في مصر يسمى الحقل كَفْرًا، وثمة تسميات مشابهة لهذه التسمية في بلدان عربية أخرى، ومنها كُفر في فلسطين، وهذه التسمية فصيحة على عكس ما يظنه الناس، فالجذر كفر يعني غطى، والكافر هو من يغطي البذور، وقد نطق به القرآن عندما قال: (أعجب الكفار نباته) أو على الأقل هكذا فهمها المفسرون، فقالوا: الكفار هم الزراع. والحقيقة أن المعنى يمكن أن يحمل على غير محمل، لكن الذي نريده من هذا كله أن الكفر هو التغطية، وقد نقلت الكلمة إلى لغات أخرى، منها الإنكليزية فكانت كلمة كڤر المشهورة.
الكلمة لم تبق على معناها المتصل بجذرها، ولأنها استخدمت قرآنيا نقيضا للإيمان، فقد حُمِّلت معنى دينيا، فبدأت تنتقل في المعاني وتنزاح لتطابق نقيض الإيمان، إذ إن كلمة الإيمان ذاتها انزاحت كثيرا عن معناها، ولكي ندرك المعنى القرآني للجذر كفر، لابد لنا من الإحاطة بمعنى الفعل آمن، والفعل أسلم، فالقرآن يضع الكفر نقيضا للإيمان والإسلام.
المعاني الحديثة لهذه الكلمات (الكفر، الإيمان، الإسلام) هي معان اصطلاحية مستمدة من كتب التفسير والفقه، وهي كتب متأخرة النشأة، وليست حكما على فهم القرآن، بل إنها لا تباري شعر المجون والخمريات الجاهلي، فهو حكم على لغة القرآن أكثر منها، بل وإن هذه الكتب لا تحمل قيمة لغوية حقيقية في هذا المجال.
البحث في معاني هذه الكلمات عند العرب إبان بعثة محمد يوصلنا للآتي:
الإسلام: هو كف الإنسان أذاه عن الناس، وقد نطق به الحديث الشهير “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”، وقد ورد في الرواية عن رسائل محمد “أسلم تسلم”، ولا يمكن تحميل الكلمة في الاستعمالين أي حمولة عقدية، حول التصديق بالغيب أو ممارسة الشعائر، فكيف برسول أن يطالب ملكا بالتصديق بشيء أو يحاربه، على الأقل دون أن يرافقها شرح للفكرة التي يراد التصديق بها.
الإيمان: هو كف الإنسان أذى غيره عن آخرين هم قومه، وقد نطق به الحديث الشهير “المؤمن من أمِنه الناس، لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه”، فالمؤمن هو من يعاهد قومه على حفظ الأمن، أو يحفظ أمنهم، وقد نطق به القرآن أيضا (وآمنهم من خوف)، ومنه اسم الله (المؤمن)، وقد اختلط فعل الإيمان على الناس بالحمولة العقدية بسبب إلحاقه قرآنيا أحيانا بلاحقة (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، فعدَّه الفقهاء بمعنى التصديق، والحقيقة أن القرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله…) وهذا يظهر أن الباء هنا بمعنى “من أجل”، أي اجعلوا ميثاقكم على الأمن الذي تواثقتم عليه من أجل الله، أو اجعلوا قسمكم هذا قسما بالله.
