ثمة شاغر دائم لدى أتباع ملة الإسلام، لرجل يوهمهم بملء الفراغ الموضوعيّ الذي يعانون منه، فهم بحاجة لأن يروا داعية محققا لشروط الإنسان المتعلّم، ناطقًا بالإنجليزية “بطلاقة”، وفي الوقت نفسه، يكون قادرا على المزاودة عليهم دينيّا، أي في الجانب الذي يجدون أنفسهم بسببه أفضل من الناس، كل الناس، ويا حبذا لو كان غير عربي.
هذا الشاغر يملؤه كلَّ مدة وجهٌ جديد، فمرّة “ديدات”، ومرّة “حمزة يوسف”، ومرّة “معزّ يوسف”، ولكن الأمر مقرون بما يقدّمه من “فرجة” و”مَعجبة” للمشاهدين، لاسيما وأن ثقافة الشعب العربي لم تزل سماعية أكثر منها طباعية. وإن كانت هذه مثلبة فيهم بأنهم لم يسدّوا فراغ القراءة حتى الآن، إلا أنهم في الأصل ضحية لمتدينين أجانب آخرين، هم القابعون خلف “الباب العالي” من الأتراك، الذين حرّموا الطباعة باللغة العربية، فأخّرونا لقرون عن بقية الأمم.
قبل كتابة هذه السطور بسنوات، كان الوجهُ الأشهر الذي يملأ شاغر عقدة النقص الإسلامية شخص يدعى “ذاكر نايك”، وهو حاليّا مطارد بتهم تخص غسيل الأموال، ودعم الإرهاب، وما إلى ذلك، مما لا يهمّنا في شيء، غير أن الهبّة الإلكترونية لنصرته دعتني لأن أبحث عن شيء أقرؤه له.
كنت من قبل شاهدت بعض أشرطة محاضراته، ولفتتني أشرطة مضادة تحصي له كذبات عدة، يردّدها بجرأة منقطعة النظير، ولكن “عين الرضا عن كل عيب كليلة”، ومن يقدسون “ذاكر نايك” سيجدون ألف مهرب من الاستماع إلى الشرائط التي تفضح كذبه، ولعل أحدًا من الناس إذا رأى هذه الأشرطة، سيحتجّ بأن شيخه “ذاكر” كان يتحدث ارتجالا، مع أن الدعاية التي تروّج له، تقول: “إنه يحفظ القرآن وكل الكتب الدينية”، فهو ليس بمعذور على الحقيقة، ولكني رأيت أن آخذ مقالا له بالنص، لكي آخذه في أقوى حالاته، والتي لا عذر له فيها، فالمقال يخضع للمراجعة والتدقيق.
المقال كتب بالإنجليزية، وهو منشور على موقع اسمه “Islam101.com”، بعنوان “إثبات وجود الله لملحد” وتستطيع الضغط على العنوان ليقودك إلى المقال، إذا أردت أن تقرأه كاملا. سأتناول هذا المقال بالنقد بمستوى غير عميق لتوضيح عمق هذا العقل، الذي لا يتورّع بعض جمهوره عن وصفه بأنه أفضل من يدعو إلى الله تعالى في هذا الزمن.
لأغراض تخص الاختصار، سأكتب أفكار فقرات المقال على الترتيب، ثم أعلّق على كل فكرة، بما يوضح ما احتوته الفقرة من ادعاءات، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، ويجب التنويه إلى أن هذا النقد موجه للمقال، وليس لما يحاول أن يثبته المقال، فلست بصدد مناقشة وجود الله بحد ذاته، وقد أفردت لذلك كتيّبا يبحث في ماهية الله إسلاميا، وفي سبيل التصديق بوجوده، اسمه “لنتكلّم في الله” وتستطيع النقر على عنوانه لتقرأه.
نبدأ على بركة الله اختصار مقالة د. ذاكر نايك، المسمّاة “إثبات وجود الله _سبحانه وتعالى_ لملحد” معلّقين بالنقد على طروحاته في كل فقرة:
1. يقول: إنه يهنّئ عادةً من يقابلهم من ملحدين، لأن المصدقين بالديانات بالوراثة، يملكون إيمانا أعمى يفتقر للبصيرة، بينما يستخدم الملحد عقله وثقافته لينكر وجود إله ديانته.
