ارتفعت مؤخرا شعبية الدكتور محمد شحرور، بسبب برنامج يستضيفه على قناة روتانا خليجية، وفي الحقيقة روتانا كلها خليجية، ولكن هذه القناة من حزمة القنوات موجهة لسكان الخليج العربي. استضافة شحرور في هذه المحطة، بعد سنين من التجاهل لكل قراءة للإسلام لا تتوافق مع الوهابية، مؤشر واضح إلى أن الوهابية وصلت إلى حدودها البنيوية، وأنها لن تستمر، لكن هل نقبل كل ما يقوله شحرور؟ هل ثمة أخطاء منهجية في طرحه؟ هذه المقالة ستحاول الإجابة على هذه الأسئلة.
القرآنيون، هل شحرور منهم؟
خصوم الدكتور محمد شحرور المعرفيين يعدونه قرآنيا، مثلا: في عام 2007 نشر د.محمد يوسف الشربجي مقالة مطولة، في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، تحت عنوان “القرآنيون والسنة النبوية، محمد شحرور نموذجا”. وهذا لتشابه يلمسه المشتغلون بالنصوص الدينية الإسلامية بين منهج شحرور ومنهج القرآنيين.
ينفي محمد شحرور في مقابلة مع “العربية”، عن نفسه اتّباع مدرسة القرآنيين، ويقول باستقلالية أفكاره، وأنها نتيجة جهد شخصي. في الحقيقة أنا لا أشك بصدقه من جهة أنه يعني ما يقول، وأن هذا ما وقع في إدراكه، لكني أراه تابعا بالفعل لمدرسة القرآنيين، في فهم القرآن، من جهة المنهج، ولا يعني ذلك بالضرورة أنه اتصل بهم أو قرأ لهم فأعجب بأفكارهم.
إذا رأينا أي منهجين متطابقين، فليس عجيبا أن نعدّهما منهجا واحدا، حتى وإن كان مبدعو المناهج المتشابهة لم يلتقوا، كأوراق إجابة في امتحان لطلبة في المدرسة، تتشابه حلولهم الصحيحة أو الخاطئة. ولن نغوص في الفروق الدقيقة بينهما، فهذه الفروق قد توجد بين التلميذ وأستاذه من المنهج نفسه.
أما نحن هنا فسنتحدث عن شحرور، وسنترك للقارئ أن يطلع على أحد أعلام القرآنيين، وينظر في منهجه، إن كان يستطيع إسقاط ما سنقوله في شحرور على القرآنيين.
لغز القرآن!
ثمة نوع من أنواع الألغاز والأحاجي اسمه “ألغاز فك التشفير”، يعالج فيه اللاعب إشارة مفترضة ليعرف معناها، دون أن يكون له ما يكفي من الأدلة _ظاهريا_ لفك شيفرة الإشارة. قد تكون الإشارة شيفرة من أرقام، وقد تكون إشارة كهرومغناطيسية ثنائية.
في ألعاب الألغاز عموما، وفي ألغاز “فك التشفير” خصوصا، يسعى اللاعب إلى معرفة النمط، فإذا أدرك النمط الذي يحل بوساطته اللغز، فهو قد أنجز أكثر من ثلاثة أرباع الحل، ويبقى تطبيق النمط على كل الشيفرة، ليخرج بالحل. ومن أهم الأمثلة التاريخية على هذا النوع من الألغاز ما حدث مع شامبليون وحجر الرشيد، الذي تسبب في فهم اللغة الهيروغليفية.
ولأن منهج د.محمد شحرور تعامل مع القرآن بطريقة أزعم أنها تشبه فك اللغز، فقد رأيت أن أبين الأنماط والافتراضات التي يقوم عليها منهجه في فهم القرآن، مما بينه هو، ومما لاحظه مراقبون كثر في نهجه، متخذا مثالا لبيان طريقته من كتابه المؤسس لمنهجه “الكتاب والقرآن”.
