فنّ اليأس

على أبواب السنين المتعاقبة أحدث نفسي بحديث خاص، اخترت على باب هذه السنة أن أجعله عامّا، أرنّم أبياتا وراءها ما وراءها، وأشحذ يأسي بها ليغدو قاطعا حارّا، يفتح لي طريقا وسط سافانا الهمّ والحزَن!

قال الشاعر إسماعيل منصور:

نقضُ المودةِ عهدٌ والوفا دَدَنُ ……. ما ظلَّ بعدَك لي روحٌ ولا بَدَنُ

اليأس أوفى من الصبر الجميل وإنّ الصبر أغدرُه المستذخَر ُالبَدِن

والشاهد هنا في قوله (اليأس أوفى من الصبر الجميل)، وقد قال ثالث الرافدين الجواهري:

ردّوا إلى اليأس ما لم يتسع طمعا … شرٌّ من الشرّ خوفٌ منه أن يقَعا

شَرٌّ من الأمَلِ المكذوبِ بـــــــارقُه …. أن تحمل الهمّ والتسهيد والهَلَعا

والشاهد هنا في قوله (ردّوا إلى اليأس ما لم يتسع طمعا)، وقد أصاب كلاهما الحقيقة وجاء بها على طبق من ذهب لكنْ من يدركها!

دعك من المحسنات اللفظية وفتنة تعاقب الأصوات في البيت، وتراقص الأحرف على إيقاع الشعر، وأنصت لما يقولان فهو عظيم: اليأس أفضل من الأمل! دافع الأمل يتّسم بالموسمية، يزيد وينقص حسب الظرف، لكن دافع اليأس هو هو، مهما حدث، فلا نقصان فيه ولا زيادة عليه!

إذا كنت تخاف على الدين فما تراه بين أيدي الناس، ليس على شيء من ذلك الدين الذي تتعاطف معه، فدينهم ما دانوا له، وهو الدولار أو سنتات تسربت من براميل النفط، وليس لله شأن بدينهم اليوم، فلتيأس.

وإن كنت تخاف على اللغة العربية، فإن اللغة حسب شرط الذين يخوّفون الناس عليها، لغة ميتة انقرضت بالفعل، لا يتحدثها حتى أولائك الذين ينعونها في كل منبر، وأكبر من نعيهم إياها، هجرانهم لها، فلتيأس.

وإن كنت تخاف على الأمة العربية، فتلفّت حولك جيدا، إن ما تراه هو أحفورة لجسد الأمة العربية، هاجر منها كربون الحياة، وحل محله صخر أصم، لا عشب ينبت في مفاصله! فلتيأس.

وإن كنت تخاف على الأرض، فإنها باقية قبلك وبعدك، لا يضيرها من يسير عليها، أيرتدي عمامة أم قبعة أم “كيباه” يهودية، فهم سينقرضون جميعا وتبقى بعدهم، فلتيأس.

فلتيأس من هذا كله، ولتدع عنك مجاز الأرض، ومجاز الله، ومجاز اللغة الهوية، ومجاز الأمة المتصلة الوجود، دع هذا كله، وحارب كجندي استيأس من النصر، ولم يرَ في حياته خيرا بعد أن قضى أهله، فلتحارب انتقاما لهم.

حربك أقسى من حروب الأسنّة والقواطع، أو حروب النار والمدافع، على أنها لا تخلو من شفرة أو رصاصة، إن لم تكن بيدك، سُلطت عليك، حربك يا أخي قبل كل شيء، هي حربك ضد جهلك، حربك ضد غرائزك البدائية، حربك ضد الاستسهال، وضد الصنم الذي يعبده القطيع، بل وضد جهل القطيع نفسه.

