ضربات في منجم الحق

 

“الحقّ شذراتٌ في الباطل”، ضمن هذا الفرَض وبالمرور على التاريخ العربي بعين علمية تطلب الحق لا الغلبة، سنمرّ في هذا المقال على سؤال الهوية القومية تاريخيّا، ولتوضيح الفرض نذكر أنّه، غالبا، ما من فكرة تجمع حولها أناسا مخلصين لها، إلا وفيها بعض من حق، ووظيفة الباحث عن الحق استخراج ذهبه من صخور الباطل، الذي قلما يوجد صرفا.

وحتى يتسنّى لنا استخراج شذرات الحق، لابدّ من تفتيت صخور الباطل، وهذه كعملية فكرية تحتوي من العنف العقليّ نصيبا لا بأس به، وتهدد مسلّمات الطفولة التي لقنها لنا أهلنا تلقينا، سَبَق تعلّمنا للمنهج النقدي، فاكتسبت هذه المسلّمات حصانة ضدّه. فلا يقدر عليها إلا من ألقى السمع وهو شهيد.

وهذه بعض الضربات التي يتعذّر بسط شرحها ضمن حدود مقالة، فقد يرى فيها القارئ ادّعاءات تحتاج للإثبات، وما هي إلا نتائجُ تصوّر كلّيّ متعدّد المصادر، متأثر باللغة والشعر والفقه وكتب التاريخ واتصال بعلوم حديثة في التعامل مع المعلومات الآتية من المصادر السابقة، في سبيل حلّ إشكالين قائمين أمام الأمة هما الخلاف بين العروبة والإسلام، والخلاف بين ما يسمّى اليوم بالأقليات مع وعائهم الحضاري القوميّ:

