الأديان والأوطان

تنتشر بين المسلمين خصوصا، وغيرهم من أصحاب الديانات عموما، فكرة أن الولاء للدين أعلى من الولاء للوطن، وهذه الفكرة لها آثارها التدميرية، إذ هي المنطلق الأهم للجماعات الإرهابية، لأنه بدونها لن يغادر مسلم وطنه للمشاركة في اقتتال داخلي في بلد آخر، ولا أتحدث هنا عن فصيل من الجيش المصري أو العراقي يحارب في فلسطين، فهذه تقع تحت الحفاظ على أمن بلدانهم، وطلب مستقبل زاهر لها، لا يتحقق بوجود عدو إحلالي، يضعف بلدان المنطقة جميعا، لاسيما وأن الحدود في البلدان العربية صنيعة الاحتلال الأوروبي، لكن أتحدث عمن يقاتلون إخوتهم في دولة عربية لأنهم يختلفون عنهم في المذهب أو الديانة، أو من يتركون الوطن العربي ليقاتلوا في أفغانستان أو غيرها.

هذه الفكرة التي يمكن وضعها تحت عنوان “الولاء والبراء” هي التبرير الوحيد لدى الإرهابي في مغادرة وطنه ليشارك في حروب الوكالة في بلدان أخرى، وهي تقوم على أساس أن المسلمين أمة من دون الناس، بمعنى أن الرابطة بين المسلم والمسلم البعيد أقوى من الرابطة بين المسلم وجاره من ديانة أخرى أو من فرقة عقدية أخرى داخل الإسلام نفسه، وهذا يعني أن المسلم يتجرد من العلاقة بالمكان والزمان اللذين يعيش فيهما، ليتبنى صورة ميتافيزيقية لهويته.

هذه الفكرة لا تعمل دون النظرة الفوقية، أو الاعتقاد بأفضلية المسلمين على سواهم من الخلق، فهي من دون هذا الاعتقاد بالأفضلية منزوعة المخالب، لا تقوى على تحريك الإنسان، لكن حين تمتزج معها، فإنها تضعه في احتقار لمجال حياته، مفضلا المتخيل على المحسوس، فمن سيقنعه حينها أن ابن ملته الإسلامية بغى ويبغي على جيرانه في هذا البلد أو ذاك! هو يرى أن أهل ملّته لا يظلمون، وفوق أي شبهة، ويرى أنه لا ينتمي لأناس غيرهم، وهكذا يبرر لنفسه نكث العقد الاجتماعي الذي أبرمه أجداده مع جيرانهم، وشركائهم في الوطن، ليسافر إلى بلد آخر فيه مسلمون، ليشد على أيديهم في نكث عقدهم الاجتماعي أيضا.

من المثير للسخرية أن متبعي هذه الفكرة يصدقون حديثا مرويا عن محمد بن عبد الله يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.” ويجب ملاحظة أمور ثلاثة في قراءة هذا الحديث:

أولا: أن “إنما” المستخدمة هنا هي أسلوب توكيد وحصر، أي أن محمدا يحصر غاية الله من بعثه في تتميم مكارم الأخلاق.

ثانيا: أن مكارم الأخلاق كمفهوم ترمز إلى ما يفهمه العربي الذي يخاطبه الرسول، من قبل أن يبعث محمد.

ثالثا: أن التتمة أقل من الأصل، فمكارم الأخلاق من قبل النبي هي الجسم الأساسي، وما جاء به يفترض أن يكون التتمة.

فإذا كانت مكارم الأخلاق، في كل الأمم وعلى مر العصور، تقتضي أن يدافع الإنسان عن جواره، وأن يتجاوز عن الخلافات الضيقة من أجل المصلحة العامة، فكيف تتحول التتمة إلى شيء ناسخ للأصل، ويصبح منوطا بالمسلم أن يتجاوز عن أي رابطة بينه وبين جيرانه وأهله وأبناء وطنه وقوميته وينقض العقد الاجتماعي بينهم، ويصبح أداة في نقض العقد الاجتماعي في بلد يسكنها مسلم آخر!

إن هذه الفكرة شر محض، يصيب الأوطان كلها، ويصيب المسلم قبل غيره، فمن كان هذا سلوكه، فكيف بغيره من أبناء البلاد أن يمنحوه ميثاقهم بالأمن، ويسكنوه بلادهم، أو يأمنوا جواره في بلده. المسلمون المعتقون لهذه الفكرة يشوهون صورة المسلم في مخيال كل أبناء الملل والأوطان، بما يجعله إنسانا لا عهد له ولا ذمة ولا أمان، وعليهم إذا نكث ميثاقه معهم أن يحاربوا كل المسلمين وليس فقط أن يحاربوه هو وحده! فسيأتي من يتشدد له ويناصره سواء أكان ظالما أم مظلوما.

