مغامرة خلف خطوط الخوف

الأصل في التخطيط، سواء كان إداريًّا أو سياسيًّا أو عسكريًّا، أن تكون غايته المصلحة على أفضل وجه، وفي الوقت نفسه أن يتجنّب الأخطار والمخاسر، لكن مهمة التخطيط التي تحتاج لأكبر قدر من الشجاعة هي (أن يتوقّع الأسوأ)،ويتحضّر له، وقد يعني تجنّبُ المخاطر،أو أخذ أسوأ الاحتمالات في عين الاعتبار،أن نضحّيَ ببعض المكاسب المرتجاة، وهذا كلّه يتمّ بعملية موازنة دورية، في نظام تخطيط متزامن مرن.

في الوضع العربي اليوم نحن نواجه مخطط التقسيم الجديد، مضافا إلى نتائج مخطط التقسيم القديم، ونواجه واقع الهيمنة والاستعمار الجديد غير المباشر، مضافا إلى نتائج لحقبة الاستعمار المباشر قديما، ونواجه الاحتلال الماثل اليوم، وإفرازات أطوار هذا الاحتلال عبر الزمن السابق، كل هذا مع العوق الإداري والمعرفي الذي أصيبت به الشخصية العربية، الحاضر في قسم من موروثها القديم، وتركة “عصرالنهضة” غير الناجزة، وفي كثير من واقعها المعيش اليوم، هذا ليس كل شيء بالتأكيد فالوضع معقّد أكثر مما يتسع له الوصف في فقرة،لكن يمكن أن نضرب مثلا لحالنا، بمسنّ مفرط السمنة يعاني من أمراض عدّة، ومن رهاب المرتفعات، ويحتاج أن يعبر قنطرة حبال مهترئة بين جبلين، ليهرب من وحوش لا قبل له بها، وتراكم هذه التحديات أمامه وأمامنا، وضيق الوقت، والإمكانات، يجعل من الوضع كابوساً لسنا بحاجة للإفراط في توصيفه ما دمنا نعيشه!

النفس الثوريّ والإرادة الحديدية قد تزيّن لنا أن نقاتل الوحوش حالاً، أو نعبر القنطرة في التوّ واللحظة، ومهما يكن خيارنا فبالتأكيد الموت ليس خياراً مع أنّه احتمال قائم، لكننا يجب ألا نغفل عن أخذ احتياطنا من السقوط أو الافتراس، ولكي لا نفرط في التمثيل، لنعد للوضع العربيّ،ونقول أننا يجب علينا أن نفكّر في خطة ثانية وثالثة، في حال نجاح مشروع التقسيم،دون أن نعدّ ذلك انهزاميةً، فهو مجرّد تفكير في احتمال قائم بكل أسف، وليس تسويقا لمشروع معادٍ!

كل ما سبق كان لتبرير سلوك معروف ومعتاد في حقل التخطيط، لكن الأذن العربية غير معتادة عليه، وهو يتطلب شجاعة معرفية للخوض فيه، فهو مغامرة وجدانية، يصعب المحافظة على العقل المتزن أثناءها، لاسيما وأننا لا نتحدّث عن خسارة مالية مهما عظمت، بل نتحدّث عن خطر يتهدد وجودنا كأمة، ومصيرنا الجمعي، ناهيك عن مصائرنا كأفراد في هذا المجموع، فإذا حدث ونجح مشروع التقسيم الثاني، فماذا سنفعل؟! وهل لنا من مخرج منه؟!وماذا يتوقّع أن تكون الشروط العصرية في ذلك الزمن؟

نستطيع تخيّل بعض الملامح القبيحة لذلك الزمن:

· انتفاء الرابطة الوطنية في الدولة القطرية العربية بعد تجزيئها، ونشوء روابط حديثة أصغر، وهذه الروابط ضعيفة لا تاريخ لها، وليس لها عمق حضاري.

· الكيانات السياسية المحدثة ستكون بالضرورة كيانات أمنية، الدرك والشرطة فيها، أكبر تعداداً وعتاداً من الجيوش الوطنية.

· الأساليب الأمنية ستكون متطوّرة معتمدة على الغرب في تقانتها؛ أجهزة تصوير، تعرّف محوسب على الوجوه، مراقبة على أجهزة الاتصال، حراسة مشددة على المنشآت، وغير ذلك مما نرى طرفا منه اليوم.

· الروابط في الاجتماع العربي ستعود لحالتها البدائية، روابط ما قبل الدولة؛ العشيرة،الدين، المذهب!لكن هذا لن يلغي الرابطة القومية، بل قد يعززها على بعض المستويات، لاسيما الوجدان، فهي رابطة حقيقية، فوق الظروف العابرة.

· الشركات أكبر وأقوى من الدول، وهذا وإن كان حاضرااليوم، فهو لا يعدو أن يكون طرفا يسيرا،من شكل العالم كلّه حينئذ، فقد تصبح السيطرة للشركات بشكل مباشر على المدى الطويل، (وكان هذا من جملة ما توقّعه عبد الرحمن الكواكبي).

· الاجتماع المتمدّن سيتحوّل لجيوب آمنة ومناطق”خضراء”،في مقابل مساحات عشوائية للمنبوذين،يسيطر عليها الجهل والفقر والجريمة والمجاعة، وعند المواجهة قد تقصف بالطائرات وكفى.

· قواعد عسكرية للقوى الامبريالية والشركات الأمنية منتشرة على مساحة الوطن العربي،أكثر مما هي اليوم.