ملاحظة قبل البدأ
أنا لا أخطِّئ الدكتور محمد شحرور في ما وصل إليه، لست معنيا بنقض حله وبيان الصالح والطالح فيه، إنما أنا معني بتبيان ما أراه عوارا في منهجه، رغم أني ألتقي معه كثيرا في مؤدى كلامه. لكن الناقد إن اقتصر نقده على أعدائه فليس بناقد حقيقي.
افتراضات مثيرة للجدل
يقوم منهج شحرور على افتراضات، يحمل الدكتور بعضها محملَ المسلمات التي لا تقبل النقاش، ربما لأنه يخاطب جمهورا مفترضا مسلِّما بها، وهاكم ما أحصيته منها:
1- القرآن كلام الله.
وهذا كما تعلمون ليس أمرا مسلما به عند الجميع.
2- القرآن لم ينله أي تحريف أو تغيير أو خطأ.
وهذا مما لا يسلم به الجميع، حتى إن كثيرا ممن يرونه كلام الله يجادلون في كونه على الصورة نفسها التي نزل عليها.
3- القرآن صالح، كما هو، لكل زمان ومكان، وهو رسالة كونية.
أما هذه فحتى القرآن نفسه لا يسلم بها، إذ يرى كثير من المفسرين والفقهاء المسلمين أن القرآن فيه ناسخ ومنسوخ، والمنسوخ غير صالح لزمن الناسخ، فضلا عن كل زمان ومكان.
4- لا وجود للترادف في اللغة.
وحتى من يسلمون بهذه كما هي، وكثير من اللغويين لا يسلم بها، فهم يعترفون بأنه يمكن أداء المعنى نفسه بجملة مختلفة، وإلا لما تعلم الجاهل مفردة جديدة، ولاقتصرت معارفه على ما يعرفه أصلا.
5- لسنا بحاجة للسنة ولا لكلام المفسرين لفهم القرآن.
هذه لا يوافق عليها أحد سوى أتباع هذا المنهج، فحتى من لا يرون في ما يسمى السنة نصا مرجعيا، ولا يرون المفسرين على حق في شيء _ومنهم أنا بالمناسبة_ لا يستطيعون أن ينكروا أن المرويات الحديثية، وفهم المفسرين لكلام العرب، أثرا في التقعيد للغة العربية.
6- المعنى الصوتي للكلمة هو المقياس الأهم في ما يعنيه القرآن بها، وهو يمكن تحصيله بالنظر إلى تبديلات الحروف في جذر الكلمة.
هذه لا يوافق عليها إلا أصحاب منهج بعينه في اللغة، وهو يصرح بانتمائه لهم، كأبي علي الفارسي وابن جني، لكن هذا _وإن كنت أراه وجيها جدا_ ليس مطردا في كلام العرب، فالجذر (رجع) بمعنى عاد قد يلتقي بالجذر (عرج) بمعنى مرّ عامدا، أو مال في مشيته، لكنه بعيد كل البعد عن الجذر (جرع) بمعنى ابتلع!
7- ما يراه العقل صوابا اليوم، في قضية أتى القرآن على ذكرها، يجب أن يكون متضمنا في القرآن.
وهذا ظاهر في فتاوى شحرور، التي توافق الشائع في الغرب، فيحسن ما حسن الغرب، ويقبح ما قبح الغرب، مستندا على فهمه للقرآن.
سأكتفي بهذا القدر لأعرض منهجه في كلامه عن مفردات “الإنزال والتنزيل” و “العرش” وتفسيره لها. هذا موجود في كتابه المؤسس “الكتاب والقرآن” من الصفحة رقم: 145 حتى 176. ومن الواضح أن عدد الصفحات لا يسعفنا في نقلها كلها بالحرف والرد عليها، لكننا نعرض للمنهج، فتكفينا الإشارة.
يوضح شحرور المعاني التي يفترضها للكلمات:
التنزيل: عملية نقل موضوعي خارج الوعي الإنساني.
الإنزال: هو نقل المادة من حيز غير المدرك إنسانيا إلى حيز المدرك. (اختصار لكلام الكاتب).