نزيد على ذلك أن هذه الفكرة إذ تنزع الإنسان من حدوده المكانية والزمانية لصالح فكرة غيبية، تجرده من الاتصال بالواقع وتحوله إلى كائن يعيش في الميتافيزيقا، والكائن المعدوم الصلة بمحيطه كائن لا يقوى على الحياة، لاسيما وأن شروط الوجود في هذا العالم مقترنة بقوانين الجغرافيا السياسية، واقتصاديات الحجوم، وفكرة العقد الاجتماعي من دساتير أو قوانين أو أعراف، كلها عند هذا الكائن أشياء يضرب بها عرض الحائط، ليوالي شخصا علم أنه يصدق عن الغيب ما يصدق، نازعا كل ارتباط بشروط وجوده.

شرط الوجود هذا مهم جدا، فكيف يمكن تحقيق وجود لأبناء أي ملة، إذا لم يدركوا شروط الوجود في العالم؟ سيبقى مكتوبا عليهم _بأيديهم_ أن يصارعوا طواحين الهواء، وأن يشتكوا من مخططات شريرة ضد هذا الدين، ليست سوى خزعبلات، وإن كان ثمة من يخطط لإضعاف المسلمين فهو أولا “المسلم” الذي يتبنى هذا الطرح.

لنعد إلى المسميات الأولى ولنفهم الإسلام في سياقه، فالإسلام سواء كان اختراعا بشريا أو رسالة إلهية، لم يأت في فراغ مطلق، بل سبقته ظروف وأحداث اجتماعية تهيئ له، إما أن تكون سياقه كحدث اجتماعي، وإما أن تكون لطفا من الله في تهيئة الأسباب لقبوله عند الناس، وإننا يجب علينا النظر في سياق الرسالة المحمدية ليتضح لنا كنهها، بعيدا عن عدها نوعا من الشعوذة، يضمن لك فيها ترديد بعض الكلمات الخلود في النعيم.

سياق الرسالة المحمدية يتضح بالنظر إلى أحلاف العرب قبل الإسلام، من حلف الأحابيش وحلف المطيبين وحلف الفضول والإيلاف، جاءت دعوة محمد المكية بالإسلام بعدها، والإسلام هو أداء السلم، أي أن تسالم من يسالمك، ثم جاء طور الإيمان وهو أداء الأمن في يثرب، إذ على متبعي محمد أو من يعاهدهم من قبائل أن يحافظوا على أمن بعضهم البعض، والكفر هو نكث هذا العهد، أو رفضه بقصد العدوان. فكيف بأتباع هذه الرسالة اليوم وهم يبررون نكثهم للعهود والعقود الاجتماعية بتصديقهم بالغيب الذي رافق هذه الرسالة.

الرسالة المحمدية فيها شق غيبي، لكن جسمها الرئيس الذي كفل لها الحياة والانتقال في الزمان والمكان، كان الشق الواقعي المتعلق بكون المسلم إنسانا يسالم أهله وأبناء جواره، ويؤامنهم، إلى أن أسس أولى الدول العربية في عهد عمر بن الخطاب، ثم إذا نزعنا منها هذا الشق ووظفنا الشق الغيبي في نقض الشق الرئيس، شق مكارم الأخلاق السابقة على محمد والباقية بعده، ماذا يتبقى من الإسلام!

هذه بالفعل معادلة حقيقية للانقلاب على الديانة، بوصفها معتقدات غيبية تؤسس لانتشار الدين، وهو نظام مجتمعي يقرره أبناء كل زمن، لم يجد الله ولا النبي حرجا في أن يتابعا العرب على أعرافهم الذي تمثله عندهم. هذا الانقلاب يجعل هذه المعتقدات الغيبية تؤسس للدياثة، بوصفها إجبارا بالتلويث، تجبر المصدق بها على تلويث السلم الأهلي، وحل المجتمعات ونقض عقودها الجماعية، فيسلم وطنه للدول الكبرى، منتظرا مددا ميتافيزيقيا لنصرته، من ملائكة لم يجعلهم الله إلا بشرى في وقت النبي، وبعد ذلك لم يأتوا إلا تلفيقا.

هكذا يهدم الإسلامي الإسلام، عندما ينزع منه كل شروط حياته في الزمان والمكان، بل ويهدم معه مكارم الأخلاق، التي جاء ليتممها! بل ويزيد على ذلك كله أن يهدم وطنه، وأوطان غيره من الناس!