الإنسان متعدد الأبعاد في الظرف أحادي البعد.
لسبب ما ـ مجهول بالنسبة لك، تتخذ موقفاً من قضية تطرح عليك للمرة الأولى، فتؤيد أو تعارض أو ببساطة تتجاهل، فإذا وجدت نفسك مضطراً لتبرير موقفك، تُدهشك سلاسة المنطق الذي يقودك من السؤال المحور للقضية إلى الموقف نفسه الذي اتخذته بدايةً، فإذا كنت مستعداً للتمسك بموقف تحبّه وأنتَ لا تعرف له سبباً، فكيف لا تتمسك بموقف تحبه وتملك عليه دليلاً! وأي دليل!؟ إنه دليل اجترحته أنت، فمن سيقنعك بأنك على خطأ! كم نحن واهمون!!
الفصام الحميد
التسلسل المطروح أعلاه قد لا يراه الجميع، نعم نحن نرى غيرنا يفعلها، لكن بالنسبة لنا نحن فالموضوع مختلف بالتأكيد، مختلف بقدر استحالة أن نرى أعيننا مغلقة في المرآة! تلك اللعبة التي كنا نحاولها صغاراً، وتخيّل لنا سذاجة الطفل أننا قد نرى أسرع من الضوء الذي يجعلنا نرى ابتداءً، وبغض النظر عن السرعة التي نيأس بها من محاولتنا العقيمة تلك، فإن ضعاف البصر بما يكفي، يعرفون تلك المشكلة العويصة التي يقعون بها عندما يفقدون نظّاراتهم، نحن أحياناً نكون بحاجة للنظارة لكي نجد النظارة التي نبحث عنها. من سبق ولمسَ التشابه بين لعبة رؤية العينين المغمضتين في المرآة، والحاجة للنظارة في البحث عن النظارة، أو حتى محاولة رؤية الظلام داخل الخزانة المعتمة الذي ما ينفك يختفي بمجرد دخول ما يكفي من النور لإبصاره، يملك على الأغلب وعياً مركباً، بحيث يكون قادراً على أن يعيَ وعيه، بمعنى أن يكون قادراً على مراقبة تيّار الوعي في داخله. هذا النوع من المُصابين بما يحلو لي أن أسميه “الفصام الحميد”، قد رأوا أنفسهم يقعون في التبرير بما يشبه التسلسل المطروح أعلاه مراراً، وابتسم داخلهم الشيطان ابتسامة طفل أمسكته متلبساً وهو يسرقك فقال لك: إنما كنت أريد اختبار يقظتك!
وكلما حاولت أن أُجملَ تعريفاً للفصام الحميد، صُدمت بحقيقة أن التعريفات تضيّق المفاهيم، والعرب لم يكونوا عابثين عندما أطلقوا على التعريف اسم الحدّ، فالتعريف يحدد العقل، ورسم الحدود بين عنصرين بصريين في لوحة، يحتاج فرشاة رسم أصغر وأدقّ، وتركيزاً عالياً، تماما كذلك التركيز الذي تتطلّبه العينان لإبصار الأجسام القريبة، فتبدو حينها الأجسام البعيدة باهتة متداخلة الحدود. والفقيه المسلم الذي وضع حدّ الزنا -وهو تعريف الزنا وليس العقوبة بالمناسبة!!- فقال إنه تغييب الحشفة في الفرج، أو ضرب مجاز المِروَد والمكحلة، هو نفسه يرفض ما دون ذلك ويعتبر أنه اقتراب من الفاحشة! تمسكاً بروح فكرته عن العفّة، فإذا ركزت البصر على مفهوم العفة تبصر انزياح حد الزنا، وإذا ركزت على حد الزنا بات مفهوم العفة غائماً. لذلك كله أهرب للمجاز في تعريف الفصام الحميد، بالقول هو أن تبصر نفسك وكأنك غيرك، أن تحمل مرآة صغيرة في حقيبتك، تنظر فيها كلّما لمَحتَ اتساعَ الاستغراب في عيون الناس وهي تنظر إليك، أن تملك عدسة كاميرا لا-محدودة البعد البؤري. وسأكتفي بذلك متمثلاً قولَ النفّريّ : “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة!”.
