تستطيع أن تكتشف بنفسك!

سواء كنت ممن نجحوا في الثانوية العامة، أو ممن رسبوا فيها، فإن هذا المقال موجه لك…
مبارك لكل الناجحين أنهم حصلوا ما أرادوا ومبارك أكثر لمن لم يجتز هذا الامتحان، لأنه سيتجنّب المسيرة العقيمة مضطرا، الثانوية العامة “التوجيهي” مقلب كبير لمن رسب فيه فاكتأب ومقلب أكبر لمن نجح فيه فأجّل مواجهة الحقيقة.


ثمّة خرافات كثيرة وكبيرة حول المسيرة التعليمية والمهنية، سأتكلم باقتضاب لأنني لا أحب موقف الناصح وإن كان أمينا، في النهاية أكثر ما أتوقعه من نصيحة أن تكون مساعدا على ترتيب الأفكار، بعد أن يكتشف مضمونها الإنسان بنفسه، أمّا لو ظننت أن أحدا سيسمع وينفّذ لجبنت عن أن أنصحه لأنني لن أطمئن لبذل نصيحة أبداً حتى أتيقن أنها الحق يقينا من رتبة اليقين التي لم أتحصّلها في شيء، لكن ما دام اتباع النصائح قليلا، وقد كثرت المشورة فباتت كالغبار، فقد ارتاح المُرتاب للنصح.

لو كان ثمة عامل محدد يُعزى له النجاح في الحياة، فبرأيي: إنه بالضرورة سيدور حول الذكاء العاطفي، ومن فعله فيك أنه يخوّلك أن تترك لذة قليلة عاجلة للذة عظيمة آجلة، وهنا أنا لا أتحدّث عن استقامة الدنيا ونعيم الآخرة، بل أتحدث عن أمر دنيوي بحت، وراجع كتاب (الذكاء العاطفي*) لتتحقق من الدراسات التي أقنعتني بهذا الرأي، فالذين ذاكروا ونجحوا قد يكونون مؤهلين من حيث القدرات الفردية بالفعل أكثر من غيرهم، لكن هذا لا يعني أن غيرهم يفتقر لهذه القدرة تماما، وقد يكون يمتلكها أكثر لكنه يواجه مهمة أصعب بسبب مشكلة تعليمية لم يتمكن من تحديدها أو علاجها نظامنا التعليمي القميء، ولكن في الأعم الأغلب فالثانوية العامة ليست بالأهمية التي يخيلها لك الناس من حولك ودورها ضئيل جدا في نجاحك في الحياة.
المبرر الوحيد المنطقي للضجة المحيطة بالثانوية العامة هو أنها “تحدد مستقبلك” وهذا من أصله ليس صحيحا بالضرورة، ولو كان صحيحا فإن أسوأ شيء يمكن أن تفعله هو أن تعرف أو “تحدّد” مستقبلك تماما! ليس فقط لأنه يفقدك المتعة، بل أيضا لأن وضع حدود للمستقبل ليس شيئا جيدا بالأصل!
الأصل أن المستقبل يكتشف ولا يحدد، وأن الحياة تعاش ولا تجتاز! وكل ما يضيفه لك التفوق المدرسي هو خيارات أكثر، وهذا ليس للسعي للأفضل بينها فالناس تبحث عن خيارات أكثر دون أن تعرف الخيارات التي لديها، سبب الهوس بالخيارات الأكثر هنا هو تأجيل المواجهة لا أكثر!
مهما يكن خيارك المتخذ أو خياراتك المتاحة فإنه مما يفيدك أن تعرف كيف يعمل العالم اليوم، أقصد في الجزء الذي يخص العمل والتعليم، وللتحديد أكثر بعيدا عن المؤسسات التقليدية (الحكومية والنقابية)، وهي تقريبا المؤسسات الوحيدة التي تعبأ بشهادتك دون مهارتك، لكن الشهادة عند الأغلب الأعم ممن ستتعامل معهم في حقل العمل (العمل المأجور بشكل رئيس) هي مجرد شيء على الهامش، وكل ما يعنيهم هو مصلحتهم، وأنت ثمين بالنسبة لهم بقدر ما تستطيع تحقيق مصالحهم، وللدقة فهذا مقترن بعدد الناس القادرين على تلبية مصالحهم بدلا عنك إن استنكفت أنت! أي أن يحتاجك الناس.
