ترتبك المجتمعات العربية، لاسيما “المسلمون” منهم، أمام ضحايا الإرهاب، فثمة من يصفونهم بالشهداء، وثمة من يصفونهم بالقتلى، وإذا لم يكن ثمة ما يسوغ إطلاق هذه اللفظة على الضحايا، والمحاججة عن شرعية استخدامها، أمام المتشددين من أتباع الديانة المنشقة عن الإسلام، التي تدعي أنها الفرقة الناجية وأن الجميع ممن سواها ضالون، فإن قلة فقط تصف الضحية بالشهيد.
من الشواهد على هذا الارتباك، الجدلُ الدائر حول ضحايا هجوم مطعم إسطنبول، ومن الشواهد على الرقابة الذاتية التي يمارسها الناس خوفا من إرهابيي الألسنة والتعليقات، الخبر الذي تداوله الأردنيون في أحداث الكرك، “شهداء أردنيون وقتيلة كندية”، وهذا التخبط ينادي فيَّ منذ مدة لأكتب عن مفهوم الشهيد، ثقافيا ودينيا.
معجميا، لفظة شهيد هي صفة مشبهة من الفعل شهد، وشهد بمعنى رأى وبيّن ما رأى، أو علم وبيّن علمه لمن سأله بيانه، فالشاهد في المحكمة هو من جاء يدلي بما يعلم ويبينه للقاضي، كذلك نقول: شهد فلان لفلان، أو شهد فلان على فلان، وقد نطق بها القرآن بهذا المعنى حصرا، ولم يطلقه على “المقتول في سبيل الله”، وهكذا في شعر العرب القديم أيضا، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا بضعة أحاديث تروى عن محمد بن عبد الله.
الأحاديث التي اتكأ عليها أصحاب المعاجم، وهي معدودة على الأصابع، تمثل شذوذا بين الشواهد النحوية واللغوية، فقد كانت الأولوية في شواهد اللغة للشعر، والأمثال، ثم القرآن، ثم الأخبار وفي مؤخرتها المرويات الحديثية، وجاء هذا حرصا على ألا يُقعَّد للعربية من خلال فهم جماعة بعينها للنصوص الدينية، ليبقى النص مفتوحا على الأفهام المختلفة.
حتى هذه الأحاديث تمثل صدمة لأصحاب الرقابة الذاتية، الخائفين من إرهابيي الألسنة، الذين يتحولون بدورهم إلى إرهابيين لفظيين بالعدوى، فهي حجة لمن يطلق على كل ضحية للإرهاب اسم الشهيد، وليست بحال من الأحوال حجة للإرهابيين، لأن الرسول حسب المرويات حين علّم أصحابه عن شهداء أمته، أنكر عليهم أن الشهيد هو المقتول الصابر دون غيره، مستقلا عدد الشهداء في هذه الحال، وأضاف إليهم المبطون والغريق والحريق والذي تهدم بيته عليه وضحايا الطاعون (وهو حينها كل وباء)، وغيرهم ممن ينكر المتشددون وصفهم بالشهداء.
في سائر الأحاديث، غير التي يشرح فيها الرسول من هم شهداء أمته، يقتصر الكلام على ذكر لفظة الشهداء، إلى جانب النبيين والصدّيقين، وهذا لا يمكن حمله على أنهم فقط “المقتولون في سبيل الله” بأي حال من الأحوال، ثم إن الأحاديث تقرر أن الشهادة غير مقصورة على ملة واحدة، فلا تشترط النصوص المؤسسة للإسلام أن يكون الشهيد من ملة محمد.
ولندع الأحاديث جانبا ونفكر في معنى كلمة شهيد، حسب تداولها في الثقافة العربية، فالشهيد من منظور اعتقادي إسلامي هو الذي يقبل الله شهادته في محاكمات الآخرة، وفي خبر عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما لكم إِذا رأَيتم الرجل يَخْرِقُ أَعْراضَ الناس أَلّا تَعْزِمُوا عليه؟ قالوا: نَخافُ لسانه، فقال: ذلك أَحْرَى أَلّا تكونوا شهداء. أي أنكم إن خفتم لسانه فأنتم لستم جديرين بالشهادة، يحيل بها إلى الآية: “لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، فالذي يقول الحق في الدنيا شهيد، وإذا قُتل في سبيل الحق استشهد الله به يوم القيامة وقَبِل شهادته، لكن الناس هابت إرهابيي الألسن الذين يتهمون الناس في أعراضهم وفي معتقداتهم، فجعلت تُحجم عن وصف ضحية الإرهاب بالشهيد.
ثقافيا، الأمر مختلف، فالشهادة هي في الحقيقة شهادة المجتمع للميت بمعاناته، وبالظلم الواقع عليه، الشهيد صفة يخلعها المجتمع على من يضحي بحياته، في سبيل قيمة عليا عند المجتمع ذاته، فهو شاهد للمجتمع على علو شأن هذه القيمة، وشاهد على معاناة المجتمع ذاته في سبيل قيمه، وهي اعتراف بمعاناة الضحية التي تشهد على وحشية من لا يلتزم بقيم المجتمع العليا، ويتساوى في ذلك الفدائي الذي يفدي الجماعة أو قيمها، فيموت لتحيا هي، مع الضحية المقتول بسبب ردة قاتليه عن هذه القيم، ويتصل بذلك من قتل في حادث يستهدف الجماعة كلها، ولا يستهدفه شخصيا، وكما ينفق المحسن ماله في “سبيل الله” إذا أعطى محروما، فإن “سبيل الله” تشمل من ينفق حياته دفاعا عن المؤمنين (أي المتعاهدون على الأمن)، في قتال عدو، أو ضحية لعدوان عدو، فكل هؤلاء من الشهداء، بل و”الذين قتلوا في سبيل الله”، حتى أنها تشمل بنص الحديث من دافع عن ماله أو عرضه أو أرضه فقتل، فهذا شهيد أيضا دون النظر إلى معتقده.
لذلك كله، فضحايا الإرهاب كلهم دون استثناء شهداء، شهداء على وحشية القاتل، شهداء على سمو القيم العليا، من تضحية ومأثرة وصدق وحق وخير وجمال، شهداء على قبح الظلم والمرض والفقر والجهل، فمن قُتل في تفجير يستهدف أمن بلده شهيد، ومن قُتل في هجوم إرهابي على مطعم وهو يستمتع بوقته شهيد، ومن قُتل غريبا شهيد، ومن قَتله الفقر شهيد، وحتى السائحة الكندية التي عاشت متفانية في عملها كمعلمة، ثم زارت الكرك سياحة فقتلها الإرهاب شهيدة، شهيدة على عجز حكومة مستضيفيها عن حمايتها، شهيدة على وحشية قاتليها، شهيدة على بسالة الرجال الذين دافعوا عنها وعن أمن بلادهم، شهيدة على فظاعة الموت غربة، شهيدة على عجز المجتمع على أن يخلع عليها لقب الشهيدة لأنه يخاف التكفيريين، شهيدة رغم أنوف أصحاب الإرهاب اللفظي الذين لا يملكون أسلحة ليسلبونا حياتنا فعلا، فيسلبون شرفنا بما يقولون.
أرجوك ادأب على استخدام كلمة شهيد في مكانها، وإن احتج أحد الجهلة أو المضللين فأرسل له هذه المقالة، فلهذا كتبتها.