العرش: 1- عرش الرجل هو قوام أمره. 2- هو ما يجلس عليه من يأمر وينهى.
نلاحظ هنا أولا في موضوعة “العرش”، أن شحرور قَبِل معنيَيْن لكلمة واحدة، وهذا مناقض لمنهج قال إنه يتبعه، وهو القول بعدم الترادف، والتناقض هنا في كون شبكة العلاقات بين الأشياء والأسماء متداخلة، وهو يعترف بهذا التداخل في مفردة “العرش”، لكنه يرفض هذا التداخل والتشابك في أن يكون للشيء الواحد اسمان أو أكثر. والصحيح في رأيي أن المعنى الثاني لكلمة العرش مجازي، جرى على ألسنة الناس حتى ظنه شحرور أصلا.
التناقض مع فكرة عدم الترادف يستمر في أماكن أخرى بصورة أوضح، كالقرآن والسبع المثاني، ولكن هذا ليس موضوعنا.
وقبل أن نغادر موضوعة كلمة “عرش” يجب أن ننوه إلى أن شحرور حين استطرد في كلامه عن العرش الرباني، ذكر آية (وكان عرشه على الماء)، ففسرها تفسيرا عجيبا بأنه يقصد الحالة الهيدروجينية للكون، ثم يسمي الهيدروجين “مولد الماء”، ويسحب هذا المعنى ليجعل القرآن متوافقا مع العلم.
فات شحرور هنا أن الهيدروجين حسب كلامه مولد الكون كله، وليس الماء فقط! فأي قفزة عجيبة أتى بها الرجل!
أما عن كلمتي الإنزال والتنزيل، فهما من الجذر نفسه (نزل)، والعلاقة بينهما اشتقاقية، وهذا لا يخفى على شحرور، لكنه يبتدع شيئا عجيبا كأساس للفرق بينهما:
“إن الهمزة في اللسان العربي تعطي معنى التعدي. مثال على ذلك: بلّغ وأبلغ. فلدينا مصطلحان هنا هما البلاغ والإبلاغ.” ثم يرصف الآيات والأمثلة من عنده ليقول: البلاغ هو نقل المعلومة دون التأكد أنها وصلت، والإبلاغ هو التأكد من وصول المعلومة.
وهنا هو وعد بشرح الفرق المفترض بين الإنزال والتنزيل كما يراه، لكنه ضرب مثلا غير صائب البتة! وإليكم بيان ذلك:
1- الهمزة تعني التعدي بالفعل، لكن التضعيف أحيانا يعني التعدي، وهذا واضح في المثال الذي ضربه، فبلّغ متعدية، وأبلغ متعدية مثلها.
2- المصدر من بلّغ هو تبليغ وليس بلاغ. فلا قيمة لشرحه كله بعد هذا.
3- العلاقة الاشتقاقية معروفة للجميع، بين أفعل و فعّل، وإفعال وتفعيل. واللغة العربية لغة اشتقاقية، وليست قائمة على أصوات الجذور حصرا.
4- الهمزة التي رآها تعني التعدي ضرب لها مثلا من فعل وليس من اسم، ثم خلط في الأسماء ما شاء.
5- المعاني التي استخرجها من المثال “بلّغ وأبلغ” قائمة على رؤيته هو، وليست من المقبول والمعروف عند الناس. فلماذا كلف نفسه عناء ضرب مثال، إذا كان سيفعل الشيء نفسه الذي فعله بموضوع الكلام؟
ثم يكمل مع “الإنزال والتنزيل” ويرصف الآيات مرفقا إياها بشرحه الخاص لها، وإليكم الملاحظات النقدية على أدائه هنا:
1- يستند في تفسيره للكلمتين على مروية حديثية، متعلقة بالغيب، لأنها تساعده. وهو يرفض حظا وفيرا من الأحاديث من الوزن نفسه، ما دامت لا توافق مراده. فأين اتساقه وانضباط منهجه؟
2- يضرب أمثلة كثيرة عن مباريات كرة قدم، وعن جبل قاسيون، قائلا: إن التقنية الحديثة وفرت له تصورا أدق للإنزال والتنزيل. لكن المشكلة هنا أن هذا القرآن يجب أن يكون مفهوما للعرب حتى يكون فصيحا. وما دام الفهم لم يتوفر إلا عند وجود التقنية الحديثة، فهذا ينفي الفصاحة عن القرآن.
