الديموقراطية | وليمة من “العلكة”

ذاك المشهد الذي يخيّر فيه (مورفيوس) في فيلم (ذا ماتريكس) بطلَ الفيلم (نيو) بين قرصين من الدواء؛ أزرق وأحمر، هو نقطة الانعطاف التي ينتقل فيها (نيو) من شخص يفرض عليه قدره المعارك والظروف، إلى شخص اختار شيئا في معركته، بعد أن أخذ القرص الأحمر، كما كنا نتمنى جميعا، مع أن غالبنا كان سيختار القرص الأزرق لنفسه لو كان هو مكان (نيو)، وقد يغامر بتناول الأحمر لو كان يعلم مسبقا أن هذا فيلم، فماذا كان القرص الأزرق؟

قرص العلكة

قبل أن نغادر جوّ السينما، فلنتذكر صورة الجندي الأمريكي في السينما، وهي صورة تكاد تكون نمطا، أتحدث عن البطل الخارق الذي يهزم دولة كاملة وهو يمضغ العلكة! في السينما التجارية الأمريكية يأتي الجيش الأمريكي “ليحرّر” السكان الأصليين في البلد الذي يغزوه، من “استبداد” قوة محلية تمثّل الشر المطلق في الفيلم، هذه القوة المحلية هي الفاشية أو الاشتراكية، فإذا أردنا أن نقتضب في الجملة السابقة لقلنا أن الأمريكي “يحرر” البلد الذي يغزوه من “الايدولوجيا”، ولن تعدم في كثير من الأفلام تلك اللحظة التي يمدّ فيها الجندي على الخائن الذي يعاونه من السكان الأصليين، قرصا من العلكة، وقد يضطر أن يشرح له ما هي، لأن المحليّ لا يعرفها، بسبب كونه من سكان الفضاء مثلا، أو بسبب كون النظام السياسي الذي يعيش في ظلّه يحرّم العلكة، أو حتى بسبب كونه بدائيا من الزمن الماضي.

العلكة أو اللبانة في حد ذاتها رمز، فالذي يمضغ العلكة يقدّم على أنه شخص متجاوز لقيود المجتمع، خصوصا أن مضغ العلكة في مكان رسمي يعدّ قلّة أدب، فماضغ العلكة لابدّ وأنه غير زِمّيت وغير رصين على نحو ما، هذا من جهة استخدامها، أما من جهة طريقة عملها، فهي تجعلك تلوك وتلوك دون نهاية، تمضغ كثيرا، وتُسيل لعابَك، لكنك لا تشبع، من يراك من بعيد يظن أنك تأكل، لكنك تمضغ وحسب، هي تمنحك الطعم قويا والنكهة مكثفة، تترك رائحتها في فمك، لكنها ليست طعاما، حتى أنها مضرة إن ابتلعتها كسائر الطعام. لكن لحظة أليس هذا مقالا عن الديموقراطية! فما دخل العلكة؟

“الديموقراطية” “الانتخابية”

لن أعيد الكلام الممجوج عن ردّ مصطلح ديموقراطية لأصله الإغريقي، وكونه يعني “حكم الشعب”، لأنها إن كانت كذلك فيجب علينا الوقوف والتفكّر قليلا، هل ما نمارسه اليوم تحت اسم الديموقراطية يصلح بالفعل لأن يطلق عليه هذا الاسم؟ أعتقد أن هناك شعورا عارما وواضحا لدرجة أنه تكفي الإشارة له دون بيانه، بأن ما نعيشه لا يندرج أبدا تحت المسمى الأصلي للديموقراطية، نحن نعيش ظاهرة التصويت، وهي ظاهرة صوتية من جهة أن الناس تدلي بأصواتها، وظاهرة صوتية أيضا من جهة أنها اسم فقط لا حقيقة له.

“العرس الانتخابي” أو “العرس الديموقراطي” كما يسمى إعلاميا، هل يتبعه ما يتبع الأعراس عادة! يرجع الناس لبيوتهم بعد التصويت ومن ثم “فالعروسة للعريس والجري للمتاعيس”، وعادة لا يخرجون من بيوتهم أو أعمالهم للتصويت إلا تحت تأثير الرهبة، الرهبة من فوز من لا يريدونه، وليس الرغبة بفوز من يريدونه، هذا إذا كانت الانتخابات عامة، فإن كانت مناطقيّة فهنا قد يدخل المال السياسي بشكل مباشر كثمن لأصوات الناس، وهو يدخل أيضا كنفقات دعاية وإعلان للحملات الانتخابية في جميع أصناف الانتخابات.

