورته، فيشوّهها، وينمّطها، لعلّ أن هذا يخلّص صورته في العقل العربيّ مما علق ويحفّز لرؤية جديدة، بالنسبة لي بوليفار هو رؤية جديدة، هو أفق جديد.
ليت شعري لو يتعلّم التلاميذ العرب عن هذه الأمثولة وهم صغار ما يربو على ما يجدونه على الفضاء الافتراضي الذي يمثّل ذراعاً احتلالية أخرى للغرب المستبدّ لو كنت أستاذاً وطلبت من التلاميذ تحضير مادّة عن بوليفار فإنني سأحتفي بأبيات الشعر أكثر من السرد التاريخي، سأحتفي بمن يرجع لمصادر غير معوْلمة، أمريكية جنوبية محليّة، أو بأغاني الثورة أو بالأمثال التي ضربها عهده في الناس فمشت حتّى رسخت كثقافة واسم لأمّته “البوليفارية”. كنت سأحتفي بسؤال شاعري: بم كان يشعر بوليفار عندما لفظ روحه في بيت رجل إسبانيّ أو سؤال معرفيّ يعيد تشكيل الوعيّ كلّه: ماذا كان اسم أرض أمريكا قبل أن “يكتشفها” الغرب الأوروبيّ العربيد!