· طيف اجتماعي باهت، ذو لون متقارب، تعرضت فيه”الأقليات”غير المعتنقة للأيدولوجيا الإسلامية للاضطهاد فالتهجير، أي أننا نتحدث عن مجتمع فقد تنوّعه، ولم يحصّل وحدته!

· نسخة سائدة ومشوّهة جدّا عن الإسلام، تعضد الحالة المتخلّفة وتعمل كقوى قصور ذاتي لتمنع حراك المجتمع!

لا أعتقد أننا بحاجة لوصف الكابوس الحضاري الذي يتهددنا أكثر، لأننا لا نبتغي الترهيب من تلك الحالة بقدر ما نبتغي التفكير في المخارج المتاحة حينها والتي يمكّننا تخيّلُها من التحضير لها بشكل أو بآخر، لا لأننا سنسمح لهذا أن يحدث، ولكن لأننا ينبغي أن نوفّر من أدوات “الخطة(ب)”مالا يكون عائقا في وجه “الخطّة(أ)”، وأدوات الخطتين قد يتعارضا بالفعل ونحتاج للموازنة الدقيقة بينهما، ومما سيكون عونا لنا على تجاوز تلك المرحلة الكابوسية التي وصفناها، ما سنذكر بعضه، دون ترتيب يراعي الأولوية:

· تعزيز الاقتصاد الأهلي، ومنه مثلا؛ مساكن (م.حسن فتحي)،ومساكن (مايكل رينولدز)،و(نادرالخليلي) وهي باختصار بيوت مبنية بمواد محلية أو نفايات،تقوم على إنتاج غذاء سكانها في حدائقها، وهذا يتطلب الحفاظ على طرز البناء غيرالمعتمدة على الدولة المركزية، والحفاظ على سلالات البذور غير المعدّلة جينيّاً، والاعتناء بسبل هندسية مقاومة، توفر طاقة مجانية ومياه نظيفة بتكلفة قليلة، لكن جوانب الاقتصاد الأهلي كثيرة وهي تشكل منظومة معارف حكيمة يجب ألا تنقرض، وهذه المنظومة تمتدّ للمطبخ الموسمي المناطقي الذي يواجه الانقراض اليوم!

· تجديد الخطاب الديني ليكون جامعا لكافة المعتقدات السائدة في المنطقة، أي التوصل لخطاب”إسلامي”بمعناه الأصيل، الذي لا يتعلّق بالمعتقدات بل يتعلّق بالسلوك الجمعي (الأعراف)، وعلاقة الأفراد والمجموعات الجزئية بالمجموع الكبير (القوم).

· تعزيز الفنون غير المكلفة، حيث ستكون هي الحامل للرقي الحضاري في حالة المجتمعات الفقيرةالمتفرقة، وتحميل الرسالة الحضاريةالعربية عليها، مثل الشعر العربي الأصيل مثلا، الذي يحمّل اليوم الكثير من الكراهية للعرب متقنعا بالإسلام!

· الإغراب والإبداع في سبل الإتصال والتنظيم، وقد يعني هذا الرجوع خطوة أو خطوتين من جهة التقنية (مثل شبكة السلكي عند حزب الله اللبناني)،والتنظيم الجماعي ذي القلب الصلب والأطراف الرخوة، حيث يجوز الارتجال ضمن الخطوط العريضة.

· إعادة الاعتبار للبعد الطبقي للصراع، الذي وإن كان صراع إرادات وحضارات، وصراع قوميّات،فهو له تجليّاته الطبقية الواضحة، والتي ستعني تحالفات نضالية من نوع جديد، فالمنطقة العربية تعني الكثير لكل من يتصادم مع الإمبريالية الغربية الشمالية.

· التعليم المجتمعي اللاأكاديمي، حيث الأهالي يقيمون حلقات لتعليم المهارات للجيل الأصغر، مما ينفعهم في حياتهم، كتجربة فلسطين أيام الانتفاضة الأولى، وتجربةالجامعة الشعبية التي هي في طور النشوء أيضاً.

· امتلاك أدوات حرب المدن، والتآلف مع فكرة المناطق غير المسيطر عليها، وتطوير قدرات جيوب المقاومة على خوض حروب الرعاية في تلك المناطق، بل والتآلف مع فكرة الحياة اليومية غير الآمنة، وتطوير استراتيجيات وتكنيكات للحياة والاستمرار بالمقاومة في أسوأ الظروف (أنفاق فيتنام مثالا).

كثير من هذه الجوانب تضر الدولة المركزية العربية، المرسومة في مخيالنا، والتي حين تخيّلناها وحين حاول العرب إنجازها،كان القياس على الدولة القومية الأوروبية إبّان عصر النهضة حاضراً، ولكنها في الوقت ذاته تخفف العبء عن الدولة المركزية أثناءالمقاومة حتى القطرية المتبنية للمشروع القومي منها، وضبط الفوائد والمضار المتوقعة من نجاح مثل هذه الأدوات، يحتاج بحثا دقيقا ومطوّلاً، يساعد فيه أهل الاختصاص، لكن إنما هذه مغامرة ودعوة للتفكير لا أكثر، والنقاط الحاضرة فيها ليست أكثر من أمثلة، لعل هناك سبيلا في الحض على المعركة المصيرية غير طريقة (إن تهلك هذه العصبة فلن تعبد في الأرض أبدا)،فالمعارك ومهما تكن مصيرية فليست هي آخر المعارك سواء ربحناها أو خسرناها، فهذه المنطقة قدرها أن تكون “دارحرب”حتى يتغير الشرط الوجودي للبشرية كلها.