3- يلتف التفافات عجيبة عندما تتطابق آيتان في المعنى، وتأتي أولاهما بلفظ الإنزال، والأخرى بلفظ التنزيل. ليحدث فرقا في معنى الآيتين. وهذا يعني أن الله يقول معنى ما بخصوص شيء، ثم يقول معنى آخر بخصوص الشيء نفسه، وهذا يجعله متناقضا.
وهذا للعلم أمر محوري في منهجه، كما يصرح هو، فإن كان هذا أداؤه في الأمر المحوري، فنستطيع أن نتخرص أداءه في غيره.
خاتمة
فليلاحظ القارئ الكريم أنني أخذت محورا في كتاب محوري، وهذا يعني أننا راقبنا شحرور في مسألة لا تقبل الزلل عنده، وراقبناه كاتبا لا متحدثا على الشاشة، فحرمناه من عذر المرتجل الذي نسي بسبب كبر سنه، أو أسئلة محاوره.
ومع أنني أحب المؤدى الذي يحاول أن يصل بالناس إليه، وأوافقه عليه، من حيث ضرورة فهم اللغة العربية ككائن تاريخي، وتناول النص القرآني بهذه الروح، إلا أنني لا أستطيع القبول بالخلل المنهجي الذي يقع فيه هو بعد أن حذر الناس منه، فإن كان الرجل مقتصدا في الهذر، فغيره ممن اتبع منهجه من “القرآنيين” أتى بعجائب لا يقبلها عقل عاقل، ولا تمر على من يتقن العربية، إلا أن يكون صاحب غرض، يريدها أن تمر عليه.
افتراض معنى مراد للكلام، ثم تقييف اللغة حتى تُقوِّل النص القرآني هذا المعنى، هو أمر فعله كثيرون قبل شحرور، وانطلق من بعده جماعة “القرآنيين” فتطرفوا في ذلك، ولا أنكر أن فرق الإسلام كلها واقعة في هذا ولكن يتفاوتون بدرجة الخطل.
إذا كان الرجل عالما باللسان كما يظن، فلماذا يخطئ في ضبط الكلام ونظامه، وهو يحاول الحديث بالعربية الفصيحة؟ ولا نتحدث هنا عن أخطاء مقبولة، بل عن مصائب في النطق والضبط والحافظة لا تقل عن المصائب الحاضرة في منهجه. وهي مشاكل تمنعه برأيي من امتلاك نظرة شمولية متسقة.
أستطيع ويستطيع أي قارئ إذا تفرغ لشرح القرآن بمنهج الدكتور محمد شحرور، أن يجعله يقول أي شيء يريده، فيجد فيه “نظرية الكوانتم” كما وجد فيه شحرور “نظرية المعرفة”!
لغويا ومنهجيا، ليس من فرق كبير بين ما يفعله شحرور، وبين ما يفعله زغلول النجار، إلا أن الفرق يتجلى بكون محمد شحرور رجلا حداثيا متمدنا مبدئيا يريد الخير، أو هكذا أحسبه، وبكون زغلول النجار محتالا يمارس النصب وهو يعلم ذلك، ويفعل ما يفعل بكل خسة، ووضاعة.
أخيرا فإن الطرح الذي يطرحه شحرور جيد، بل وضروري، لأنه يستأنف نقاشا مهما جدا، ويدير رؤوس العامة فتتحرك عن تطرفها. لكن يجب ألا نكتفي به أو بغيره، لاسيما وأنهم يقعون في النهاية فريسة للتوظيف السياسي الخليجي لطرحهم، ثم قد يصل بهم الأمر أن يكونوا محرضين كما حصل مع د.عدنان إبراهيم، والنابلسي، وغيرهم.