في ازدراء الازدراء

الرؤوس ليست حديدًا، ولذلك يفضل طرقها وهي باردة، ولهذا تعودت أن أقاوم إغراء الحديث في الشأن الراهن بشكل عام، لكن موضوعة ازدراء الأديان تطرق كثيرا في النقاش الإعلامي بشكل سطحيّ، وهي مما يؤثر عليّ شخصيّا، لذلك سأجعلها استثناءً، وأخوض في النقاش الراهن، على أنني فكرت بها كثيرا من قبل أن تكون موضوع الساعة، فهي ليست استثناءً تماما!

حين كتابة هذه السطور، يقبض على كتّاب وشعراء ويزجّ بهم في السجون، بل يواجه بعضهم أحكاما بالإعدام، بتهمة ازدراء الأديان في مصر مثلا، وتهمة الردّة في الجزيرة العربية، والسطور التالية هي تفاعل مع هذه القضية ومحاولة تقديم معالجة مقتضبة لها، عن طريق أسئلة تعرض لي حول الأمر، أتمنى أن يكون لها نتائج في الأذهان، وربما أستطيع تقديم جواب للسؤال المحوري فيها.
هل المشكلة هي مجرد وجود الإلحاد في البلاد العربية؟
بالتأكيد ليست هي المشكلة فالملحدون العرب كثر، وكل منا بين أقاربه أشخاص يصرحون لمن حولهم بأنهم لا يصدقون بأي غيب، ولا يهتمون لكل ما يحمله الخطاب الديني، لكنهم يشبهون المصدقين في كل شيء آخر، حتى أنهم يقرأون الفاتحة على أرواح الموتى، وقد يحضرون بعض صلوات الجمعة في ظروف مختلفة، المهم بالنسبة لمحيطهم أنهم لا يناقشون الناس في عقيدتهم، ويكتفي الجمهور وهم هنا أقرباؤهم وأصدقاؤهم بأن يدعوا لهم بالهداية.
هل المشكلة هي مجرد ازدراء دين ما؟
بالتأكيد ليست هي المشكلة، فالأديان تزدرى يوميا في الجوامع، وأصدقاؤنا من الطوائف غير المصدقة برسالة محمد يسمعون لعنهم يوميا على المنابر، وأديانهم تزدرى كل لحظة، بل إننا نرى أن الشغل الشاغل لعامة المسلمين السخرية من الأديان الأخرى غير الأديان العربية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فماذا لو خصصنا السؤال عن الإسلام! الإسلام يُهاجَم يوميا على المنتديات المختلفة، وفي مراكز الأبحاث، وفي القنوات الفضائية، وعلى الشبكات الاجتماعية، بل إن الإسلام يهاجِم بعضه بعضًا،هذا إذا فصلنا الحديث في اختلافات المسلمين أنفسهم على مستوى الأفكار الجزئية!
هل المشكلة هي مجرّد تصريح الملحد العربي بإلحاده؟
أشهر الملحدين العرب على الشبكة هاجروا إلى الغرب، وأقاموا فيه، وشنّوا حملاتهم الشعواء على الإسلام وعلى الأديان العربية الأخرى، وهم يتحدثون العربية ويستهدفون الجمهور العربي، ولم تضغط البلدان العربية على أوروبا أو أمريكا لإسكاتهم، ولم تقاضهم في بلدانهم بمثل هذه التهمة الحرياتية “ازدراء الأديان”، بل ولم تحاول ذلك أصلا!
هل المشكلة تكمن في النقد والسخرية أو أحدهما؟
رأينا أن الناقد الذي يعلن إسلامه يحاربه المسلمون حربا أشد من حربهم على الساخر، بل إن شتم الذات الإلهية وسبة الدين تجري على ألسنة العامة وكأنها التسبيح، كما يقول المثل الشعبي الأردني (مسبة الدين تسبيح بساعتها- عرار)، ذلك عدا عن تضامن الزعماء العرب مع صحيفة فرنسية ساخرة مقذعة في سخريتها غير المتقنة! ناهيك عن نكاتنا التي تتناول الأنبياء والله والشيوخ وتنتشر بين العامة كأنها منهم! أما النقد العلمي فهو حاضر في المكتبة العربية وموجود بكثرة! لاسيما إن كان مصدره الغرب.
فما المشكلة إذًا!
المشكلة بالضبط هي أن يعرف العامة من خلال الإعلام أن فلانا من الناس قال ما في نفسه وأنه لا يتبع لسلطة الكهنوت الإسلامية، وعاش في سلام آمنا في سربه! لأن هذا يعني أن تتقوّض سلطة الكهنة على الناس نهائيا وللأبد! لأن الجميع يتوق لذلك! لذلك فالإسلاميون كأداة للمؤسسة الكهنوتية غير الشرعية دينيا وقانونيا يهاجمون بكل ثقلهم كل شخص عربي مقيم في بلادنا يعلن أنه يرفض سلطتهم على الملأ! لاسيما إن بقي على إيمانه!
السؤال الأهم هو سؤال قانوني، هل يجوز قانونا أن يحكم في قضية رجل متهم في ازدراء الإسلام قاض مسلم!
في القضاء يجب أن يستبعد أي قاض يشتبه في تحيزه لطرف من أطراف القضية، وفي هذه الحال يجب الطعن في كل حكم صادر بحق هؤلاء ما دام القاضي الذي أصدره مسلما! وهذه فرجة في القانون المدنيّ تمنع تغوّلهم على أصحاب الخطاب التنويري، فلنستغلّها.
أما بالنسبة لمن يواجه حكما بالإعدام في ما يسمى “السعودية” فيجب أن يرمي الجميع هذه البلدان وأنظمتها وقضاءها ومذهبيتها وطائفيتها عن قوس واحدة، فؤلاء لم يصلوا بعد للدولة المدنية المتهالكة التي نعاني من ظلمها!