4 أسئلة عن العلمانية والإسلام | مقالة ميسّرة

هذه المقالة تناقش أفكارًا شائعة عن العلمانية والإسلام، وكان الدافع لكتابتها مخاطبة البسطاء بلغة واضحة، ولهذا فقد يراها القارئ المختص تحوي تبسيطا مخلّا، وأتمنى ألا يكون التبسيط، الذي أقر بوجوده، مسببا لأي خلل حقيقي في توضيح المفاهيم.

هل العلمانيّ ملحد؟

بعد محاولة الإخوان في النقابات التغطية على جبنهم المعرفيّ، والهجوم الذي شنّوه إلى جانب أحلافهم يقودهم زغلول النجار، ويظاهرهم على من اعترضوا زكريا الشيخ بقناته المسماة “الحقيقة الدولية”، انتشرت فكرة أن العلمانيّ ملحد بالضرورة، أكثر مما انتشرت سابقا في جدالات مجتمعية سابقة في الأردن حول المناهج ودعم الإرهاب في سوريا وغيرها.

تنطع زغلول النجار على إذاعة حياة إف أم، وزعم أن العلمانية تسمية خاطئة، والصحيح هي العالمانية، وهي حسب تفسيره، تعني الدهرية أو الإلحاد، ورصف أركان الإيمان الإسلامية، نافيا أن يكون العلمانيّ مصدّقا بأي منها.

هذا الطرح تكرر في أماكن لا أستطيع إحصاءها، ولذلك سأكتفي بالرد عليه، دون تعداد الذين أرد عليهم.

المصطلح الهرائي الذي طالعنا به زغلول، أي “العالمانية”، ليس من بنات أفكاره، بل هو من نحت د. سامي العامري، وهو لم يقرأه قراءة بل سمعه في شرائط سامي العامري، الموجودة على يوتيوب، وهو في الحقيقة مصطلح بائن الخطأ، وسأوضح لماذا.

حاول سامي العامري، ذو الفكر المتزمت، نحت المصطلح من أصله اللاتيني “سيكيولار”، واكتفى بأول المعاني التي ظهرت له، وهي “عالمي”، لكنه أيضا يعني “الظرفي”، “المتغير”، والذي يتبدل كل مئة سنة. والمصطلح عَلمانية أدق لأنه نحت من الجذر “عَلَمَ” ومنه العلامة والعلم والعَلَم وهو الراية أو الجبل، وكل ما هو مدرك بالحس أو تفاعل العقل مع الحس.

فالعلمانية يمكن أن نسميها أيضا الشاهدية، أو المشهودية، أي إصدار الأحكام طبقا للمشاهد المعلوم، وليس تبعا لأفكار غيبية عند هذا أو ذاك، وهي تعني في الحقل السياسي: عدم تولية المؤسسات الدينية أي صلاحية في الحكم. يختصرها الناس اختصارا فيقولون: فصل الدين عن الدولة.

إذًا هي ليست معتقدا حول الغيب ليكون المتبنّي لها بالضرورة ملحدا أو مؤمنا، فمن حاول جعل العلماني ملحدًا بالضرورة، لأنه رأى علمانيين ملحدين، هو مثل الذي يحاول جعل المهندس مريضا بالبلهارسيا بالضرورة، لأنه رأى مهندسا مصابا بها.

هل يتعارض الإسلام مع العلمانية؟ 

من الممكن صياغة السؤال في الأعلى عدّة صياغات:
هل يتعارض الإسلام مع الظرفية؟
هل يتعارض الإسلام مع الشاهدية أو المشهودية، التي وضحنا أنها ممكن أن تكون أسماء للعلمانية؟

وهناك سؤال آخر:
هل تتعارض العلمانية مع الإسلام؟

في الحقيقة علينا النظر في معنى الإسلام أولا، مادمنا نعرف الآن معنى العلمانية.

الإسلام له صفتان: دين وديانة.

كديانة فالإسلام مثله مثل جميع الدينات لا يتعارض مع العلمانية، لأن العلمانية تحفظ حق الاعتقاد الشخصي لكل من تحت ظلها، أي لك الحق في أن تدعو لدينك، وأن تمارسه، وأن تعتقد به.