الإيمان بين الثبات صموداً والثبات جموداً
في سبيل فهم كون الفصام الحميد حميداً، نتذكر تكرر أسطورة المشي على الماء، بين موسى، ويسوع المسيح، وقصص كرامات المتصوفة، حتى بلوغها سحرة الفضائيات، وبغض النظر عن كونها حدثت أم لا، فهي لا تروى كخارقة إلا لكونها مستحيلة! ولتنظرْ قولَ أسطورة الفارس العربي، الذي قاتل الأسد كي يتزوج من ابنة عمّه؛ بِشر بن أبي عوانة، حين اشتكى من ذعر حصانه وتقاعسه، لدى مشية الأسد الواثقة وخطاه الثابتة -والأبيات أصلاً لعمرو بن معد يكرب- :
تبهنسَ إذ تقاعس عنه مُهري …. محاذرةً فقلت عُقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني …. رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وكثيراً ما نستخدم التعبير الشائع “أريد أرضاً ثابتة لأقف عليها”، فنحن نخاف من مشهد الغرق في الرمال، حيث ذعر الهرب الذي ينجيك عادةً، هو نفسه ما يهلكك إذا وقفت فوق الرمال المتحركة، ذلك المشهد الذي زرعته السينما عميقاً في رؤوسنا، فالأرض الثابتة تخولنا أن نثبت في القتال مثلاً، أو تخولنا أن نقفز عالياً بدل الغوص عميقاً في الرمال.
أما الثبات المذموم فهو ثبات الجمود، وكُره التغيير، والإخلاد إلى الأرض، أو التثاقل -حسب التعبير القرآنيّ- والتعلّق بنطاق الراحة، حيث هو كالموت بل هو الموت الحقيقي الذي نشعر به، فنحن كما يقول الفيلسوف الرّواقي “أبيقور” لا نشعر بموتنا بل إن موتنا لا يحدث إلا بعد انتهاء وجودنا أو انتفاءه، هو يستحيل أن يحدث لنا، فوجودنا ووجود الموت لا يتقاطعان، وبذلك فالموت الحقيقي هو الثبات جموداً، ذلك الثبات الذي تكرسه القوى المستفيدة من الوضع القائم “الستاتوسكوب”، وأصداء الخيبات في الأنفس الفارغة التي اعتنقت حلم التغيير على حين نزوة، واعتبرت نفسها شُفيت منه بالمنخوليا المزمنة، السوداوية التي تصيب الحالمين المتقاعدين، أما الثوار الحقيقيون مثلاً فيعلمون أن المستفيدين من الوضع القائم والمحبطين، كلاهما قوى شد عكسي، لا يشفى المجتمع منها سوى بصدمة كهربائية، تقتل بعضهم وتحيي بعضهم، وهي ما يسمى بالظرف الثوري.
ولأننا نعيش تناقضاً حقيقياً بكوننا لا نستطيع أن نتفانى في العمل دون أن نمتلك ما يكفي من الإيمان من جهة، ولا نستطيع أن نغير صورتنا الذهنية، ونكسر قيود الأنماط، ونسمح لأنفسنا أن نحلم إلا إذا امتلكنا ما يكفي من الشك من الجهة الأخرى، فنحن نحتاج لنوع من الفصام الحميد. والفصام الحميد هنا شيء غير الاستلاب، وقد تلمسه ماركس في بعض القوى العمّالية التي نهضت في وجه رأس المال، رغم كونها متديّنة، فحيّرته، ربما كانت هي أيضاً مصابة بالفصام الحميد، الفصام الحميد هو تعاقب البناء والهدم بل تزامنهما، أو لنقل هو عمليات أيْضٍ ذهنية تُبقينا أحياء، قادرينَ على العمل حيث لا متسع للشك ، وقادرين في الوقت نفسه على الشك كي لا نموت كالنحلة التي تقتل نفسها ارتطاماً بزجاج لا تبصره! قادرين على التفكير العميق الذي لا يورث “عجز العالِم”، دون أن نستغنيَ عن سرعة البديهة المتحمسة التي تُظهر “جَلَد الفاجر”، فإن كان عليُّ بن أبي طالب قد قال: “يقصم الظهر اثنتان: جلد الفاجر وعجز العالم”، فلنجدْ بين هذا وهذا جلد العالِم من خلال فصامنا الحميد.
صندوق العدة: سرعة البديهة والتفكير العميق
دهشةُ المعلمة من اختلاف عقول الطلبة، ظهرت جليّةً على وجهها بمجرد تلقيها الإجابة الثانية على سؤالها: لماذا ينزل المطر؟ كانت الإجابة الأولى من طفل متحمس يجلس في الصف الأول: “بسبب تكثف بخار الماء في الغيوم” وكانت الثانية من طفل يجلس بهدوء إلى جانب الشباك في الزاوية البعيدة في القاعة الصفية: “لكي يحيي الأرض بعد موتها”، المعلمة هنا كانت أمام نوعين مختلفين من التفكير، التفكير العلمي المباشر والتفكير الجانبي، ولننظر في هذه المقابلات: تتبع البرهان أم تتبع المؤدّى، التفكير العميق أم سرعة البديهة، العلم النظري أم العلم التجريبي، العلم أم الفلسفة، الشك أم اليقين، المنطق أم الإيمان، التركيز أم الصورة الكلية.