  • الحضارات السابقة على الإسلام في المنطقة العربية تعدّ من منظور قوميّ حضارات عربيّة، من آشور حتى قرطاج مرورا بوادي النيل، وتعدّيا لكل بقاع الوطن العربي، سواء كان اجتماعهم قد ترك أوابد تشهد لهم، أو كان اجتماعا بدائيا بلا أثر.
  • المنطقة العربية استُهدفت منذ القدم بسبب موقعها، وكانت على مرّ الزمن تعاني من التشظّي والاحتِراب والاحتلال، بحكم موقعها وطبيعة أرضها وخُلُق أبنائها، وكل ذلك حال دون اجتماعهم، في دولة عربية واحدة منذ القدم.
  • النبي العربيّ كان يوحّد الآلهة في إله واحد، ويوحّد القبائل في دولة واحدة، ويوحّد الأعراف العربية في عرف واحد (كلّ أحكام الإسلام التشريعية تقريبا مأخوذة من قضاء الحارث ابن الظرب العدواني وحلف الفضول وغيرها من المصادر “الجاهلية”)، هو الدين الإسلامي، الذي كان هو عماد الدولة العربية قبل أن ترفع دعائم الملك الذي نادرا ما كان نزيها وعادلاً، حتى لو تزيّا بزي الإسلام.
  • حيث لم تكن مقوّمات الدولة الحديثة قد نشأت بعد، فإن الدول العربية اتخذت شكل الأديان، ومن اللغة نجد أن الدين معناه النظام الذي يدين له الناس ويُدانون من قِبَله، وقد تعددت صور الدين العربي بقدر تعدّد القوى السياسية التي تنازعت أبناء المنطقة.
  • التقسيمة الأهمّ التي تقود لفهم الاجتماع العربيّ ليست متعلقة بمعتقد أو منطقة جغرافية ألا وهي ثنائية (الحضر والمدر) أو لنقل المدنيّة مقابل البداوة.
  • الملك العربيّ الذي تلا عصر النبوّة وإن طرد الغزاة من أرض العرب إلا أنه كان له مثالبُ كثيرة إذ حرف الاجتماع العربيّ إلى “إسلام” لا كإسلام الرسول، وأنتج ضمن سعيه للتوسّع نمطا من الإسلام أخرجه عن عروبته، ما أوقع العرب عندما ضعف سلطانهم تحت نير هذا النمط، فكانوا ضحية لسوء ما قدّم أسلافهم، حتّى عاد الاحتلال بثوب مسلم.
  • الأديان العربية زمن “الجاهلية” (غير الكتابية: مثل الحِمس والطِلس والحِلّة) وما يصاحبها من تحيّزات قبلية لم تذُب في الإسلام تماما، وساهمت في خلق خلاف إسلامي- إسلامي داخل البيئة العربية، كان هو العامل الحاسم في المسار السياسي خلال الفتنة الكبرى (الأموية-الهاشمية).
  • الإسلام بنسخته الجديدة أسس لسيطرة قرشية جزيريّة (نسبة لجزيرة العرب) على المجتمعات العربية (العربية هنا بالوصف العام الذي يشمل كل الحضارات في الوطن العربي) ولأن ذلك جاء متلبّسا بالدين، فقد كانت معارضته السياسية متلبّسة بالدين أيضا.
  • التصلب الديني الذي نشأ بعد “الخلافة الراشدة” منع الإسلام من التطور بين العوام ليكون حاملا حضاريّا عربيا جامعا، وزاد فوق محدوديته المكانية في جزيرة العرب، محدوديةً زمانية مقتصرة على ما اصطلح على تسميته “نهج السلف”، ما أنشأ حاجة لتأصيل كل شيء بأصل قديم حتى لو كان هذا الأصل حادثا مبتدعا في وقته، وهذه الماضويّة هي ابنة التخلّف دائما.
  • لأن الحاضر أقوى من الماضي، فقد كانت الطبقة الحاكمة تزيّف أصولا لكل فكرة تريدها، فتردّها لأصل قديم، ولأنّ هذا متعذر مع القرآن، فقد “أجمعت” النخب السياسية لاسيما الفاسدة منها، على مرجعية السيرة أو السلالة، ما يتيح لها حرية في اختلاق أصول شرعية لممارسات تضمن لها الاستمرارية.
  • لم يجد العرب سبيلا للانتصار على زيف هذه الأفكار، خيرا من المرجعية اللغوية، التي وإن كانت محكومة للهجة العربية الجزيرية (القرشية غالبا) فهي تملك عددا من الأحافير اللغوية يخوّل الناظر فيها التوصّل لعيارات يحاكم بها النص الديني فيميز الخبيث من الطيب، مستخدما العقل ومسترشدا بمصلحة الأمّة، وهذا أسّ فكرة الاعتزال، فإن تنكّرَ لمصلحة الأمّة غادر أصله الاعتزالي وبات تمثيلا عقديّا لقوة سياسية وفي الحاضر قد يتحوّل لنهج ليبرالي يتزيّا بالعقلانية، ويبرّر كل ما تريده منه السياسة.
  • كلّ الخلافات العقديّة بين الفرق الإسلامية هي _على مستوى ما_ خلافاتٌ سياسية، حتى وإن كانت تنبذ السياسة (تجدر الإشارة لكتاب الأنصاري: العرب والسياسة جذر العطل العميق) فهي إمّا أن تبدأ سياسيّة أو تنتهي كذلك، فالطائفية والقبلية والصراع السياسي بين الحواضر، كلّها تمثيل للانقسام الذي يتجلّى بصور مختلفة حسب شرط عصره.
  • التعلق العربي بالإسلام مع إدراكهم لواقعهم المتخلف جعل كثيرا من العرب كارهين لذواتهم العربية مُداومين على شتيمة العرب، منزهين الإسلام بصفته “فكرة لم تلق التطبيق الحق”، فوصل بنا إلى حيث نفارق ذواتنا بحثا عن فكرة، إن لم تكن وهما فهي لا تتحقق بعيدا عن ذاتنا العربية، وهذه حلقة مفرغة يجب كسرها، (فمن يسبّ العرب من الإسلاميين بسبب سخطه على الواقع فليسبّ المسلمين إذاً أو فليعدل عن جلد الذات عربيّة كانت أو إسلاميةً إلى النضال!).
  • العلاقة الجدلية بين المركز والأطراف أو الحضر والمدر، تسببت في ردّ الخلاف الإسلامي-الإسلامي والذي يمكن وصفه بخلاف حضري-بدوي، إلى خلاف مع الإسلام، مما بلغ ببعض المجتمعات العربية التي تحوي في أرضها أوابد تاريخية من حضارة عربية قديمة، إلى وصف عملية طرد الغزاة ومحاولة توحيد أرض العرب، بأنها غزو إسلامي، أو كما يقولون “عربيّ” يقصدون به السيطرة القرشية الجزيريّة التي لم تكن دائما موضع ترحيب، خصوصا بفقدانها للعدل.
  • الدولة في صدر الإسلام كانت دولة استئذان وتوافق بدوي، ثم تلا ذلك في العهد الأموي والعباسي حتى قبل الدولة الحديثة دولة استبداد بدويّ، وفي الدولة الحديثة رأينا الاستبداد المدنيّ إذ انتقل مركز القوة من البادية إلى الحواضر مع تطور الاقتصاد، ولكننا للآن لم نر للآن دولة استئذان وتوافق مدنيّ، إلا كومضات متفرقة مكانا وزمانا.
  • الغاية التي يجب أن توجّه لها الأنظار، هي اجتماع العرب بمختلف مجتمعاتهم في دولة استئذان مدنيّة، تحمي لهم مصالحهم، وتكفّ أيدي الطامعين عن أرضهم، وتطرد الغزاة من بلادهم، وهي الغاية بالفعل عند القوميين العرب، وربّما عند غيرهم أيضا لكن باختلاف التسمية فقط!
  • خير ما يمثل مصلحة الأمّة بالطموح الوارد في النقطة السابقة، هو تحرير فلسطين، والتي يمثل احتلالُها نتيجةً للانقسام والتخلف والتبعية للغرب، لكن هذا الطموح العام بالتحرير لابدّ أن ينطلق من فكرة عروبة فلسطين، لا من فكرة “إسلاميّتها”، حتى يكون قادرا على أداء وظيفته كهدف عامّ للأمة، لا سببا في الماضوية الحالمة.
  • العرب كل العرب حتى أشنع حالات التطرف منهم(كإرادة جماعية لا تنفي وجود خائنين)، يريدون عزة أمتهم، فتجد الإسلاميين يردّدون قولا ينسبونه لعمر بن الخطّاب يقول: (نحن أمّة أعزها الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلّنا الله)، فهم كما هو واضح من القول يبتغون عزة قومهم كغاية أولى ويتخّذون الإسلام لها وسيلة وإن لم يكونوا يعقلون ذلك عن أنفسهم.
  • لتمييز ما هو صالح مما هو طالح في الساحة الفكرية، علينا أن ننبذ كل أشكال “السلفية” الفكرية، إسلامية كانت أم غير إسلامية، وهي هنا التعلّق بإجراءات ماضوية وعَدُّها قِيمةً في حدّ ذاتها، لا إجراءاتٍ كان يقصد منها تحقيق قِيَم، وهذا يفتح الباب لتفسير جديد للإسلام هو الأقرب للنسخة الرسوليّة منه، وهو الأقرب للتطبيق الواقعي.