أما كدين فالإسلام يقدّمه الإسلاميون كنظام حياة أمة، وليس كنظام حياة فرد، ولذلك فثمة نسخ من الإسلام تتعارض بالفعل مع العلمانية، وهي جميع النسخ التي تتبنى مفهوم “الحاكمية”، سواء كانت شيعية أو سنية أو تابعة لأية فرقة أخرى.

لكن برأي كثير من قادة الرأي الإسلاميين من مفكرين وقادة دول، فالإسلام الذي يعرفونه لا يتعارض مع العلمانية، ولأن الإخوان يؤيدون أردوغان (بغض النظر عن رأينا فيه)، ولأن برنامج الحقيقة الدولية احتج بأن الأردن يحكمه الهاشميون، وبكون “دين الدولة الإسلام”، فيحسن ضرب المثالين.

قال أردوغان في عدة مناسبات، أنه ملتزم بكون تركيا دولة علمانية، وهو لا يرى بين إسلامه وبين العلمانية أي تعارض، بل وإنه لاحق حزبا منشقا عن حزبه، مستغلا القوانين العلمانية، التي تحظر تدخل الدين في السياسة.

أما الملك عبد الله الثاني فقد قال في مقابلة له مع الصحفية التركية ديبا غوكسل، ما نصه: “لا يوجد أي تعارض بين صحيح الإسلام وبين التنمية والديمقراطية و… و… وكل ما يُعدّ قيما علمانية” والمقابلة منشورة على موقع الملك عبد الله الرسمي.

هذا يفترض به أن يُخرِس كل من يقول بأن العلمانيّ ملحد، لكن قد لا يقنعه تماما، فسنأتي على شرح زعم أطلقه أنا “الإسلام نظام علماني”.

كيف يمكن فهم الإسلام على أنه نظام علماني؟ 

اتفقنا على أن كلمة علماني معناها ظرفي متغير بمقتضى المدركات الجديدة، وأن هذا يعني منع تحكّم الغيبيات في الحكم، لأنها غير قابلة للإدراك والمحاكمة.

واتفقنا أيضا على أن الإسلام ليس إسلاما واحدا، فثمة إسلام الديانة (المعتقدات)، وإسلام الدين (النظام)، وأن كليهما مختلف عليه عند الفرق الإسلامية المتعددة، وليس ثمة إسلام محدد يمكن الإشارة له.

وأن عددا من قادة الرأي من كتّاب وقادة لا يجدون أي تعارض بين العلمانية والإسلام.

فهل نتمكّن من إقرار صفة الظرفية للإسلام؟

أولا علينا تثبيت هذا المفهوم من القرآن، ثم من السنة، ثم من سيرة الصحابة، ثم من سيرة التابعين.
وفي كل مرة يجب أن يظهر الإسلام ظرفيته من خلال الوجه الذي نتناوله منه نفسه، وليس من خلال تناقض بين إسلام القرآن وإسلام السنة أوإسلام الأئمة والصحابة أو إسلام التابعين.

نبدأ من الأئمة والتابعين:
غير الأئمة فتواهم بتغير الزمان والمكان، وهذا ثابت، وله اسم في الفقه وهو “النوازل”، وقد أفتى أحدهم بشيء في الحجاز، ثم أفتى بعكسه في العراق، ليس رجوعا عن فتواه الأولى، بل لأن الزمان والمكان اختلفا.

الصحابة:
أطول مدة حكم للصحابة هي خلافة معاوية، تليها خلافة عمر، وكلاهما عرفا بتغيير سياساتهما حسب الظرف، وتغيير أحلافهما، وقد غيّرا ما عدّه الناس من أحكام الإسلام، من تعطيل للحدود، أو جمع الناس لصلاة التراويح، أو غيرها.

الرسول:
حديث تأبير النخل حديث معروف، وقد كان الرسول تاجرا وراعيا، ولم يكن مزارعا، فلما سكن يثرب، سمع صوتا استنكره، فقيل له: هذا صوت النخل يؤبرونه (أي يلقحونه بزرع أو حك السعف الذكر بالنخلة الأنثى)، فقال: لو تركتموه لكان خير، فتركوه في العام الذي يليه فشاص النخل (أي لم ينتج ثمرا)، فقال بما معناه: (أنتم أدرى بشؤون دنياكم).
وكذلك عندما اختار النزول بعد آبار بدر، فعدّل على كلامه صحابيّ فأطاعه، أي أن حكم الرسول لم يكن فوق النقاش عند الصحابة، وكان يغيره إذا علم خيرا منه.

