تمدين الجيش وعسكرة الشعب

ورثنا الشكل العسكري الكولنيالي، وكان وراء صناعته دول مهتمة بالهجوم أكثر من الدفاع، اقتصادات قائمة على الغزو، وحدة قائمة على الحديد والنار، استعمار خارج حدود الدولة، كل ذلك تسبب في كون هذه الجيوش مطالبة بالعدائية القصوى، وهذا جعل الجيوش مكوّنة من شباب يعيشون بعيدا عن أهلهم، عزّاب، تتراكم داخلهم الطاقة الجنسية وتخرج على صورة عنف مبالغ فيه.

لكننا لفروق موضوعية بيننا وبين المحتلين الذين غزو بلادنا وأورثونا الشكل العسكري لجيوشنا، كان يجب أن ننزع إلى تشكيل حيوش دفاعية، تدافع عن الحياة التي تحب، ولذلك فإنها يجب أن تحب هذه الحياة أصلا، وهذا يتضمن بناء الجيش بطريقة تبتعد عن الأسلوب الأوروبي والعثماني في بناء الأفراد المحاربين “الهدم وإعادة الصناعة= بريك تو ريميك”، والتي تتضمن العزلة عن المجتمع والتفريق بين العسكري والمدني.

عانى محرّر أمريكا اللاتينية من أصحاب مثل هذه القناعة، فهم كانوا يطالبونه أن يحارب بالأهالي لا بالجيش النظامي، وقد ورد في مراسلاته وخطبه ضيقه بمثل هذه الطلبات، لأنها لا تمنحه أفرادًا عسكريين حقيقيين، لكن الخلاف بينهما كان مختلفا عن دعواي هنا.

أنا لا أنادي بعدم وجود جيش نظامي، والاكتفاء بالدفاع الأهلي، بل أنادي بتغيير ميكانيكية عمل الآلة العسكرية في بلادنا، مع بقاء الجيش نظاميا، لكن لا داع لكل هذه الطقوس العسكرية التي تبني فردا يحتاج سنوات من التأقلم لكي يعود للحياة المدنية، نحن يجب أن نحرك حياتنا المدنية باتجاه العسكرية قليلا، ونحرك حياة جنودنا باتجاه المدنية قليلا، لنكوّن جيشنا من أفراد يحبون الحياة ويدافعون عنها بوعي، يساندهم في ذلك الأهالي.

المصيبة أننا بتنا نبني أجهزتنا الأمنية التي تتعامل مع شعبنا على غرار الجيش الأوروبي المعدّ للغزو، فلا تحدّث شرطيّا أو دركيّا، أو رجلا من رجال الدولة آت من خلفية عسكرية، إلا وأحسست أنه يتعامل معك بفوقية مقرفة.

الأطوار التي مر بها الأردن في خصوص الثقافة العسكرية والمدنية، أطوار عجيبة تحتاج للشرح الطويل، ولكن قد يمكن اختصارها بأننا بدأنا منذ اعتماد الانتداب البريطاني على أبناء البادية بصورة رئيسة، ثم استمرت بدوَنة الجيش بعد تعريبه، حتى بعد الخدمة الإلزامية، ضمن موازنات حساسة، من متعلقات أيلول الأسود، والتي تحكّمت بالترقيات ومن يصل إلى مواقع حساسة في التسلسل التنظيمي، وهذا مفهوم ومبرر في إطار الدولة القطرية، لكن تبع ذلك منذ منتصف التسعينات عسكرة المجتمع المدني من خلال الأغاني العسكرية الموجهة لعدو مجهول، وهذا لا يمكن فصله عن “اتفاقية وادي عربة”، لينتهي بنا المطاف إلى أن أبناء العشائر بعيدا عن العاصمة أمامهم خياران: الجيش، التطرف الديني.

الانقسام ينتقل اليوم للمجتمع، وبالتأكيد أنا في صف الجيش، الدولة، الهوية الوطنية، في مقابل المسلحين العشائريين، الذين يخلطون العصبية القبلية مع العصبية الدينية، ويصل بهم الأمر إلى تبديل ولائهم، ومولاة السعودية في معان، أو مولاة “داعش” في أنحاء متفرقة من الوطن.

هذه القسمة تحدو بالدولة إلى استرضاء الميل إلى التطرف الديني، من باب المزاودة على الإسلاميين، وعودا على بدء فإننا أمام انقسام متمثل بحلفين عنيفين يزاود كل منهما على الآخر في مجاله، ولابدّ لحل هذه المعضلة من العودة إلى الاعتماد في القوة الدفاعية على شباب يحبون حياتهم ويدافعون عنها، بعيدا عن الميل للعنف، وبناء منعتنا العسكرية على تأهيل المجتمع ليكون مجتمعا مقاوما للصهيونية، عارفا بعدوّه، وينبذ أي انقسام يجعله أضعف أمام هذا العدو.

بيت القصيد هو أننا إذا لم نستيقظ _وهذا لايبدو قريبا_ سنرى نفسنا أمام إسلامَيْن متحاربين كل منهما يكفّر الآخر، وأمام صورتين عن الانتماء الوطني متحاربتين أيضا، كل منهما تخوّن الأخرى، وهذا يجعل التقسيمة أعقد أكثر فأكثر، وبما أن الأردن مرشح ليكون مخزنا للإسلاميين بعد انتهاء الأحداث في سوريا، فالأمر أكثر خطورة مما نتصوّر.

الانتماء الديني والعشائري يجب أن يذوبا في الدولة الوطنية، والدولة الوطنية يجب أن تعود وطنية وتبتعد عن بث الروح العسكرية _ كما هي_ إلى المجتمع المدني، وبالمقابل تعتمد على خطاب مرضٍ للأطراف جميعها، خطاب جامع يبث في الناس ما يؤهلهم ليكوّنوا مجتمعا مقاوما، يحب حياته ويدافع عنها، وأظنّ أن إعادة الخدمة الإلزامية ستساعد على ذلك، فهي ستمنح الدولة خلوةً مع كل فرد، تستطيع من خلالها ضبط التطرف وهو في مهده، وبتصاعد الروح الوطنية الأردنية سيكون الجيش بوابة مساواة الجميع بالجميع، ونبذ العنف، والقضاء على الروابط التي تعود لحقبة ما قبل الدولة، من عشائرية وتطرف ديني.

ولا أقول إن الطرح هنا مكتمل، فهو بحاجة إلى إنضاج أكثر، وهو برسم التداول في عقول أخرى أكثر اطلاعا مني.