دكتور أم إله؟!

بعد الكارثة العلمية التي لحقت بنا، نحن العرب، بسبب غطرسة وجهل المحتل التركي، إذ منعوا عنا الطباعة بحجة قداسة الحرف العربي، الذي سرعان ما أهملوه، وتبنوا الرسم اللاتيني مكانه، وجدنا أنفسنا منذ عصر محمد علي باشا الكبير نقدس المعلم، ونتعامل معه كإله صغير، فقد اختلط تخلفنا بتوقنا لأن نكون أمة متحضرة، فأنتج هذه القداسة للمعلم بدلا من قداسة العلم نفسه.

استمرت هذه القدسية حتى سبعينيات القرن العشرين، حتى انحسرت بانحسار المشروع القومي، لتنتقل قداسة المعلم إلى الكاهن، عضو الجماعات الدينية، التي تعد الناس باستعادة أمجاد الماضي عن طريق التقوى هذه المرة، لا عن طريق العلم، لكنها لم تنحسر بالمطلق وإنما اقتصر انحسارها على مكانة معلم المدرسة، وبالغ الناس في تقديس دكتور الجامعة، فمنح صلاحية مطلقة في التحكم بمستقبل طلبته، وبالكتاب الذي يدرسه، وبكل شيء.

الصلاحيات غير المقترنة بالمسؤولية مفسدة مطلقة، فرغم سوء مخرجات التعليم العالي، التي يقر بها الجميع، بقي الدكتور في مكانة الإله، ولم يسائله أحد عن فشله المتراكم، الذي عزاه الجميع إلى مخرجات التعليم الثانوي والأساسي، أو إلى نوعية الطلبة وفساد الأجيال، وما إلى ذلك من جمل نمطية نتلقاها أنَّا أدرنا سمعنا.

لا أنكر وجود معلمين أفاضل في جامعاتنا، لكن هؤلاء المعلمين الحقيقيين لا يخشون المساءلة، وليس عندهم أي مانع في تحديد صلاحيات الدكتور بقانون جامعي يمنع غطرسته، ويمنع الواسطة والمحسوبية، وتحويل الجامعات إلى شركات جشعة، تمتص دم الأهالي، ثم لا تعطيهم بالمقابل أبناء متعلمين أكفاء، ولا تقوم بدورها المنوط بها من بحث علمي، وحلول تقنية، ومركز قيادة اجتماعي.

السياسة في النهاية تحكم كل شيء، نعم هي تتأثر بغيرها من اقتصاد وقوة عسكرية وقدرات علمية وكفاءات بشرية…إلخ، لكن الإرادة السياسية هي العامل الحاسم في تغيير كل ذلك. إنه ليبدو من مسيرتنا حتى اليوم أن الإرادة السياسية لا تريد تعليما حقيقيا، ولا جامعات تقوم بدورها، فضلا عن المدارس، التي يقتصر إصلاحها على زيادة نفوذ الدعم الأمريكي، وتغيير كلمة هنا وكلمة هناك في الكتاب المدرسي البالي، وإنشاء مدارس لأبناء الطبقة الاقتصادية المتحكمة، يتلقى فيها أبناؤها تعليما غير التعليم البالغ السوء المفروض فرضا على أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة.

السياسة التي نعرف جرائرها على نواحي حياتنا كلها امتدت للجامعات في وقت مبكر، وبدأت ترقيات الدكاترة تحتكم إلى درجة تورطهم في العمل المخابراتي، وفي البلطجة باسم الولاء، وفي التمسح بأصحاب الشركات، وفتح باب الجامعات للمستثمرين، الذين حولوها إلى مؤسسات استهلاكية، لا يطلب فيها الاستهلاك الاقتصادي حسب، بل وفوق ذلك إهلاك كل احتمالية لتفتح العقول.

نتحدث عن التلقين في المدارس ونذمُّه، مع أنه أقل ضررا، وأكثر “وجاهة”، ما دام متعلقا بمعلومات أساسية، لكن التلقين في الجامعات لا يمكن خلق وجاهة له، ولا يذمه أحد، بل ولا يكاد يذكر في صحافتنا. طلبة الجامعة في قبضة وحش حقيقي، مريض نفسي، يسمى “الدكتور”!