بعد أن عرفنا أن الإسلام والإيمان لا علاقة لهما بالحمولة العقدية، ولا يعنيان التصديق، أو لم يكونا يعنيان ذلك وقت البعثة، فمن المنطقي أن نسأل عن معنى الكفر في ظل هذا، وكيف تكون مفردة من جذر يحمل معنى التغطية نقيضا للإيمان، فهم قد برروا من قبل تضاده قرآنيا مع الإيمان حين فهموا الإيمان بمعنى التصديق، بكون الإنكار تغطية للحق ورفضا له، وقبلوا هذا التبرير على علاته وضعفه الواضح، فما معنى الكفر إذًا؟
الكفر قرآنيا هو نقض ميثاق الإيمان، فهو ألا تؤمن الناس بالله أو بأي ميثاق غليظ، فهو إنكار للميثاق بعد عقده، وهو طغيان على الناس، تحاول فيه أن تكفرهم، أي تغطيهم وتعلو على إرادتهم، فالحكم الظالم كفر من هذا الباب، ولذلك قال القرآن عمن لم يحكم بإرادة الله: (فؤلائك هم الكافرون)، والله هو الرمز الجامع للعرب، فمن استبد وطغى على الناس فقد كفرهم حقهم، ومن خان قومه وتعاون مع عدوهم فقد كفر ونقض ميثاق الأمن بينه وبينهم، ومن أعلى رمز قبيلته أو فئته على رمز الجماعة فقد كفر.
وهكذا نرى، من منظور حداثي يقارب مقاصد القرآن لا ألفاظه حسبُ، أن خيانة الوطن كفر، وأن الطغيان على المواطنين كفر، وأن ترويع الآمنين كفر، ولهذا أبيح دم الكافر إسلاميا، بينما أمر القرآن الرسول أن يدع المنكرين لحسابهم في اليوم الآخر، فما يعتقده الإنسان عن الغيب يخصه وحده، ولا يخص أحدا سواه.
أما سؤال المقالة فهو يدور حول التكفير، وهو الحكم على أحدهم بالكفر، مما يبيح دمه، وهذا متعلق بسلوكه المضر بأمن الناس، ويشترط لذلك أن يكون خالف عقدا اجتماعيا واضحا، فالتكفير اليوم بمعناه القديم غير متاح إلا في حالة خيانة إنسان لوطنه، وهذه الخيانة لها عقوبتها الرادعة في دول العالم كلها.
لكن ما يزال في وطننا العربي الكبير، وفي الدول الإسلامية، وفي العالم طرا، من يحمل الكفر على معناه الفقهي، ويستبيح دم من يخالفه في اعتقاده عن الغيب، وهذا يصفه الناس بالتطرف، لكن ثمة من يتقاطع معه في فهمه للكفر، بكونه إنكارا لمعتقده، لكنه لا يبيح الدماء، مستعينا بالآيات والمرويات، التي تؤكد على أن التصديق أمرٌ إرادي فردي لا سبيل لفرضه على أحد، ولأن هذه المقاربة تعد بسلام أهلي ما، وتتواءم مع الطرح الليبرالي الغربي الذي يسود عالم اليوم، فهي تجد طريقها لقلوب الناس على أنها معلولة في جانب فهمها للإسلام.
وإن التكفير له صورته الحديثة أيضا، فالتخوين الذي يمارسه عدد كبير من المشتغلين بالسياسة، وحملة الهم العام، يعد فرعا عن التكفير بمعناه الأصيل، وأكبر مظاهره هو مهاجمة الدهماء المرتهنين للإعلام البترو-دولاري لكل من لم ينجر خلفهم في دعوى “ثورات الربيع العربي” المزعومة، أو لم يؤيد حركات “الإسلام السياسي” الإرهابية.
يبقى أن سلوك التكفير أو التخوين، كفعل أو كردَّة فعل، شاع كثيرا، فقلة من الأحزاب تنظر لضحايا التضليل من أبناء الوطن العربي بوصفهم مجرد مواطنين مضلَّلين، يجب توعيتهم بالحسنى، والنظر إليهم بإشفاق والغيرة على مصالحهم، وهؤلاء يحصدون ثمار ما زرعوه من خطاب جامع لجماهيرهم كالتفاف عقائدي حولهم من المواطنين، ونرى بالمقابل من ينكص إلى معجم السلفية الإسلامية والمسيحية في كل خذلان يواجهه، فهو على بعد خطوة أو أقل من أن يكون تكفيريا، وهذه الخطوة هي العقلانية، فإن فقد العقلانية وابتعد عن النقد الذاتي، ورمى كل خذلان على شماعة التخوين، فهو قد بات سلفيا وإن لعن السلفية ليل نهار، وإن بذل الدم ضدها.