عندما تُواجَه بدعوى صدرت عن إرادة أعدائك، ويخبرك حدسك الذي تظنه بعيداً عن العلم أنها خاطئة، فإنك إن لم تستطع التصدي لها بتتبع البرهان من خلال التفكير العميق لسبب أو لآخر، فأنت تواجهها بسرعة البديهة؛ تأخذ موقفاً ثم تقوم بتبريره، تحاول معرفة طريق صعود الجبل بتؤدة وأنت تهبطه، وقد وقعت بالمظلية على قمته على حين موقفٍ اعتنقته ذات حدس. الحدس ليس مناقضاً للعلم تماماً فهو مبنيّ على صورة كليّة أنت رسمتها عن العالم من حولك على مدى عمرك، فهل تضرب بنتاج عمرك عرض الحائط، وتخلد للشك الهدّام! أم تقاومها بيقين هو الثبات صموداً! تأكّد أن سلاح الإمبريالية الأول هو الليبرالية التي تقوم على تمييع المفاهيم، لذلك فإن أوّل ما تسمعه من الليبرالي عادة قوله “الحقيقة نسبية”، ولكن هذه “الحقيقة النسبية” لا تلبث أن تتحول لمفاهيم جامدة في صالح الإمبريالية لا تمت للنسبية بصلة، وكل “حقيقته النسبية” تلك لا تعدو أن تكون محاولة لإخلال توازن القوى المتصدية للإمبريالية مهما كان توجهها.
إلى أن يتصدّى التنظير بوصفه سلاحاً ثورياً لهذه الدعوى، فيواجهها فكرياً، ويمحّصها فيأخذ ويترك ويصدّ، حتى ذلك الحين، علينا أن نصادمها بنقْض يتتبع المؤدّى، (إلى أين ستؤدي بي هذه الفكرة؟) أن نُعمل سرعة البديهة، وألّا ننجرّ لدهاليز التفكير العميق، من ثمّ يأتي التنظير ليتتبع البرهان فيثبت خطأها. فالمفكر الثوري لاعب جودو محترف، يعرف كيف يثبت في مكانه (صموداً) مثل الكرة التي تدور حول نفسها ثابتة مكانها، كما كان يثبت مقاتل الساموراي دون أن يختل توازنه مهما اشتدّ الهجوم، لكنه يصادم متى لزم الأمر، ليقضي على خصمه قضاءً مبرماً. هنا؛ كيف ننجو من كون ثباتنا أمام الشك أو صدامنا ما قبل التنظير، موتاً أو ثبات جمود؟
ليست ميكافيلية فكرية!
لن نعدم أن نجد من يتهم المراوحة بين التنظير والتبرير بالميكافيلية الفكرية، وهي وإن بدت على أنها تناقض بشكلها الظاهري، من حيث الإجراءات فهي متسقة قيميّاً، والقيمة هنا هي الإرادة الإنسانية – الإرادة برأيي هي المصطلح العربي الذي يتناسب مع مفهوم “الحرية” الذي ضاع حين ترجم بانزياحاته وتنازعه بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي – فالإرادة لا تنفصل عن التفكير ولا تنفصل عن العمل أيضاً. وحيث أن القيمة إذا أُسقطت على واقع مختلف تتطلب إجراءً مختلفاً، فالإرادة في ساحة الفكر تنتج البرهان والمراجعة الجادة والشك المنهجي، والإرادة ذاتها في ساحة العمل تنتج الموقف الحازم، الواضح، سريع البديهة، المعافى من أمراض الميوعة والقادر على المجابهة والحشد، وسرعة البديهة هنا تضمر التنظير إضماراً ولا تلغيه، أي أنها تحتويه كروح كامنة داخلها، كالفاعل المستتر وكعلامة الإعراب المقدرة في اللغة، وهذا ما يغفله بقصد أو غير قصد فلاسفة عظماء من نجوم الفلسفة في هذا العصر، عندما يطيلون تفكيك المصطلحات، فإذا سألته “هل تشرب الشاي؟” انطلق يغوص في أسئلة من مثل: بما أن الإنسان يتغير مع الزمن، فعن أي (أنا) تتحدث؟ وما مفهومك للشرب هل تقصد الآن أم عادة أم مجرد القابلية للإتيان بالفعل؟ ثم عن أي شاي تتحدث هل هو أخضر أم أحمر وبأي نكهة!؟ بسكّر أم…..- ها! حضرة الفيلسوف… اصمت قليلا!!! أولاً: كل المعاني التي تظن أنك تفتّقها اتفق البشر عليها في اللغة وعليك فهمها وهي مضمرة لنعرف أنك تتقن لغتنا، ثانياً: أنت أضعت على نفسك فرصة شرب كأس الشاي!.