أقول: عندما يعدّد الديانات المكتسبة بالوراثة فهو يذكر المسيحية والهندوسية، ولا يذكر الإسلام. ويزيد على ذلك أنه يظهر للناس أن المسلم بالولادة لا يكون ملحدًا، وهذا احتيال واضح لمن يقرأ.
2. يقول: إنه يهنئ الملحد لأنه اقتنع مسبقا بنصف شهادة ألا إله إلا الله، بنفيه لوجود إله، وبقي أن يستثني الله، أما المتدينون من ديانات أخرى فهو بحاجة أن يهدم التصور الخطأ عن الإله في رؤوسهم، ولهذا فمهمته أصعب.
أقول: يبدو أن الملحدين الذين يقابلهم ذاكر نايك، يبحثون عن التناقضات داخل ديانتهم وحدها، ولا يفكرون في الإله بصورة فلسفية عميقة، تنطبق على الديانات جميعا، وسنتحقق من ذلك فيما بعد. ثم إنه يصرح بأنه يهاجم معتقدات الناس، ويحاول إخراجهم من دياناتهم، فهل من العدل أن يفعل ذلك وهو يقول بالردّة، وبقتل المرتد، ثم ينفي عن نفسه هذا القول، لينسبه إلى “علماء” مسلمين، ويستثني من ذلك من يعود إلى الإسلام!
3. يقول: ثم أسأل الملحد عن مفهومه عن الإله، فما دام ينكر وجوده، فلا بد أن يكون محيطا بفهم عنه، كما أن من ينفي عن الكتاب صفة القلم، لا بدّ أن يكون محيطا بمعنى القلم، والملحدون يشتقون مفهومهم عن الإله من بيئتهم، ذلك الإله الذي له بعض الصفات البشرية، وهذا ما يجب على الجميع ألا يصدّق به.
نقول: الملحد الذي رفض الأديان يغلب عليه أن يكون اطلع على مفهوم الإله في ديانات شتى، وليس بالضرورة أن يكون رفضه بسبب صفاته البشرية، بل إنه غالبا يرفض وجوده بسبب صفاته غير البشرية، فهو ينكر ما لا يقوم برهان على وجوده عنده، ثم إن القرآن يتقرّب لأفهام الناس عن خيرية الإله وقوته وقدرته، بصفات بشرية ينسبها إلى الله، مثل الرحمة، والبشر يتراحمون، والقدرة، والبشر يقدرون، والصدق، والبشر يصدقون، حتى إن من يدقق في الخلافات الإسلامية الإسلامية حول صفات الله سيجد خلافا حول وجود يد وساق ووجه له، فهل يجب على المسلمين ألا يصدقوا بالله، في رأي “ذاكر”؟
4. يقول: إن كان فهم الملحد عن الإسلام خاطئا، بأن يراه ديانة تدعو للإرهاب أو تحرم المرآة من حقوقها، فواجبي أن أبيّن له الصورة الحقيقية للإسلام، بأنه دين رحمة، وما إلى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فهم الملحد عن الإله، فواجبي أن أبيّن له حقيقة الإله.
أقول: إن واجبك الحقيقي هو أن تعود إلى نفسك وتسائلها عن حقوق المرأة في الإسلام، ثم إن وجدت بالفعل أن الإسلام لا يحرم المرأة من حقوقها، فينتقل واجبك لأن يكون أن تتوجّه إلى المسلمين لتصوّب لهم فهمهم عن الإسلام، الذي باسمه حرموا المرأة من حقوقها. والكلام هنا ليس عن حقوق المرأة بل عن أولويات الدعوة، فالقرآن يقول: (أولى لك فأولى)، وتصويب فهم المسلم الذي نقل بتصرفاته هذه الصورة عن الإسلام أولى من زيادة عدد المسملين.
5. يقول: إنه يوافق على أنه في عصر العلم والتكنولوجيا، فإن البرهنة على وجود الله من خلال العلم باتت ضرورية، وإنه سيقتل عصفورين بحجر واحد، يقدّم برهانا علميا على وجود الله، ويبرهن على أن القرآن منزل من عند الله.
أقول: إن فكرة البرهنة على وجود الله تتناقض مع التصديق الإراديّ الذي يثاب المرء ويعاقب عليه في الإسلام، فالتصديق يكون بشيء لا ينفيه العلم ولا يثبته، أمّا إذا جئتنا ببرهان قاهر لعقولنا، فلن يعود لنا فضل لو صدّقنا. لكننا سننتظر ونرى هذا البرهان.