غالبية الدكاترة الذين رأيتهم ليس لهم أي نشاط علمي، ولا أي نشاط مجتمعي، ويتعاملون مع الطلاب على طريقة “أنا ربكم الأعلى”، لا يُسألون عما يفعلون، وكأنهم بشهاداتهم التي منحوها لبعضهم، أو اشتروها من مكان ما، سواء بطريقة مباشرة، أم غير مباشرة، أو استحقوها كطلبة كانوا حقيقيين يوما من الأيام، كأنهم بشهاداتهم تلك تعدوا خط البشرية وباتوا بالفعل آلهة أو كهنة على اتصال مباشر بالإله.

لا أتحدث هنا عن دكاترة الشريعة والكهنوت فقط، بل وعن مدرسي المساقات العلمية، من هندسة وطب وعلوم، هؤلاء لا يحدثون معلوماتهم، ويتعاملون مع الطالب على أنه عبد ذليل. دعونا لا نكذب على أنفسنا، كلنا عانى من دكتور متحرش أو متنمر أو مخبر، ورأى أساتذته الجامعيين لا يتحلون بأي أدب، ولا يعرفون أي معنى للمروءة ولا الإنسانية، وكلما كانوا أكثر قذارة، كلما ترقوا في المناصب الأكاديمية، ثم إلى منصب إداري في إحدى مؤسسات الدولة، ثم إلى مجلس النواب، ثم إلى الوزارة، وهكذا فالمؤسسة الأكاديمية تنتج عبيدا في نهايتها الدنيا، وتنتج آلهة وقحة في نهايتها العليا.

وفوق التسلط على الطلبة، وإفساد الجامعات، يضيفون العقوبات غير المبررة على كل نشاط سياسي، ويتسامحون مع العنف الجامعي، بل ويرعونه، ويضيفون فوق ذلك التورط المباشر في البلطجة، والفصل التعسفي. طالب يفصل بسبب منشور على فيسبوك، وآخر يفصل بسبب مشاركته في اعتصام، وأخرى تفصل بسبب اعتراضها على تحرش أحد الدكاترة بها، ومظالم لا تنتهي، والكل مذعن لا يرفع لدكاترة الجامعة إصبعه الأوسط!

أنا أعرف أن غالبية الطلبة دخلوا الجامعات بحثا عن فرصة عمل وعيش كريم، وليس بحثا عن العلم، فإذا كان مجرد دخول الجامعة أو مناقشة مشروع التخرج يحتوي على كل هذا الإذلال، فكيف نقبل به! أوَ يقود الذل إلى العيش الكريم؟ كلا وربكم!

إلى متى نترك أبناءنا فريسة لهؤلاء! ونعترض على الطالب الذي يبصق في وجه دكتور في حفل التخريج! نعم هذا سلوك همجي وقذر، لكن له دلالته التي يجب ألا نغمض عنها عيوننا، وهي أن وراء هذه البصقة فما طالما أغلق بالحذاء، ونفسا قمعت، وتنمر عليها معلمها، فنشأت في هذا الجو الموبوء لا تلام على ما جمعت من أوبئة.

المعلم يكتسب احترامه من احترام مهمته، طالما كان يؤديها بكفاءة، أمَا وقد قبل على نفسه ما قبل، وتطاول على العباد يحسبهم عبيدا، فليس لنا أن نتوقع من الطلبة الأحرار إلا كل سلوك شاذ. أنا أضع مصداقيتي الشخصية على المحك، وأقول لكم إن مدارسنا وجامعاتنا مليئة بالتحرش، والتنمر، وقوانين الجامعات جائرة أكثر من قوانين المدارس، ومن يعترض على ما أقول واحد من ثلاثة: صادق لا يعلم، متسلط لا يريد فقد سلطته، ومن يعاني من حالة الإنكار بسبب مثاليته.

الأنكى من كل ذلك هو سرقة جهود الطلاب، والتطبيع مع العدو الصهيوني، واستغلال الشهادة والمنصب كواجهة للعشيرة، وسوى ذاك من عصارة التخلف، وخلاصة خيانة معنى العلم والعمل به، فكيف بالتعليم، وبناء الأجيال! لا تتحسروا على مكانة المعلم، بل تحسروا على مكانة العلم، ومكانة طالب العلم! هذا إن وجد!