في الشهر السادس من سنة 1982 نشر إسرائيل شاحاك ترجمته للجزء النظري من خطة أوديد أينون، التي نشرها أوديد في صحيفة كيفونيم “اتجاهات” في الشهر الثاني من السنة نفسها، ولم تترجم هذه الخطة إلى العربية حتى عام 2009، على يد ليلى حافظ، ونشرتها دار الشروق في كتيّب اسمه “الأرض الموعودة، خطة إسرائيلية من الثمانينيات”. تأخّرت الترجمة 27 عامًا، أمّا الانتشار المطلوب بين العرب فلا أدري كم سيتأخر!
“استراتيجية من أجل إسرائيل في الثمانينيات”، وهو اسم المقالة، تمثل خطة مقتضبة، أو بالأحرى صياغة مقتضبة للخطة التي كان عليهم بالتأكيد تحديثها مرات ومرات، لكن يبدو أن الخطة الأصل ما تزال تلقى تبنيّا من قبل مؤسسة الحكم الصهيوني، وتلقى للأسف نجاحًا نسبيا، لا سيما مؤخرا، أي بعد ما يسمى “ربيعا عربيا”.
إذا كان يمكن اقتضاب المقتضب، وهو غير ممكن دون الإخلال به، فإننا يمكن أن نلخص الخطة بالآتي:
1- الكيان الصهيوني يسعى لأن يكون قوة إمبريالية عالمية.
وفي سبيل الإقناع بهذا الهدف، يعدد واضع الخطة إشارات تبدل العالم، الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية…إلخ، ويذكر أنه ما من شيء يعمل كما ينبغي له في الوطن العربي، سوى بعض المؤسسات العسكرية، ويقول بضرورة عدم الاكتفاء بالساحل الفلسطيني، ووجوب التعمّق في الأرض العربية، لا سيما الضفة وسيناء، مما يفسّر لماذا تفشل كل محاولات تبطيء الاستيطان بوساطة المفاوضات، ويعد بمستقبل زاهر للكيان الصهيوني، حتى في ظل أعتى الحروب، إذا التزم الصهاينة بروح هذه الخطة.
هذا هو الهدف السَّوْقي بعيد المدى، ويذكر الكاتب أن أخطر شيء على الكيان الصهيوني، في المدى البعيد، هو الأفكار الشيوعية، التي ستعاديه بكل تأكيد، لأنه كيان إمبريالي بالدرجة الأولى.
2- الصهاينة يسعون إلى تقسيم الوطن العربي إلى دويلات متصارعة، على أسس عنصرية طائفية ومذهبية وعرقية، لكي يكون الكيان الصهيوني الدولة العظمى في الإقليم، والقائد التوافقي للمنطقة.
ولتبيان وجاهة هذا الهدف، يشرح الكاتب وضع البلدان العربية، وهشاشتها الداخلية، إذ لم تتمكن قيادات هذه الدول _حسب زعمه_ من أن تذوب الجماعات الفرعية في الوطن، أي لم تتمكّن من جعل البلدان أوطانًا، وهذا برأيه يعود “لحكمة” المستعمر الأوروبي الذي قسّم الوطن العربيّ بصورة تضمن ضعفه، وضعف كل دولة فيه.
هذا هو الهدف القريب في رأي الكاتب، ويذكر الكاتب أن الخطر في المدى القريب يأتي من الحركات القومية، وليس ثمة شيء يخشاه الكيان الصهيوني على المدى القريب سوى الجيوش العربية، والروح القومية العربية، لاسيما تلك التي تحظى بالتبني من قبل دول مركزية.
هذه الخطة تمثل خلاصة الأفكار الجيوسياسية الصهيونية، كما قال شاحاك في 1982، وكما يقول الواقع اليوم، وهي تطبق بإطارها النظري الواسع، وإن كانت التكتيكات الجزئية تخضع للتحديث بسبب التغيرات التي يفرضها مرّ الزمن.
