منذ مدة لم أواجه بياض الصفحة بدافع البوح، تعرفت على النثر لأنني سئمت من البوح الكامن في الشعر، إذا كان الشعر مجالا لنقل الأحاسيس، فالنثر كان لي مجال التفكر، كتبت متفكرا، حتى كدت أفقد قدرتي على البوح، على الأقل شعرا، ولأن الشعر حالة فوق شعورية، فأنا الآن أختار أن أواجه مشاعري لأول مرة ناثرا، بنفس شاعر لا ينتظر مسافة آمنة بين الانفعال والتفاعل.
اليوم فقط أدركت أنني نسيت جزءا من تاريخي الشخصي جدا، لعلي لم أنسه تماما، إذ جاء مربتا على كتفي بداية ليذكرني بنفسه، بنفسي، ثم قبض على عنقي يخنقني، نعم كنت صغيرا إذا شعرت بالقهر غص حلقي وآلمني لدرجة أن أشعر بالدوار، أنا طفل أوسط، وأبي مربٍّ فاضل، لكنه كان عنيفا معي، وشعرت بالغيظ مرارا منه، ليس بسبب الألم فأبي كان يضرب ليؤدب لا لينتقم، هذا ما عرفته يوم تعرضت للضرب على يد أخي الكبير، فعرفت أن ضرب أبي كان ناعما، ولكن أبي كان يُظهر غيظا وهو يضربني، كان وجهه الملتهب غيظا يخيفني لأبعد حد، كان يجعلني أكرهه، وكنت أخاف من هذه الحالة، أخاف أن أكرهه.
ألم حلقي عند الشعور بالقهر، كان يتسبب في التهاب اللوزتين شبه الدائم، وأبي كان يظن أن التهاب لوزتيَّ كان بسبب أكلي للمثلجات، فيحذرني منها مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة أيضا، أعيدُ أيْماني المغلظة له، حالفا أنني لم أذقها، وفي يوم من الأيام تكورت كرة اللهب في حلقي، إثر موقف ظالم، ولأنني لم أجد ما أبرر به لأبي تصرفه معي، انفجرت في وجهه، وكنت للمرة الأولى ولدا عاقا بالفعل، وتفاجأت بعد زوال الموقف أنني لم أمرض، ولم يلتهب حلقي، فعرفت أنني نفثت كرة اللهب في وجه أبي وتخلصت منها، ومنذ ذلك الحين لم يعاودني هذا الألم إلا قبيل تصرف متطرف أتخذه لأثبت لنفسي أنني ومهما بلغ السوء من مشاعري، فإنني أستطيع أن أذكر نفسي بكوني حرا!
قبل ساعتين بالضبط، كنت ناسيا لهذا كله، لكني صادفت نفسي القديمة في معرض فني، معرض “أطفال دا فنشي” الذي ينظمه مركز كينونة للعلاج النفسي بالفن، وفيه لوحات رسمها أطفال “دور الأيتام” في برنامج خاص، يفتتح المعرض بسبب التسمية، فالرسام المشهور ليناردو، كان منسوبا لبلدته “دا فنشي”، لأن أباه رفض نسبته له بصفته طفلا “غير شرعي”، وعاش حياة مليئة بالمعاناة، لكنه ترك ما يجعل العالم أقل قبحا، أو لعله عرفنا على الجمال لندرك قبح الواقع أكثر، لا أدري!
اضطررت للخروج عدة مرات، لم أحتمل ما رأيته، والآن فقط لدى كتابتي لهذه الكلمة، اختفت كرة النار من حلقي، بعد أن حملتها معي طول طريقي إلى المقهى، استخدمت جميع أساليب الدفاع النفسي عندي أمام لوحاتهم، سخرت من كل شيء فلم يجدني، عدت لأتعامل مع نصوصهم المرفقة مع اللوحات تعامل المدقق اللغوي، الذي لا يرى أبعد من الحروف، قمت بإزاحة غضبي على الطبقة الثرية، على فكرة أن تكون المعاناة معرضا، ففاجأني صراخ لوحات الأطفال بي: انتبه لما يهمّ! انتبه لنا!
تحركت جدران المعرض أمامي كالأميبا، وابتلعتني، وبدأت تجعل التنفس أصعب، وفي كل مرة كنت أؤكد لنفسي على أنني أستطيع الخروج، أستنشق بعض الهواء، أقضي وقتا حميما مع دمعتين اعتصرهما الألم من وجهي، ثم أعود، أول خروج كان بسبب لوحة طفل يرغب في حرق كل شيء، حتى أنه رسم نفسه مشتعلا، بقيت اللوحة تحتوي على شيء من الظرف مع كل الألم فيها، حتى قرأت عمر الصبي! لوحة أخرى خنقتني حتى فكرت بالهرب، ولد رسم نفسه في فهد، يسير ليبحث عن طعام، لكن الشمس سعيدة لأنها ستحرقه، لم يؤلمني الحرق، لكن وصفها بسعيدة هو الذي أركعني، وباتت مغادراتي لاستنشاق الهواء تصبح أكثر تكرارية، لوحات الأمهات البديلات لا تقل ألما، إحداهن تقول “ظل الألم يعصرني حتى جف قلبي”، والأخرى تتذكر كيف قتل أهلها فيها الطفولة عندما منعوها من اللعب في الشارع، فخاصمت أنوثتها قبل أن تلتقيها، كان عمرها إذ ذاك عشرة أعوام فقط!
في طريقي ازداد حنقي، وأنا أستمع مجبرا في سيارة الأجرة، لرجل دين كاذب، بات نائبا الآن، على إذاعة تدعي أن الإعلان لديها “غير… رزق وبركة وخير”، وهو يدعي ما يدعيه أمثاله عادة، من أن الحل يبدأ بقراءة القرآن، وتذكرت كيف كان القرآن يعاظم مشكلتي ولا يحلها، ويثقل كتفي بشعوري بالذنب، وكيف اضطررت لتعلم تفسيره، وتاريخه، مضافا لعلم الكلام، كي أشعر أنني وفيته حقه، تخيلت نفسي أحد الأيتام الذين تهدمت أسرهم بسبب التقاليد المستندة على الدين، أو يلفظهم المجتمع بصفتهم أبناء “غير شرعيين”، لأنه يعاني من هوس جنسي يدينه، ويلعن ثمرته، بينما يسمح له أن يسيطر عليه بسبب تعاليم الكبت والقهر.
تذكرت سطرا للشاعر أمل دنقل على لسان اليمامة بنت كليب، يقول: “خصومة قلبي مع الله…”، وخصومة قلبي أنا مع الله، ومع ما خلق، من عالم مشوّه، يعده بالحريق، ثم يضنُّ عليه بتنفيذ وعده، ولا ينفك يهددنا به، وكأن جهنم ستكون أكثر جحيمية من واقع هؤلاء، أؤكد لكم أيها المجتمع المؤمن المحافظ على عاداته ووصماته وقرفه، إن كرات النار في حلوق هؤلاء الأطفال، أكبر من جحيم تخوفوننا به لنقبل ظلمكم!