وبعد أن ننظر في أرض المنجم، بحثا عن المعدن النفيس الذي يحلّ لنا الإشكالين الآنف ذكرُهما في المقدّمة، نجد حجارة تلمع، منها أنّ المؤمن والمسلم هما اسمين للعربي الأمين المأمون جانبُه الآمنِ في سربه، الذي “سلم المسلمون من لسانه ويده”، لا صائلا ولا محاربا، يحاول أن يكفر الحكمَ العربيّ (أي يغطّيَه) ويعلوَ على دولته ويظهر عليها، وأنّ هذا هو الدين عند الله، بشرط تحقيقه للعدل، وأن الله يتمثّل في الجماعة، فهو الفكرة المركزية الجامعة عند العرب، وهذا يشملهم كلهم متيقنين _ضمن أي ديانة كانوا_ أو متشككين.

ونرى إنّ الشريعة الرسوليّة محدودة في زمانها، فهي كانت اختيارا لأعراف العرب قبل الإسلام استبعد الأعراف الفاسدة منها، وإنّ الله إذ جعل لكل عصر شرعةً ومنهاجا دون أن تخرج هذه الشرائع عن عموم الإسلام الذي نزل به كل الأنبياء العرب، فهو لا يكره أن تتطوّر الإجراءات الدينية (النظامية) تحقيقا لمصلحة الجماعة، وإنّ أفضل تمثيل في زماننا هذا للإسلام هو الفكر القومي الذي يتجاوز اتهام الانفصاليين من المجتمعات العربية العريقة لعرب الجزيرة بما يسمونه “احتلالا عربيّا” أو “أسلَمة” إلى فكرة الدولة الواحدة للحضارة الواحدة، ولا ينزلق لتبرير أخطاء الدول العربية السابقة راشديّة كانت أم أمويّة أم عباسيّة …إلخ، ويشمل ذلك أخطاء التجارب القوميّة ذاتها، فمن تحلّى بشجاعة الحقيقة والجذرية الكافية لم يضره أن يعترف أن الكمال متعذر في ذاته، وإنما هو في طلب الكمال، وإنما الرأي هو الأخذ على يد التجارب القومية العربية (سواء ذات الثوب القديم أو الإسلامي منها أو ذات الثوب القومي الحديث) وتمحيصها مما شابها من شوائب وتصحيحها من أي خطأ، لا التطرّف في جزئيات تفرّط في الكل المتّحد، فالماضويّة كما أسلفنا هي ابنة التخلّف، وعلى الطليعة الثورية تجاوز تخلّف مجتمعها لتجوز به عنه.