هذه المراوحة ليست أرضاً صلبة ولا رمالاً متحركة، إنما هي رفّاصةُ “ترمبولين” للإرادة الإنسانية، تجعل قفزتك أعلى ولا تغرقك في الوحل، هي وسيط آخر، هي حاسة اللمس التي تستعين بها لتجد النظارة التي أضعت، هي الكاميرا كوسيط تستعين به لتجميد الصورة في الزمن كي ترى نفسك مغمض العينين، هي الخيال الذي يساعدك على تخيل العتم في الخزانة المقفلة، هي عمليات الأيض من البناء والهدم المستمرين، حيث تنبع الحياة. فإن كان للّايقين العلمي مزاياه الذهنية فللإيمان بحتمية النصر مزاياه العملية، ولا أرى أبا الطيب المتنبي كان دوغمائياً عندما قال: “من الحِلم أن تستعمل الجهل دونه، إذا اتسعت في الحِلم طرق المظالم”، فهو يميّز بين الجهل الجهل، وبين الجهل الذي يضمر حكمة من خلال مؤداهما، أما الجهل الذي يحاكي ثبات الجمود، فهو الذي يكرر فيه الشخص ذات الفعل متوقعاً نتيجة مختلفة (تعريف للحماقة في قول منسوب لآينشتاين)، بطوباوية خيالية تعاني من كل آفات المعرفة مجتمعة، كأصحاب “الإسلام هو الحل” مثلا! المصرّين على إنتاج صورة خرافية لحكم ديني لم يكن واقعاً خلال التاريخ كله، ومع ذلك يظنونه مثالياً، مع أنه نُقض على صعيد النظرية والبداهة والممارسة، فيحملون لنا الخراب والدمار والاستعباد والغباء أينما حلّوا، فترى البلاد وكل شبر فيها يتحول إلى الصومال! ثم يتوسعون في تبرير كل شيء، هذا تبرير فارغ لا يضمر أي حكمة، وأما التبرير الذي يأتي ليُجمل حيث لا ينفع التفصيل وليُضمر حكمةً لو أُبديت لَظهرت مكرورة ممجوجة، كبيت شعر أو آية أو مقولة تحوي ظاهرياً على مغالطة منطقية هي في مؤدّاها صحيحة كمن وصل للمنتهى الذي يريد من طريق لا توافق الخارطة، هل هذا يغير شيئاً في كونه وصل؟! هذا التبرير ما دام لم تستطع الإرادة المضادة ضحده بالدليل العلمي الرصين، وبتقديم البديل الفعال، ممثلاً بصواب وحيد آخر، واكتفت بإخلال التوازن بكلمات مشككة، هذا التبرير …نعم… قد يحوي على مغالطة بالفعل، لكنه ما دام في مؤدّاه يحضّ العبيد على تفعيل إرادتهم ثم كسر إرادة المستعبِد فأهلاً وسهلاً به، هنا يغدو التبرير مبرّراً، بل هو البرّ بعينه، ثم من قال أن التنظير لا يضمر التبرير مهما كان المفكر حريصاً على الموضوعية!
أجدادنا كانوا يبنون القناطر والجسور بدون حسابات هندسية، (الحسابات أجريت لكن تحولت لطريقة يجهل من يطبقها الحسابات وراءها)، وليس مهماً أن يكون كل حجر في القنطرة ثابتاً عند وضعه، بل المهم أنه عند وضع “حجر الغلق” يصبح الجسر متماسكاً، وحينها نعبر إلى الجهة الأخرى. هيا فلنبنِ قناطرنا ولنعبرْ نحو الحياة، مهملين المشككين، فهؤلاء إما مستفيدون من الوضع القائم أو محبطون، لكن دون أن نهمل المراجعات الإرادية التي تفرضها علينا المسيرة، لنحارب السكون، فالماء الساكن آسن، والماء يطهر بالجريان.