6. يقول: إذا عرضت آلة لم يرها أحد من قبل على ملحد، وسُئل: من هو أوّل من يستطيع إعطاء التفاصيل عن طريقة عمل هذه الآلة؟ فسيقول: صانعها. ثم يزكي كتابا له عن الحقائق العلمية والقرآن.
أقول: لقد أطال في هذه الفقرة وهو يذكر بدائل لكلمة الصانع، وكأن هذا قدر كل من يعد بالإتيان بالبرهان القاهر للعقول، إذ يبدأ تعقيد لغته بالازدياد كلما اقترب من وعده. ثم إن ذكر كتابه في هذا الموضع ليس سوى ترويج رخيص، ويبدو أنه يجب علينا أن نقرأه كله لنرى ماذا يقصد! لكن لنتمهل فقد يورد لنا برهانه في المقال كما يجب. لكن عندما نتابع سنجد أنه صادر على إحدى المطلوبات، وهي أن القرآن يذكر حقائق علمية غير معروفة في زمن نزوله، وهذا افتراء، فلو حصل وذكر أمرًا غير معروف للعرب، فإن ذلك يتناقض مع شرط فصاحته، وهذا يسقطه، ولقد شرحت هذه النقطة بإسهاب في مقال سابق “هل ألقى القرآن قفازه؟”، وهو متوفر بالمجّان لمن ينقر الرابط في العنوان، وهذا يخرج إيرادي له عن الترويج الرخيص.
7. منطلقا من المصادرة التي بنى عليها دون أن يثبتها، يشرح فكرة الاحتمالات في الرياضيات، ثم يقول: إذا كان احتمال تتابع رقم واحد في رمي حجر النرد لمرات عديدة بهذه الضآلة، فما احتمال أن يحزر النبيّ هذه المعارف العلمية كلها، وهي غير معروفة في وقته، ويكون مصيبا فيها كلها؟
أقول: أؤكد على أنه صادر على المطلوب الأول، وهو أن القرآن ذكر بالفعل معارف علمية غير معروفة لأهل زمنه، ثم إنّ مسألة أن القرآن مصيب في كل ما أورده من وصف للكون، مسألة لا يسلم بها الملحد من الأصل، بل وإن أي ملحد اختار عدم التصديق بالإله بعد البحث، سيذكر لك عددا من الآيات التي يراها هو ضد العلم، كغروب الشمس في عين حمئة، وما إلى ذلك.
8. يقول: إن القرآن ذكر أن نور القمر انعكاس لضياء الشمس، وذكر أن الأرض كروية، وذكر أن الكائنات الحية مخلوقة من ماء، ثم يقول إن الحقائق العلمية في القرآن كثيرة جدّا، فما احتمال أن يحزرها شخص ما كلها، دون خطأ علمي واحد؟ وهذا الاحتمال الضئيل جدا، برهان كاف على أن القرآن من عند خالق هذا الكون.
أقول: القرآن استخدم كلمة نور للقمر، وكلمة ضياء للشمس، لأسباب تخص اللغة، فالضياء هو الضوء المباشر ذو الظلال، والنور هو الضوء العام الذي لا يسبب ظلا حادّا، وهذا من لغة العرب، ولم يذكر أيهما انعكاس لأيهما، وقد اكتشف كثير من العلماء هذا من خلال العين المجردة، وقد قال القرآن: (والقمر قدّرناه منازل) ولم يقل إنه قدّر ضياءه منازل! وفي جانب آخر، ما زالت ألفاظ القرآن، التي تقبل كلا التأويلين بكروية الأرض أو تسطيحها، تجعل كثيرا من المسلمين يرفضون فكرة كروية الأرض، وهي في الأصل لا تعني لا هذا ولا هذا، بل تعني ما يبدو للعين من أن سطح الأرض غير منقلب على نفسه كطيّات، وهذا بحد ذاته موضوع لنقاش طويل! وفي الجانب الأخير، إن العنصر الذي تسبب تركيبه بنشأة الحياة على الأرض، حسب الطرح العلمي، ليس الماء، والماء ليس عنصرا في الأصل، بل هو الكربون، الذي اقتضت طبيعته أن يكون له هذه القدرة على تنوع الروابط الكيميائية.
