استدامة المؤقت

التسويف سمة المتخلفين، إذ هو في حد ذاته تخلُّف عن عمل اللازم، اختيارا أو اضطرارا، فهو إن كان اختيارا ينم عن طريقة متخلفة في التفكير، فإن كان اضطرارا فهو علامة تخلُّف واقع منتهجيه، ولعلنا لا نظلم إذا أقررنا بأننا نعاني من التخلفين معا!

نبقى نسوِّف حل المشكلة، ونماطل ألمنا لصالح كسلنا، حتى ينتقل الحل من كونه ضروريًّا غير مُلحٍّ، إلى كونه ضروريا ملحًّا، وعلى سبيل المثال: دفع فاتورة الكهرباء قبل قطعها عمل ضروري يمكن القيام به على التراخي، لكنه بعد قطعها يصبح عملا ملحًّا لا يقبل التأجيل!

ماذا لو بات التأجيل اضطراريا وبدأت المشكلة تتفاقم، لأننا غير قادرين على حلها حلا يليق بها، هنا لا يمكننا أن نسلم زمامنا للمزيد من التأجيل، ويغدو ابتكار حل مؤقت ضرورة مُلحّة، كأننا نشد ضمادا كي نوقف النزيف، حتى لو كان هذا الضماد ملوَّثا، وترتفع فورا أولوية إيجاد حل دائم للمشكلة.

لكن نحن نعاني من مشاكل كثيرة، كثرتها في حد ذاتها مشكلة أخرى، والتباس الأولويات بينها مشكلة تضاف على القائمة، والقائمة تطول وتنمو، وأكرر هنا ما قلته في مقالة سابقة “المشكلات كائنات اجتماعية تعيش وتنتقل في أسراب” وأضيف أيضا أنها تتكاثر ذاتيا أو عند تزويجها حلولا زائفة!

هذه الأسراب من المشاكل التي تغزونا كالجراد يحتاج كل منها حلا حقيقيا، وقد بينت من قبل أن “الحلول الحقيقية أقل عددا من المشاكل” يعني أن الحل الحقيقي الواحد يحل عدة مشاكل معًا، لكننا مشغولون بابتكار حلول مؤقتة للمشاكل الملحَّة، ونستنفد جهدنا في ذلك، حتى لا يبقى عندنا من الوقت والجهد ما نكرسه لحل حقيقي واحد لأي مشكلة أو مجموعة من المشاكل.

كل هذا مسؤول عن سلوك خطير آخر، هو استمراء الحلول المؤقتة، ولا أتحدث فقط عن القبول بها مؤقتا، بل عن سلوك عجيب أخطر وهو محاولة استدامة الحل المؤقت، أي التعامل معه على أنه حل دائم، بل وإعادة ضبط الواقع وسائر الحلول الأخرى على أساس حتمية وجود هذا الحل!

قد يستطيع أحد العقلاء تبرير الحلول المؤقتة، لكن العيب كل العيب أن ترى من يزعم أنه عاقل غيور على المصلحة يستديم حلا مؤقتا، لا سيما أن الحلول المؤقتة غير قابلة للاستدامة، وإذا ما أكرهنا أنفسنا على قبول استدامتها فإنها تولد مشاكل أعمق وأخطر وأكثر من تلك التي تفقدنا هي الشعورَ بضرورة حلها، دون أن تحلها!

ألم يحن الوقت أن نتقبل أن الحياة الطبيعية التي نتخيل وجودها فنسعى لكل مظاهرها، حياة مستحيلة في واقعنا الرث هذا! يجب أن نواجه حقيقة الشذوذ الذي نعيشه، وأن نضحي ببعض مظاهر الحياة الطبيعية التي نحتال بها على أنفسنا، مقابل أن نبذل كل طاقتنا في خلق حلول حقيقية قابلة للاستدامة، تهيؤ المناخ لخلق حلول لمشاكل أخرى.

الحلول الحقيقية بالضرورة حلول جذرية، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نواجه مشاكلنا الجذرية ونحن في أضعف حال، فقد نبدأ بالحلول الأكثر جذرية للمشاكل الأقل جذرية، واضعين نصب أعيننا أن أهم ما نشتريه بالوقت الذي نكسبه من هذه الحلول، هو البحث عن المشاكل الجذرية والإمساك بها، ووضع حلول لها وإن كانت غير قابلة للتطبيق في حينه، لكننا على الأقل نلتقط أنفاسنا دون أن نولد مشاكل أعظم، لعل حالنا تتحسن ونستطيع من خلال ما نستديم من حلول المشاكل الأقل جذرية التوصل إلى حل للمشاكل الجذرية، فعدم القدرة على خلق الحلول الجذرية للمشاكل الجذرية الآن وهنا يجب ألا يمنعنا من امتلاك الرؤية الشمولية وإبداع الحلول الجذرية للمشاكل الفرعية على أساسها.

أول ما يجب أن نضع حدا له، هو هذه السيولة الذهنية التي تبحث عن أقصر طريق للتخلص من أعراض المشكلة، فواقعنا يظهرنا وكأننا جرذان في متاهة، نصطدم بعائق قد يكون سهل الاجتياز بقليل من الاحتيال والجهد، فنفضل أن نهرب إلى أي طريق سالكة، لا تؤدي بنا إلا إلى المزيد من الضياع، نشتري بهروبنا هذا وهمَ الحركة، وإن كانت هذه الحركة في حد ذاتها مضرة فضلا عن انعدام فائدتها!

ولأن الحال هي هذه فلابد من مكاشفة الناس بوهمية حركتهم، لعلهم لا يجدوا مناصا من الاصطدام بما يجب عليهم أن يواجهوه، وهذا يعني أن التقدميَّ بطبيعة الحال يجب أن يكون فضائحيًّا في هذا الواقع المَعيب! وهذه الفضائحية ليست سوى الصدق في ذاته، لكن متى ما دفعنا حبنا للصورة الجميلة عن أنفسنا إلى التزييف والكذب، تكون الفضائحية تأدُّبا، أجبروا الناس على مواجهة مشاكلهم.