لا تلتفت إلى من يستثيرون عواطفك بأي مما سبق، فالقضية الأولى والأخيرة هنا هي مصلحتك، نحن شئنا أم أبينا مرتهنون لمصير مشترك يلحقنا جميعا، إلا من اغتربت روحه فتغرب جسده، ولحق بعدوه، وحتى هؤلاء فيهم الغيور الذي لم يكن ليغادر لولا أنه لم يعرف كيف يكون اليأس دافعا، فإن لم تتحقق مصلحتنا فلا سُقي بعدنا رَبع، ولا أنبت لغيرنا زرع، ولا أدرّ لسوانا ضرع.

أمامنا عدو يريد أن يلغيَ وجودنا السياسي، والثقافي، والديمغرافي، ويقتات عليها جميعا، ليعيش جسمه الهجين، سرق منا قصصنا القديمة وسمّاها دينه، وسرق أزياءنا، ومطبخنا، ورقصنا،  وكثيرا من لغتنا، وسمّاها ثقافته، وسرق أرضنا وسمّاها وطنه. وهو الآن يسرق عقول أبنائنا لكل فكرة نقتتل فيما بيننا لأجلها، ويسرق وقتنا في محاربة هذه الأفكار.

فلنيأس مرة كما يليق بمن يُضام، ولنوجه ضربة واحدة لنحر هذا الوحش ذي الرؤوس العديدة، ومنبت كل أعناقه هو الأصولية.

الأصولية التي نفّرت العرب من العربية، فجمّدت نحوها وصرفها عند بدو المئة الأولى للهجرة، الأصولية التي غطت على روح الدين بقشور التديّن حتى خنقته، الأصولية التي تحارب باسمها أصحاب التصورات المختلفة عن الغيب، بين ديانة وأختها، وبين مذهب وأخيه ، الأصولية التي جعلت مرجع الحق الرواية فكَفَرت فقه الدليل، بفقه القال والقيل، الأصولية التي فجّرت أجسادنا، وأخرجت أحقادنا، واسترقتنا لأرذل عاداتنا، فطلبنا الثأر من إخوتنا، الأصولية التي اختطفت دعوتنا، ونهبت ثروتنا، وجيّرت ثورتنا، وقوضت دولتنا!

إن الأصولية التي تدّعي أنها ستوصلك إلى محمد، لن توصلك إذا ركبتها إلا لمنزلة أدنى من منزلة أبي لهب، دعك من الأصل والتفت للنافع، اطلب منفعة أهلك، فإن من تعده أصلا جاء بالنافع لزمنه، وعاش يحارب الأصولية في نفوس صحبه وأعدائه.

لا تفعل ذلك بدافع الأمل، فالحياة لن تغدو وردية أبدا، بعد هذا العصر الدموي البغيض، سال من الدماء ما يجعل البحر قانيَ اللون، وسيسيل غيرها، لكن افعله بدافع اليأس، اطعن الأصولية في قلبها، يسقطْ جهلك، يسقطْ تفوق عدوك، يسقطْ من يجيّر عقل بنيك في خدمته، يسقطْ ما يثير الضغينة بين بني قومك، لن يعود الأمازيغي ممنوعا من لغته، ولا المسيحي ممنوعا من دينه، ولا الشيعي ممنوعا من حسينيته، اطعن الأصولية، تسقطْ جماعات تغذت على أبنائنا وقتلتنا بهم، يسقط الإخواني والوهابي ومن وازاهم في كل فرقة وطائفة، ولا تخف على أمتك فهي ابنة التاريخ، وهي أم أكثره. استحضر يأسك كلَّه، واستبعد أي أمل في استصلاح ما فسد، اقطع الجزء الذي تأكله الغرغرينا من أفكارك، وعش مع هذا النقص، فإن نقصا يسعى للتمام خير لك من “تمام” لا يجد ما يسعى له سوى النقص!

إذا كنت متفائلا فاعمل حتى تيأس، وعد لهذا المقال حينها، وإن كنت يائسا فاتخذ يأسك دافعا للعمل، لعلنا نجد ما يدفعنا للتفاؤل في عام آخر.