طالما سُوّقت لنا ظاهرة التصويت (ما يسمى ديموقراطية) على أنها سبب للرّفاه، وهي في المجتمعات الغربية نتيجة له وليست سببا فيه، هي جاءت بعد حروب الوحدة وبعد النهضة الصناعية وبعد نهضة التعليم، في حين بُني الّرفاهُ الغربي على نهب ثروات الشعوب التي عانت من الغزو، وليس على ظاهرة التصويت! وظاهرة التصويت لم تحقق للناس إلا ما يظنونه درءاً لمفاسد، فالأقليات ستشعر بوجود من يمثلها، وسيطمئن “الإنسان المعادي للأيدولوجيا” في ظلها، وسينام بعيدا عن رهاب الفاشية التي عانى منها تاريخيا أو كذا قيل له، مع أن النازية مثلا وصلت للحكم عن طريق التصويت وصناديق الاقتراع.

الروابط الكيميائية

يكتسب المركّب الكيميائي خصائصه من جهتين أولهما العناصر الداخلة في تكوينه، وثانيهما شكل الروابط بين تلك العناصر، وفي علم الاجتماع هما عناصر المجتمع من مجموعات جزئية وأفراد، ومن جهة أخرى طبيعة العلاقة بين هذه العناصر، وديموقراطية اليوم ليست حكم الشعب بقدر ما هي مجموعة أنماط ذات سمة مشتركة لطبيعة العلاقة بين عناصر المجتمع.

نمط الروابط بين عناصر في مركب كيميائي مستقرّ، قد تكون سببا في جعل مركب آخر غيرَ مستقر، حدّ أن يكون مادة متفجرة، وسعي الكون الحثيث للاتزان هو الذي سيغير شكل المركب أو الخليط ونمط الروابط فيه، حتى يصل لحالة الاستقرار، فقد يصل مجتمع ما تبعا لطبيعته لنمط علاقة بين عناصره (نظام دولة) مستقر دون أن يكون تصويتيّا، لكن الإمبريالية الأمريكية بالطبع لن تقبل بذلك، فمصالح الشعوب بالضرورة ضد مصالحها بوصفها إمبريالية ابتداءاًً، وحتى لو كان نمط هذا النظام تصويتيا وكان ضد مصالحها فهي ستشكك بكون هذا التصويت “ديموقراطيا” في الأصل، ولهذا نجد الموقف الأمريكي داعما لحكام الخليج، وضد نتائج التصويت في فنزويلا مثلا!

يروَّج للنظام الديموقراطي بوصفه مفهوما كونيّا لا مفهوما غربيا حسب، فهل هو فعلا كونيّ؟ علما بأن المفاهيم الكونيّة لابدّ أن يكون لها تمثيل محليّ، فإذا أخرجنا الغزو الثقافي والعولمة (أو لنسمها الأمركة أو التغريب) من المعادلة، فالتصويت ليس ظاهرة كونية أبدا، أما الظاهرة الكونية التي يندرج تحتها النمط التصويتي فهي _كما يصفها صديقي محمد أبو قاسم_ دولة الاستئذان، يقابلها كنقيض لها دولة العدوان، والاستئذان قد يحصل دون تصويت، بل إن العدوان قد يحصل مع التصويت، فالظاهرة التصويتية ليست كونية، أي أننا لا يجب أن نقبل بتعميمها بالضرورة، والمفهوم الكونيّ الذي تندرج هي تحته قد يكون نقيضا لها حسب طبيعة المجتمع.

العقم العميق

الفرد الذي يمجد اللذة العاجلة (هنا هو الإنسان المعادي للأيدولوجيا) يشبه قردا يقوم بقفزة مظلية، ويخاف من الألم المصاحب لفتح المظلة بسبب التباطؤ المفاجئ، فيستمر في السقوط نحو الأسفل، الخوف من الألم العاجل قد يكون السبب في الهلاك، وهذا هو حال المجتمعات غير ناجزة النهضة، فهي لم تجب على الأسئلة الأولى لها، وأمامها حروب تحرير وتوحيد لتخوضها وهذا يصاحبه ألم عاجل كبير، وفي الغالب الأعم إذ لا يتمكن النظام المناهض للإمبريالية من قلب المعادلة دائما، والفوز بالحروب الإعلامية، ليجعل الفرد مدفوعا بقوة رُهاب ما نحو الخيار الوطني في عملية التصويت، فنتيجة تبني ظاهرة التصويت تكون وبالا عليه، وعلى الأمة بأكملها، وتكون في صالح الإمبريالية والكومبرادور الذي يمثلها محليا.

العقم العميق للظاهرة التصويتية يتجلى في كونها لم تنتج خلال سياقها الحضاري الغربي، في الغالب سوى حكومات رأس المال، والآن تعدّت ذلك إلى نظام الشركات، حيث رأس المال هو القادر على إنتاج البروباغاندا التي يلوكها الأفراد، البروباغاندا هنا تجد في المجاميع البشرية المغيبة حاملا لها، فكل فرد هو حامل للمرض ومصاب به، يردد مقولات وشعارات فارغة ومجموعة من الجمل المصممة لكي تنتشر، ولا أجد شيئا يشبهها أكثر من العلكة، فالجميع يلوك ويلوك، لكنه يموت جوعا!

