التغبية والتعليب

كنت أعاني من زكام حادّ ولدى قراءتي لاسم “التربية والتعليم” قرأته للمرة الأولى بالصورة الصائبة: التغبية والتعليب!
سوءُ مخرجات التعليم أمرٌ يقرّ به الجميع، العاملون في قطاع التعليم، والمنظرون له، وضحاياه، والناجون منه، وأرباب العمل و و و… حتى الوزارات المسؤولة عنه تقرّ به! تعدد نظريات الإصلاح، يدور الجدال حول المناهج، والكل متفق على سوء الحال ومختلف على طريقة الإصلاح، لكن هل يسألون السؤال الصحيح؟

هل القضية أصلا في سوء مخرجات التعليم وحدها، أم تتعدّاها لمدخلاته! يلقي المعلّم الغيور اللوم على الطالب، ويلقي الأهل اللوم على المعلم، وتلقي الإدارة اللوم على الأهل، والكل يلوم الوزارة، ولكن حتى في المدارس الباهظة التكاليف المشكلة قائمة ومخرجات التعليم في الحضيض، أو في الطريق إليه.
سأتحدث باقتضاب عن أهم أسباب الحالة التي وصلت لها المؤسسة التعليمية بكافة جوانبها:
المنهاج:
• مناهج قديمة ما تزال ثابتة رغم تغيير الكتاب المدرسي وإعادة تأليفه، لكنه يؤلف على الشاكلة نفسها من قبل الناس نفسها.
• محتوى المناهج بعيد عن روح العصر وكل ما فيها قديم وشخوصه ميتة منذ قرون، وإذا ذكرت شخوص جديدة فأبعاد اختيارها سياسية محضة.
• محاولة استرضاء جميع القوى المؤثرة تركت المناهج باهتة إلا في الجزء الديني منها فهي داعشية بوضوح.
• العلم يتطوّر أسرع من أي عملية طباعة وتأليف!
• السوق يتطور أسرع من العملية التعليمية والتخصصات الجامعية.
• المناهج تهتم بالبيانات لا بالمعرفة، وبحشو الوعي لا بتشكيل منهجيته.
المعلّم:
• ازدحام النشاط اليومي للمعلم بكثير من العمل البعيد عن كونه ذا أثر في تعلّم الطالب.
• سوية المعلّم المعرفية في الأغلب الأعمّ ضعيفة وهزيلة فهو جزء من هذا المجتمع، وليس من نخبته أيضًا.
• ثبات المعلّم منذ بداية عمله على مستواه المعرفي بسبب نوعية النشاط اليومي للمعلم، أيّا كان هذا المستوى.
• المؤسسة التعليمية، لاسيما المعلم، معزولة عن العالم العملي.
الإدارة:
• كل من هو مسؤول عن الإدارة في المؤسسة التعليمية (من الموظف الإداري البسيط في المدرسة وحتى الوزارة) مغرق في تقليديته.
• الاعتقاد بأن المؤسسة التعليمية يجب أن تكون مستقلة يتجلّى بصورته الخاطئة، فهي غير مستقلة في كل ما يجب أن تستقل به، وتستقل بما يجب أن يتشكل جماعيّا من المجتمع كله!
• الاتجاه التجاري والخصخصة وتحويل المؤسسة التعليمية من رافد من روافد سوق العمل، إلى سوق بحدّ ذاتها.
• شبكة العلاقات في التعليم موصلة بشكل سيء، وتتغذى على بعضها، فالمدرسة السيئة ترفد الجامعة بالطلاب العاجزين، والجامعة ترفدها بهيئة تدريسية عاجزة، وهكذا في مختلف المسارات.
• التخصصية في التعليم، وما تورثه من عدم الاتساق، فالفصام حاصل بين ما يتعلمه الطالب في مستوى وما يتعلمه في مستوى آخر، وكذلك بين حصة وحصة، وتخصص وتخصص آخر، وكأن المعرفة ليس لها شكل شمولي.
المجتمع:
• الاعتقاد بأن الشهادة أهم من المعرفة والمهارة، وهي عمليا حتى في المجتمع ذاته ليست بالأهمية ذاتها المعتقد بها.
• أهالي الطلبة يريدون أن يتعلّم أبناؤهم دون أن يستغنوا عن أي فكرة لقّنها الأهل لهم، وهكذا فالتعليم هو مجرد عملية تخزين تراكمي للمعلومات، ولا يتصادم مع تخلّف المجتمع.
هذا غيض من فيض، ذكرناه على سبيل التعداد، كمفاتيح للتفكير في قضية التعليم “إصلاحيًّا”، مع أنّ التفكير في تغيير العملية جذريًّا هو الأجدى، ولكن لا يكون الصدام الجذريّ مبرّرًا حتى يتضّح عقم الطرح الإصلاحي.