أصحاب العمل لا يعنيهم أن يشجعوا حمل الشهادات، ومن يهمك التعامل معه بينهم هو بالضرورة شخص عملي ينأى بنفسه عن التباهي بالدرجات العلمية لمن يعمل معهم، وهكذا فإن مهاراتك النافعة، لا سيما إذا اقترنت بمهارة إظهار هذه المهارات، هي ما يهم الآخرين، أقصد يهمهم لدرجة أن يوقعوا لك شيكاً مصرفيًّا، وليس لإبداء الإعجاب به في جلسة نفاق اجتماعي! الفكرة في مهارتك في شيء، أن تحسن القيام بعمل ما أو أعمال بالأحرى، أن تجيد مهارتك وتجوِّدها وأن تكون مهاراتك كثيرة، وهكذا تصبح مطلوبا ومحترما في بيئة العمل، وأن تكون على وعي بمهارتك ومستعدا للدفاع عنها والمطالبة بحقك كاملا، بتعامل سلس بعيد عن الضعف.
يجب أن تعرف أيضا أن الحياة تتطور أسرع من العالم الأكاديمي وبذلك فإن المهارات العملية والمعرفية المطلوبة اليوم لم تكن معروفة أصلا كي تدرس في الجامعات كتخصص قبل 4سنوات، وهذا ينطبق أكثر على الحياة بعد 4سنوات من اليوم، فالحياة تغدو أسرع وأسرع، وعلى الأغلب من تخرج من الجامعة عرف ذلك متأخرا، وتفاجأ بعد تأجيل المواجهة طويلا أنه لم يعد عنده خيارات أصلا، ولم يعد بالشجاعة التي تسمح له أن يتخلى عما يظن أنها مكتسبات، وينتهج الطريق الحقيقي، فاختار أفضل الطرق المتاحة وفقط.
لن يخبرك أحد من أهلك بهذا لأنه ببساطة _على الأغلب_ لم يزل لا يعلمه، فهو منخرط في الطريقة التقليدية للحياة، وهي تجهده وتحتل وقته، فتمنعه من أن ينظر حوله، ورغم كل مثابرته يرى الحياة صعبة، فيخاف عليك من مواجهتها لدرجة الإفراط في الحماية الذي يقتلك به، ويحولك لشخص “عادي” من زمن سابق يعيش في عالم اليوم، وهذا بالتأكيد سيجعلك تبتعد عن أي تميز، وبالتالي ستكون ككثير من الناس الذين لا يحتاجهم أرباب العمل إلا كعمالة قابلة للاستبدال بظرف يوم!
ربما تقول الآن: وبعد كل هذا التزهيد في الوضع القائم، ألا تعطينا حلا! فأقول لك: أنا كنت فقط أشرح الدنيا كما رأيتها ولم أكن أتحدث عن رأيي بأي صفة من صفاتها إلا ما أفلت عرضا من كلمات مشحونة أثناء الوصف! وللحق ما أعتقده عميقا في قلبي أنها مشكلة جماعية تحتاج حلا جماعيا وليس حلولا فردية، ولكن الحلول الفردية تضرب مثلا يلهم الجماعة، وهنا أذكرك بقول علي بن أبي طالب: قيمة كل امرئ ما يحسنه! لذلك كن حريصا على أن تُحسن أعمالا أكثر، وتمتلك مهارات أكثر، وهذه هي الخيارات الأكثر، والأسلحة الحقيقية التي تواجه فيها الحياة، استثمر بمعرفتك ومهاراتك ثم غامر وعش الحياة لآخرها، واترك فكرة (تأمين المستقبل) فهي كذبة ستنغص عليك عمرك!