ثم إنه قفز قفزة لا منطق فيها عندما عدّ ما أتى به برهانا كافيا أن القرآن من عند الله، مع أنني أنا كاتب هذه السطور، ليس عندي مشكلة في أن يقول بهذا أو بغيره، بل قد أقول أنا به، لكن المشكلة في طريقة البرهنة التي أقل ما يقال عنها إنها سخيفة.
ثم إن فكرة إثبات وجود الخالق من خلال قانون الاحتمالات، موجودة قبله وتعود لقساوسة مسيحيين، وقد نقلها بصورة خاطئة، فهي تتعلق باستحالة تتابع الحوادث العشوائية التي تقود إلى وجود الحياة كما نعرفها، وهذه الفكرة عليها ردّ بل ردود، توضح قصورها عن البرهنة، وأنها ليست سوى دليلا لمن أرادها دليلا.
9. من هنا يقفز “ذاكر نايك” للقول: إن كاتب القرآن لا بد أن يكون هو خالق الآلة، بحسبان “البراهين” التي قدّمها.
أقول: ليس لي حاجة بنقاش هذه القفزة، وأتركها لما نوقشت به أدلته.
10. خلال فقرتين عجيبتين يلتف “ذاكر” على نفسه، فيقول: لست أقول بأن القرآن كتاب علم، ولكنه كتاب إشارات أو آيات، وهذه الإشارات توافق العلم، ولذلك فقد اكتفيت بذكر الحقائق العلمية التي تتفق مع ما جاء في القرآن، عالما بأن العلم يأخذ منعطفات، فينقض ما كان يقول به، ولذلك تجنبت “النظريات العلمية” وهي مبنية على فرضيات، واكتفيت بالحقائق. وهذا ما يحتاجه الملحد لأنه يصدق بتفوق العلم، فإذا رأى القرآن يتفوق على العلم ويسبقه بكل هذه السنين، فسيقتنع بأن الله هو الخالق العظيم، وأن القرآن من عنده.
أقول: إن هذا “الطبيب” لا يعرف ما هي النظرية، ولا يميز بين المصطلحات العلمية، من حقائق وفرضيات ونظريات، كأنه عاميّ لا يتقن الإنجليزية، فضلا عن عدم معرفته بالعلم، فالنظرية هي أعلى مفهوم علمي، والعلم كله يحتوي على هامش اللايقين، الذي يسمح للمصدقين بالغيب بالإبقاء على تصديقهم.
وإن كل ما أتى به في مقالته الخنفشارية تسمعه من طفل ساذج لا يعرف معنى للعلم ولا لألفاظ القرآن، ولا للنظرة الشمولية التي يجب أن تبنى عليها معتقدات ديانة ما، لاسيما الإسلام.
10. أخيرا يستشهد بقول لفرانسيس بيكون، المتوفى سنة 1621 للميلاد، قاله وهو ينازع بواقي عصر الظلمات في أوروبا، ويقرنه بآية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق …).
أقول: ألم تقل في فقرة سابقة بأن العلم متغير وهو ليس بدليل، فمالك تذهب إلى فيلسوف من قادة عصر الأنوار، لتأخذه دليلا على صحة طرحك! ثم إن هذه الآية تنفي أي حاجة لوجودك أنت وغيرك من الدعاة، إذ إن الله يتعهد بالقيام بالمهمة التي تظنون أنكم تحققونها.
عليكم أن تلاحظوا أن هذه مقالة كتابية، وليست شريطا لمحاضرة ارتجالية، وهي تتناول أعلى مفهوم إسلاميّ (الله)، فهذا أداؤه في أهمّ موضوع، وفي أحكم أسلوب، فعن أي “عالم” تتحدثون!
أخيرا إذا كان صاحب هذا المقال بالفعل قدوة لأتباع الديانة الإسلامية، فنحن في ورطة ما بعدها ورطة. ليس الأمر أن علينا أن نودّع أي أمل بفهم صحيّ سويّ لرسالة محمد، بل وعلينا أن نودّع أي أمل بنهضة علمية، إن بقي شاغلوا هذا الشاغر، من أمثال “ذاكر” قدوةً لشباب الأمة العربية. وكلي أمل أن ينفض شباب الأمة المشتغل بالعلم الغبار عن عقول أبنائها، لنكون أمة بحق.