النظرة الماديّة للكون ليست بالضرورة لا أخلاقيّة أو لا قيميّة كما يسوّق الفكر الديني، فسؤال الجدوى هو سؤال قيميّ في النهاية، أعرف أنّني غير مفهوم الآن لكن مع التمثيل على سؤال الجدوى سيتضح لك، وقبل أن أشرع بذلك دعني أنبّهك على أن الفكر الديني ليس بالضرورة ضدّ سؤال الجدوى بل هو مشتمل عليه لكن في النهاية سنتساءل معاً عن أكوام اليقينيات أو الأسئلة المستعصية الأخرى التي يحصرنا فيها الدين فيتركنا عاجزين عن التفاعل الحقيقي مع سؤال الجدوى.
لنبدأ معا بفكرة الاستقرار الكوني (أن الطاقة والمادة مجموعُهما ثابت لا يستحدث ولا يفنى) وأسئلة الجدوى التي يمكن اشتقاقها من هذه الفكرة:
ما المجدي أكثر :
– أرطال من الدهن المتراكم حول خصرك الزائد عن حاجتك والذي يجعل جسدك قبيحا وصحتك مترديّة أم عشرات وجبات الطعام الصحية التي يمكن أن تنقذ حياة عدة أشخاص من ملايين الجياع حول العالم. (هي سعرات حرارية وضعت في غير موضعها في النهاية).
– أكوام النفاية التي تملأ حيّك أو يصدّرها حيُّك لأقرب مكبّ نفايات لتتحول لدخان يلوث الهواء عن طريق الحرق أو لسموم في الأرض عن طريق الطمر، أم مواد أولية تساعد الكثير من المجتمعات الفقيرة للوصول لتنمية تؤمن لهم سكنا وصناعة وتجعلهم منتجين.(هي مواد أولية وضعت في غير موضعها في النهاية).
– ليترات الوقود المبددة في تجوّل شخص واحد في كل سيّارة تتسع لخمسة، أو في تدفئة منازل شاسعة المساحة، أو في نقل السلع غير الضرورية لمكان يكون ثمنها فيه أعلى، أم صرف تلك الطاقة في معامل أو مزارع منتجة في أماكن أكثر سكّانها عاطلون عن العمل، يقتلهم اليأس والجوع.(هي طاقة روابط كيميائية وضعت في غير موضعها في النهاية)
حسنٌ… الأمثلة السابقة أمثلة عالمية غالبا توجّه للجمهور الغربي مع أنها تنطبق على كثيرين من غيره، لننتقل إلى أمثلة أخرى أكثر التصاقا بثقافتنا:
– الساعات التي تزجيها وأنت تلعب الورق أو تتحدث على الهاتف حديثا فارغا، أم قراءة كتاب وتعليم طفل وتوعية مجتمع بعد أن تكون وعيت و الاعتصام أمام سفارة العدوّ في بلدك!(هو وقت وضع في غير موضعه في النهاية)
– الرصاص الذي تطلقه في الأعراس ليقتل نفسا برصاصة طائشة، أم تصويب تلك الرصاصة نحو العدوّ لتأمين أهلك أو تحرير أرضك! (هو رصاص وضع في غير موضعه في النهاية)
وهكذا تستطيع تفتيق عشرات الأسئلة التي بدأت تتبادر لذهنك بالفعل: الصلاة أم العمل، الحرب على النظام السوري أم على العدوّ الصهيوني، الجدال الفارغ أم الالتزام بالمنطق العلمي، إسقاط الأنظمة والفوضى المترتبة على ذلك أم العمل على خلق تنظيم يشكل أداة عامة قادرة على تحقيق مصالح الناس، الشتم أم النصح… إلخ.
أظنك تعي بالفعل بديهية الطرح، ولا ترى فيه فتحا علميا، ولكن ما الذي يحجبك عنه؟ وما الذي يحافظ على الدهن ملتفّا حول خصرك، أ وعلى عدوّك جاثما فوق صدرك؟ وما بينهما من أسئلة! أزعم أنا أنّ السبب في كل ذلك هو عدم إيمانك بفعاليتك كإنسان، ما سلبتك إياه يقينيات صبّها الفكر الديني الشائع في وعيك العميق (والدين براء منها)، حتى أن الكلام وإن كان مقنعا فهو لا يجد سبيله للتنفيذ بسبب اغترابك عن وعيك واستلابك للأمر الواقع، وإيمانك المنتن أنها أقدار من الله، وما هي إلا خيارات جماعية، فليس كل ما هو ليس من عند نفسك فهو من عند الله بالضرورة، فالله يقول:{قل هو من عند أنفسكم} لاحظ أنه لم يقل فهو من عند نفسك! بل خاطب الجماعة!
أختم بلفت انتباهك إلى فكر دينيّ مغاير، كان له الفضل تاريخيا بنشأة الحداثة الغربية، ولو أنه بالأصل عربي، يقوم أساسا على فكرة العدل (ويعرِّف العدلَ بأنه: وضع الشيء موضعَه)، ويقوم على العقل الذي لا تتعدد أحكامه كما علموك في المدرسة من ذهن إلى ذهن! وعلى الإيمان بالفعالية الإنسانية التي كان اسمها عندهم القول بخلق الإنسان لفعله، بل إنّه يتبنّى التفسير الماديّ للكون، ولا يرى في ذلك تصادما مع الإيمان الإسلامي. ألا وهم أهل التوحيد والعدل، من شاع اسمهم (المعتزلة).
ليست هذه المقالة للترويج للمعتزلة، أو لإنصاف الملحدين أو الدهريين أو المؤمنين بالتفسير الماديّ للكون، بذبّ التهم اللاأخلاقية التي يلوكها كاهنك ضدّهم، بل هي محاولة لحضّك على الفعل ولردّ الإجراءات المطلوبة للحقائق المستقرأة، بعيدا عن الأحكام الذهنية التي تصدر عن ذهنيّة مستلبة لكلام فلان أو حتى لكلامي أنا.
أختم بلفت الانتباه (هذه المرة سأختم بالفعل) والتشديد على أن سؤال الجدوى لا يطرح مجزّأً كما قدّمت لك من أمثلة توضيحيّة، بل يطرح ضمن فهم شموليّ للواقع، وإدراك عميق للعلاقات التي تربط الحقائق ببعضها البعض، وفهم أثر الإجراءات المطلوبة على أجزاء أخرى من الواقع، غير ذلك الجزء الذي نتوخّى علاجه من خلال الإجراء، وهكذا فأنا هنا أهدف للقناعة بمفهوم شموليّ وهو العدل، ولا أعرف لماذا أميل لتذكيرك آخراً بحقيقة من تراثك الديني؛ أن العدل اسم من أسماء الله!