في تقديم الكتيّب المترجم إلى العربية، الذي ينقل لنا الخطة، كتيّب “الأرض الموعودة”، يسرد عادل المعلّم قصة توراتية عن زانية أريحا “راحاب”، التي هرّبت الجاسوسين الذين أرسلهما الملك “الإسرائيلي” يشوع ذي النون، وبهذا تساعد على احتلال بلدها من أجل تأمين عائلتها، ثمّ يشتق منها مصطلح “الراحابيّة”، وهو مصطلح موفق لولا ارتباطه بالتوراة، لكن لا بأس.
أهمية المصطلح يوضحها أن واضع الخطة يذكر أن حكّام الدويلات العربية الجديدة لابدّ أن يكونوا من طراز الخونة رؤساء “روابط القرى” في فلسطين، أو طراز العميل الصهيوني سعد حدّاد في جنوب لبنان، أي: إن الصهاينة يريدون راحابيّا يعمل لصالحهم في كل البلاد العربية، ولا ضير في أن يكون متدينا بأي دين كان، المهم أن يعمل لصالح الصهيونية.
المصيبة الكبرى هي أنني خلال ست سنوات قضيتها في نشاط متواصل في الكتابة والقراءة ضدّ “الربيع العربي” لم أسمع عن وثيقة أوديد أينون، إلا مؤخرا، مع أن كل ما يلزمنا لتوضيح خطر التقسيم والاقتتال الأهلي، وتذويب الجيوش، وتغذية النزعات الطائفية، موجود بوضوح في الخطة.
والأنكى أن كاتب الخطة وضّح لماذا لا يرى خطرا من نشرها على نطاق واسع بين الصهاينة، حتى لو أدى ذلك إلى وصولها للخارج، بأن النخب العربية لم تزل تحبو، وحتى أكثرهم عداء للصهيونية مسكونون بعقلية أسطورية تفسّر لهم كل شيء، ويضرب على ذلك مثالين:
1- تفسير النخب العربية لسلوك الصهاينة بمقولة “من الفرات إلى النيل”، مع أن هذه الفكرة، على كونها فكرة “يهودية” كما يعترف، إلّا أنها غير مكتوبة على بوابة الكنيست، بمعنى أنها ليست بالثقل الذي يظنه العرب، فالصهاينة يسعون إلى بناء كيان إمبريالي ناجح، مجال نشاطه العالم، ومجال سيطرته أوسع من “أرض الميعاد” التوراتية، أمّا حدوده الفعلية فليس بالضرورة أن تتعدى نهر الأردن.
2- تفسير النخب العربية، من قادة ومفكرين، للشريطين الأزرقين على العلم الصهيوني على أنهما يرمزان للفرات والنيل، مع أنهما في الحقيقة مأخوذان من الشرائط الزرقاء أو السوداء في وشاح الصلاة اليهودية “التاليت” ولا علاقة لهما البتة بالفرات أو النيل!
فعلا من المحبط أن تقرأ ذلك عام 2017 في خطة نشرت في بداية ثمانينيات القرن العشرين، وأنت تستغرب لماذا لم يتم تداولها بين العرب على نطاق واسع!
لكن الذي يدعو للأمل أن الاستجابة شبه الفطرية التي استدعتها المخططات الصهيونية لدى العرب كانت كفيلة بأن تحيل المخطط من نزهة إلى معركة صعبة، وأن المقاومين العرب من حزب الله اللبناني، والجيش العربي السوري، وقدماء العسكريين في كثير من الدول، لا سيما الجيش المصري، تمكّنوا من جعل الأمر أصعب وأصعب على الصهاينة.
وأن الدولة القطرية العربية تمكنت رغم كل الصعوبات من بناء عقيدة وطنية في كثير من أبنائها، لكن تبقى المصيبة في أن الحاكمين لأغنى بقاع الوطن العربي، الخليج، تمكنوا من استغلال الثروة العربية في تطويع الديانة الإسلامية، لتكون نقيضا للوطن، ونشروا سمومهم في كل مكان، مما يجعل التحدي أصعب اليوم.
ويبقى أن على كل مواطن عربي أن ينتبه للراحابات من حوله، سواء أكانوا ملوكا أم رؤساء أم قنوات إعلامية، أم مواقع إلكترونية، وأن يتساءل عن كل دعوة يتبناها: هل ستجعل منه راحاب أخرى! وأن يحذر أشدّ الحذر من الراحابية!