ويكفي أن نذكر بأن التصويت يساوي بين رأي المختص ورأي عديم الاختصاص بكونهما صوتين في الميزان الانتخابي، وهو بحد ذاته معيق للكفاءة فهل ستجد جيشا “ديموقراطيا” من حيث طريقة عمله! أضف إلى ذلك أننا قد نبصر ما يجرّه ذلك على سائر مجالات الحياة، إذ أن حمّى التصويت في البرامج الفنية التي يخلقها رأس المال تدمر الفن، ولا تعدو منتجاتها أن تكون وجبات سريعة فاسدة، تحت ذريعة “السوق عايز كده”! أليست هذه الذريعة مماثلة لأختها المسؤولة عن إفساد النظام الاقتصادي! لكنه من جهة أخرى يمنح الناس شيئا ليلوكوه، فإذا اختفى طعم العلكة فهناك علكة جديدة دائما.

الكونيّ محليّا

بينما قد تتجلى “دولة الاستئذان” في حكم لا يتداول السلطة، ولا يتبع التصويت، قد يتجلى بآخر يتبعه، المسألة متعلقة بالظرف التاريخي فقط، لكن عليه أن يكون تصويتا لأصحاب الاختصاص مثلا أو أن يتم التأكد من صلاحية الخيارات التي يتم التصويت عليها، أو بالشروط الناظمة للعملية التصويتية والتي تتطلب وجود دولة أصلا، الشرط الوحيد هو تحقيق الاستئذان بين أصحاب العلاقة باتجاه مصلحة الأمة، وهذا لابد في الظرف التاريخي القائم أن يتناقض مع مصالح الإمبريالية، ولذلك فإن الإمبريالية ستقف على طرف نقيض من كل حكم يحقق مصلحة الأمة، سواء بالاستئذان أو العدوان (الاستبداد)، لأنه يضر بمصالحها.

أخيرا فالمشروع الأهم من ذلك كله والصراع الذي لابدّ أن تخوضه الأنظمة الوطنية المحلية، هو ضد عصر معاداة الأيدولوجيا، فهو بحد ذاته أيدولوجيا، لنسمها (أيدولوجيا تَجاوز الأيدولوجيا)، فالموقف الفكري هو سبيل تحرر الإنسان، وإذا كان الخوف الذي يُسوَّق ل (أيدولوجيا تَجاوز الأيدولوجيا ) هو الخوف من موقف فكري فاسد يتعصب له الناس، فهذا نتجاوزه بالفكر الحيّ المتحرك المدرك للظرف والمتوجه بكليّته نحو المصلحة الجماعية والمتقبل للاختلاف في حدود الثوابت، وليس بالاستغناء عن الفكر، فأنت تختار بين أصناف الطعام وتحذر الطعام الفاسد، لكن اكتفاءك بالعلكة يقتلك!

وعودةً على بدء؛ في فيلم (ذا ماتريكس) نرى إشارة سينيمائية لطيفة لاستخدام النظارة في سائر الفيلم بعد أن قرر (نيو) أن يبصر الحقيقة، ففي هذا إشارة لفيلم (يعيشون) وهو من أهم أفلام اليسار في أمريكا، الذي ترمز فيه النظارة للأيدولوجيا التي يتمكن من خلالها بطل الفيلم (جون نادا: جون لا أحد) من رؤية حقيقة العبودية التي يعيشها الجميع ، بعد أن يرتدي النظارة السوداء، حتى أن (مورفيوس) يقول لـ(نيو) وهو يخيّره بين القرصين مرتديا النظارة التي تعكس وجه (نيو) المتعجب: “هذا العالم يضعونه أمام عينيك لكي يخفوا الحقيقة عنك”

دولة الاستئذان (بغض النظر عن التصويت) تتحقق بوجود مشروع عام، فالمطلوب هو مشروع أمّة يتبناه الجميع، تكون حدود الخلاف بيننا في السبيل الأمثل لتحقيقه كإجراءات فقط، أليست الحضارات تنشأ تاريخيا بسبب وجود مشروع عام، يذكر أنه كانت نظرية نشوء الحضارة تعزو نشوء الحضارة لوجود عدو، حتى اكتشف تاريخيا أن هناك حضارات نشأت دون هذا العدو، وبالنسبة للأمة العربية لا تختلف النتيجة كثيرا بأي نسخة من نظرية نشوء الحضارة نصدق، فالمشروع العام حاضر وماثل أمامنا وهو ذاته طرد العدو الصهيوني من أرضنا، وإفشال مخطط الإمبريالية المتمثل بخلق هذا الكيان أو دعمه في سبيل منع الوحدة العربية.