لا يمكن التنبؤ بكل شيء، وعوامل النجاح في الحياة غريبة، كالعامل الحاسم في الحروب مثلا، فمن كان يتخيل أن يؤدي صندل الڤيتكونغ هذا الدور المحوري في طرد الأمريكان من ڤيتنام! ومن كان يتخيل أن من أهم عوامل نجاح المقاومة العراقية هو انتشار أنظمة التحكم بكراجات المنازل! تبدو الكلمات هنا متباعدة حد أن تظن أنني بدأت أهذي، ولكن صندل الكاوتشوك الذي كان يرتديه ثوار ڤيتنام، يسر لهم حركة داخل المستنقعات وجعلهم أكثر خفة للتنقل من الجيش الأمريكي الذي أكلته الفطريات لأن أحذيته لا تجف بسرعة صنادل الڤيتكونغ، أما أنظمة التحكم عن بعد لكراجات المنازل فقد كانت صناعة شعبية مزدهرة في العراق، استغلت بالتحكم عن بعد بالمتفجرات التي شكلت كابوسا للمحتل الأمريكي! وما أقصده من هذه الفقرة هو أن عامل نجاحك في الحياة غير ممكن معرفته إلا بعد أن يظهر بسبب سيرورة الحياة نفسها، وليس شيئا مخططا له تماما، كل ما يمكن أن تخطط له هو إكساب نفسك مهارات أكثر ومعرفة أكثر وإرادة أمضى وأفعل، والبقاء مستيقظا لما حولك وعدم التجمد كأهلنا عند لحظة زمانية محددة باتت من الماضي.
وعدم قبولنا بشروط الحياة الحالية لا يعني عدم امتلاكنا للمرونة الكافية للحصول على ما نريد، فاستخدام ما نملك للحصول على ما نريد _جماعة كنا أو أفرادا_ هو شيء أساسي في التدافع في الحياة، ومما يعينك على ذلك:
فكر بالحصول على (فرصة دخل) وليس (فرصة عمل)!
ابحث عما يمكن أن يحتاجك الناس فيه داخل التقاطع بين ما تحبه وتتقنه وتستمتع بقضاء وقتك وأنت تعمله وترى نفسك تفيد المجموع من حولك به، يعني ما يحقق كل هذه الشروط ويمكن تحويله لفرصة دخل فهو في الحقيقة عملك الأفضل وليس ذلك التصنيف الطفولي الذي اعتدناه! أقصد من نوع: (بدي أصير طيار لما أكبر!)
ثمة مهن غير معروفة لو عرف عنها الناس لاصطفوا طوابير للتنافس عليها، وبما أن التلفاز يحظى بنسبة مشاهدة عالية فعلى سبيل المثال هناك من عمله أن يشاهد المسلسلات والبرامج قبل الناس ويقرر شراء المحطات لها من عدمه! وهناك من عملهم أن يخرجوا لأكبر كمية من المطاعم والمحلات لكتابة نقد عن خدماتها، وغيرها من المهن التي لا تدرسها الجامعات، ولا تحتاج فيه لشهادة من أحد غير سيرتك المهنية ومهاراتك ومعرفتك، والتي في الأغلب الأعم تمنعك الجامعة من امتلاكها بصورة حقيقية والذي يجعلك تمتلكها هو كثرة اللعب و”التنبيش” وامتلاك شغف لا ينطفئ للحياة، وهكذا فقط تصبح مقولة “الحياة تقبل على المقبلين عليها” صحيحة!
طبعا في النهاية تستطيع أن تفعل ما تريد وعلى الأغلب ستقول لنفسك: سأمشي في الطريقين معا، ما قلته في هذه المقال، والتعليم التقليدي معا! وأنا أقول إن هذا ممكن ولكن من يريد أن ينفق كل هذا المال والوقت على شيء غير حقيقي فيما عدا مهن محددة كالطب والهندسة مثلا! لأنها تحتاج مختبرات وجثث للتشريح ومواكن وغيرها وهي مهن لا تستطيع إكمال دراستها بلا شغف لأنها متعبة حقا، المهم أن تكتشف شغفك وتتبعه… وتذكر أن (شغفك هو شرفك).
* الكتاب صدر في مجلة عالم المعرفة وهو متوفر بنسخة إليكترونية جيدة على الإنترنت.