الوعي مصطلح عصيّ على التعريف، يعدّه بعض الفلاسفة والعلماء مصطلحا أوّليا، لا يمكن شرحه، أو حدّه بتعريف واضح، وبغض النظر عن محاولات تعريفه، فإن نشأته ما تزال لغزا علميا غير مكتشف، ومن الفرضيات المثيرة للجدل حول نشأة الوعي فرضية اسمها “نظرية القرد المنتشي”.
وهذه “النظرية” ليست نظرية بحق، فهي فرضية قدمها “شامان” عقاقير عصبية مولّدة لما يسمّى “التجارب الروحية”، وهو كاتب ناشط في هذا الحقل، اسمه تيرانس ماكينا، حول نشأة الوعي الإنساني، تقول الفرضية:
إن أسلافنا من البشر غير العاقلين، الممكن تصنيفهم كقردة عليا، الذين كانوا يعيشون في الغابات، في إفريقيا، انحسرت عنهم الغابات، أو قلّ الغذاء فيها، أو طردوا منها، فاستوطنوا الأراضي الرطبة، السافانا، وهناك اضطروا إلى نوعية أغذية مختلفة، ودخل في غذائهم نباتات ذات تأثير عصبي، مثل “المشروم السحري” أو سواه، بكميات قليلة جدا.
ويَفترض ماكينا أن هذه العقاقير بكميات قليلة حسّنت من قدرتهم على ملاحظة الطرائد، فتحسّنت قدرتهم على الصيد، وبالآتي على البقاء، مما أبقاهم فيما انقرض أقرانهم.
ثم يفترض أن الجرعة ازدادت بما يكفي لزيادة التحفيز الجنسي لدى أسلافنا، مما جعلهم يغادرون فكرة الأحادية في الجنس، وأطلق الجنس الجماعي، وهذا أدّى بدوره إلى عدم قدرة الذكور في القبيلة على قصر اعتنائهم بصغارهم الآتين من صلبهم، فتحول الأطفال من أطفال فلان وفلان، إلى أطفال القبيلة، مما زاد الشعور بالانتماء للجماعة، وزاد قدرة الجماعات البشرية الأولى على التناسل.
يُكمل في فرضيته: إن زيادة الجرعات، لدى البعض ممن تكثر نسبة هذه العقاقير الطبيعية في غذائهم، أدّت إلى هلاوس مختلطة، تجعل الألوان تُسمع، والأصوات تُرى، مما حفّز مسألة قدرة الدماغ على التمثيل التبادلي، وهذا ما تسبب في نشأة اللغة، كنظام ترميزي تمثيلي. وربما كانت هذه الزيادة السبب في نشأة فكرة المجاز، ومن ثم الغيبيات، التي تفتقت فيما بعد عن فكرة الديانات.
هذه الفرضية ليست نظرية علمية، بل مجرد مقترح، ربما نتج عن الإكثار من تناول هذه العقاقير، ولكنها قُدّمت لتقول إن العقاقير المؤثرة في الأعصاب، شيء موجود في الطبيعة، كما يقال إن تيرانس ماكّينا صرّح في مقابلة معه.
بالتأكيد العقاقير المؤثرة في الأعصاب موجودة في الطبيعة، وكذلك السموم، والحيوانات المفترسة، وهذا لا يعني أن نُقبل عليها، لكن “فرضية القرد المنتشي” بما فيها من خيال جامح، وسرديّة مترابطة، عمل إبداعيّ يَستحق أن يُعرف، كرواية خيال علمي زمنها الماضي لا المستقبل، على الأقل.
ولو تعاملنا معها كـ”ـنظرية علمية” كما يحلو لمصدقيها أن يسمّوها، لما وسعنا إلا أن نقف عند بعض المفاصل التي تطعن في تماسكها، مثل أن تحسين الرؤية الناتجة عن هذه العقاقير هو تغير في استقبال الصورة، وليس في رؤيتها، وأنه لا يظهر إلا عند تناول جرعات متوسطة، وتناقض الزمن الموثق لنشأة اللغة والديانات، حتى بصورتها الوثنية القديمة، مع الطرح الذي يقدمه ماكّينا.
ومع ذلك فقد رأيت أنها فرضية ظريفة، يجدر أن نعرف عنها، لاسيّما وأن نشأة الوعي ما تزال لغزًا لم يكشف، وكل من قدّم سرديّات حول نشأته اضطر للشطح بخياله، حتى إنه لربما كانت هذه الفرضية هي الفرضية الأكثر بعدا عن الميتافيزقيا.
وقد يخطر ببالك وأنت تقرأ عن هذه النظرية، أن الشجرة المحرمة في الجنة، المذكورة في الديانات الإبراهيمية، هي شجرة لها آثار على الجهاز العصبي، مما أدى لنشأة الإنسان العاقل المسؤول، الذي يستطيع أن يُريد ويفكّر، أو على الأقل صنعت جدّه الأول.