القرآن:
وصف القرآن الأنبياء كلهم بأنهم على دين محمد نفسه، ولكنه أقر أن لكل منهم شرعة ومنهاجا، وبهذا فقد أقر القرآن تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.
ومن يقول بالناسخ والمنسوخ يقرّ ضمنا أن أحكام القرآن تغيرت حسب الظرف.

سيجيب أحدهم بأن هذا كله لم يغير الصلاة أو الشهادتين، ونقول نعم، ولكن هذه من أمور الديانة وليست من أمور النظام، والعلمانية لا تريد التحكم بالطقوس أو الاعتقادات التي عليها الناس.

أخيرا فقد أسلفنا أن نسخ الإسلام التي تتعارض مع العلمانية هي النسخ التي تتبنى مفهوم “الحاكمية”، وحتى بعض هذه النسخ إذا أقرت بما أقررنا فإنها لا تتعارض، لأن الدين فيها يكون من أمر الحاكم، وليس العكس، أي أن الحاكم غير مرتهن عند تشريع أحكامه بالغيبيات، بل هو رهين المصلحة فقط.

ماذا يعني رفض العلمانية؟

ماذا نسمي من يرفض العلمانية؟ هل النظام الذي يتصف بالعلمانية نظام جيد دائما؟ هل العلمانية هي ضمانة للتقدم؟ كل هذه أسئلة يجب علينا الإجابة عليها…

بعد أن عرفنا أن العلمانية لا تعني الإلحاد، وأن المسلم قد يكون علمانيا، وأن بعض القراءات للإسلام تجعل منه نظاما علمانيا، وأن كل قراءات الإسلام على أنه ديانة ومعتقد لا يقوم تعارض بينها وبين العلمانية، حان الآن نقاش الأسئلة السابقة.

ما دامت العلمانية بتعريفها الأبسط هي (منع تدخل الغيبيات في السياسة)، فالنقيض لها هو (اتخاذ القرارات السياسية بناءً على الماورائيات)، وليس ثمة اسم محدد لهذا النوع من الأنظمة، ولكن يمكننا وصفه بأنه نظام ثيوقراطي، أي نظام محكوم لرجال الدين، من أي دين كانوا.

النظام الثيوقراطي أوسع من كونه نقيضا للعلمانية، لكن النظام النقيض للعلمانية يمكن إدخاله ضمن الأنظمة الثيوقراطية، لأنه محكوم للغيبيات والماورائيات، وهذه بدورها محكومة لرجال الدين.

رفض العلمانية يعني إقرار السياسات بدوافع غيبية، مثلا “داعش” كيان غير علماني، قررت سياسات وأفعال وحروب على أسس غيبية، تحت الاعتقاد بأن “نصرة الله” لهم حق ما داموا يلتزمون بكذا وكذا، وأن الملائكة ستقاتل معهم.

ثمة أوضاع معقدة لا يمكن تصنيفها بسهولة، فالكيان الصهيوني مثلا قام على دعاوى غيبية، ولكن حتى يستطيع الصهاينة النجاح في أي أمر، فهم سلكوا سلوكا علمانيا، يشبه إلى حد ما فكرة عبد الوهاب المسيري، عن “العلمانية الجزئية”.

الأنظمة العلمانية طيف واسع من الأنظمة، ممكن أن يكون شيوعيا، أو سلطويا، أو اشتراكيا، أو ليبراليا، أو ديموقراطيا شعبيا، أو ديموقراطيا، أو قوميا، أو حتى “دينيا” وهذا حاصل فقط في كوريا الشمالية، حيث الدولة محكومة لدين سياسي، اسمه “جوتشي”، لكنه دين دون منظومة غيبية!

لهذا فكون النظام علمانيا لا يعني أنه جيد دائما، فقد يكون النظام علمانيا، ومتسلطا، أو سائبا، بحيث تتخلى الدولة عن دورها الحقيقي بقيادة الاقتصاد مثلا.

لذلك فالعلمانية لوحدها ليست ضمانة للتقدم، لكن التقدم لا يمكن أن يحصل دون اتصاف الدولة بدرجة ما من العلمانية، لأنها غير ذلك ستكون رهينة للغيبيات لدى جماعة دينية ما، وما يتبع ذلك من خزعبلات، ليس عليها دليل مادّيّ، وليس لها نجاعة مثبتة، لكنها تحكم عقول الشعب من خلال الخرافات.