الأصول الجينية للأديان | مقالة ميسّرة

قدّم عدد كبير من جينولوجيي الأخلاق أطروحاتهم، وأكثرها وجاهة كما أرى هو طرح (ماكنتير)، الذي عزا في كتابه (ما بعد الفضيلة) الأخلاق إلى التجربة المجتمعية، لكن لو لم يكن ثمة أصل جينيّ للأخلاق، فلم نكن لنجد هذا التقاطع الكبير في المنظومات الأخلاقية، الذي يعزوه الدينيّون إلى أن الإله واحد.

هذا التقاطع يتجاوز المجتمع البشري، إلى سائر الثديات، وهو يبنى على مجموعة من الميول الغريزية، الموجودة في ما يمكن أن نسمّيه ميلا فطريا.

ليس معنى هذا أن الإنسان يولد مع معرفة مسبقة معدّة في عقله، هو بالفعل يولد جاهلا، لكن لديه توجّه بخصوص هذه الأمور الغريزية، ويستطيع أثناء نموّ عقله أن يعاظمها أو يجعلها تتلاشى بوساطة التعلّم.

عدد هذه الأمور المشتركة هو خمسة:

الرعاية من الأذى: يميل الإنسان والثديات عموما إلى حماية من يشترك معه بالجينات من الأذى.

النزوع للعدل: تميل الثديات عموما، والإنسان بينها، بصورة فطريةإلى عدم الجور حفاظا على الموارد.

الانضمام إلى جماعة: تميل الثديات إلى أن تكون عضوا في جماعة.

احترام السلطة: سلطة المجموعة، سلطة الأب، سلطة الكبير، سلطة رئيس الجماعة، كلها أمور محترمة بصورة فطريةعند الثديات، والإنسان ليس استثناء.

النزوع إلى الطهارة: تنفر الثديات مما تصنفه أوساخًا بصورة فطرية، وكلما كان الجهاز العصبي المركزي أعقد، تعقّد معه الميل إلى الطهارة، حتى وصل للجنس مثلا.

بنى الإنسان في مختلف مجتمعاته وثقافاته نظامه الأخلاقيّ فوق هذه الأصول، وجعلها أكثر تعقيدا، وصولا إلى نوع من العرف الجماعي، الذي نقله إلى خلفه، وصار هذا العرف يتعقّد ويتوارث في كل مجتمع على حدة، حتى بات لكل مجتمع نظام أخلاقيّ مختلف.

لأن الميثوس (الخرافات) واللوجوس (العقلانية) ليسا على طرف نقيض كما يتصور الناس، فإن المجتمعات استغلت الميثوس لتمرير المنظومة الأخلاقية للأجيال اللاحقة، فمن خلال القصص الأسطوري، يمكنك تمرير أفكار وأخلاقيات يصعب شرح وجاهتها بصورة عقلانية لطفل.

تطور القصص الأسطوري مع الأعراف المجتمعية، جنبا إلى جنب، وغدا ثمة منظومة متكاملة للأخلاق، في كل مجتمع من المجتمعات. وعرفت هذه المنظومات فيما بعد باسم الأديان“.

أعرف أن كل قارئ ينتمي لديانة محددة يرى أن ديانته فوق هذا التفسير الذي يطرحه العلماء، ولكنه بالتأكيد يرى أديانا الأخرى مشمولة بهذا التفسير بصورة أو بأخرى.

نعود إلى (ماكنتير) الذي يرى أن الأخلاق محلية وليست كونية، وهو محق إلى حد بعيد في هذا، لكن هذه المنظومات المحلية، لها أصل كوني عام بحسب علماء الطبيعة، والاختلافات التي تنشأ بينها سببها خبرة المجتمعات كما يقول (ماكنتير).

هذه المنظومات\الأديان كانت أكثر مرونة قبل اختراع الكتابة، الكتابة حدّت من حرية تطوير المجتمعات لمنظومتها الأخلاقية، لاسيما بعد وجود نصوص مقدسة، ولم يعد ثم فسحة إلا فسحة إعادة القراءة، ولمّا كان دائما ثمة ما يخشاه المجتمع، فقد ظهر أعداء هذه القراءات الجديدة للأديان، وهذه هي الأصولية الدينية!

هذا السرد مبسط جدا، والغاية منه تعميم المعرفة، لكن لابدّ من تناول الأمر بتوسع أكثر في مقالة أخرى.