عن الاستحواذ الإمبريالي في الأكاديميا

“من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا” هذا ما كتبه أفلاطون على باب حديقة في أثينا، وأسس فيها مدرسة للعلم والفلسفة، كانت تلك الحديقة تسمى حديقة “أكاديموس” وهو بطل إغريقي، ضحى في خدمة بلاده، وانتقل اسمه لمدرسة أفلاطون، ثم لمنهج البحث “الأكاديمي”، ومن ثم كل المدارس أو الأكاديميات في العصر الحديث.

جدلية المِداد الذي سطره أفلاطون على الورق، والدم الذي بذله أكاديموس على الأرض، أسفرت عن شيء منسوب للدم في اسمه، ومصداقه منسوب للمِداد، والذي يتعرف على الأكاديميا كمنهج، دون أن يعرف أكاديموس، غالباً يرى في الأكاديميا مصداق المؤسسة التعليمية بمطلقها، دون أن يعرف أنها مجموعة ضوابط للمنهج العلمي، تراكمت منذ أفلاطون حتى العصر الحديث، هذه الضوابط هي في حقيقتها تعبير عن أنماط قادرة على تصريف المعرفة وإعادة إنتاجها.

الطفولة والعقل الجمعي

كان الطفل (سيف) في الصف الثاني، عندما كان يريد أن يبالغ في كثرة العدد فقال (تسعة ترليار)، وهو عندما ابتدع هذا الاسم الجديد كان يقصد العدد (زيليون)، وكان يعرف أسماء الأعداد ما دونه، فقام بصياغة الاسم على غرار النمط الذي لاحظه في (تسعمئة، تسعة آلاف، تسعين ألفاً، تسعمئة ألف…) فهو عامل المليار والترليون معاملة المئات والآلاف، في التركيب بينهما، أي أنه اكتشف نمطاً عربياً في تركيب الأرقام وصاغ على منواله مستخدماً كلمات أخرى أعجمية، فجاء بهذا الاسم العجيب (ترليار) أي (اسم تريليون مدمجاً باسم مليار).

كذلك ما فعلته الطفلة (ضحى) العربية المغتربة، التي كانت تتحدث العامية العربية في المنزل، وتدرس في مدرسة جنوب إفريقية، تعلِّم باللغة الإنجليزية، عندما وصفت لي كيف تصنع طائرة ورقية، فأمسكت الورقة وطوتها وهي تقول: “بنهولدها ونفولدها” فصرفت الفعل الإنجليزي (هولد= يمسك) والفعل (فولد= يطوي) تصريف الأفعال العربية، باللهجة العامية، فهي اكتشفت نمطاً ملتصقاً بمفردات عربية، ثم صاغت على منواله بمفردات أعجمية، وإذا راقبت لغة الأطفال ستجد الكثير من الجموع العجيبة وغيرها مما يدلل على قدرة العقل على تمييز النمط وفصله والصياغة على منواله، ما قبل التجريد والقدرة على وصف النمط.

وما القدرة على ضرب الأمثال إلا حالة متقدمة مما فعله (سيف) وما فعلته (ضحى)، من اكتشاف نمط وفصله ثم صياغة رمز صوتي يدلل عليه، وهكذا تتجلى قدرة الإنسان على التسمية، وفي الموروث العربي نجد الآية القرآنية (وعلم آدم الأسماء كلها)، وكان هذا هو الفارق بين الإنسان القادر على مراكمة الحضارة، وصناعة التاريخ، وبين ما دونه من المخلوقات التي لا تمتلك هذه القدرة، فهي وإن كانت أعظم منه حجماً أو قِدَماً، أو ألطف منه عنصراً، ساجدة (أي مسخّرة) له، لأنها لا تقدر على ما يقدر، لكن لا يغيب عنا هنا أن اللغة بمفهومها الواسع هي منتج إنساني جماعي، وإذا أعملنا ذهننا في طريقة عمل العقل مادياً عند الفرد، وطريقة عمل اللغة عند الجماعة، سنجد هذه المساحة المشتركة التي تجعلنا نفهم كيف أن اللغة هي العقل الجمعي.

إن العقل يتشكل من مادة الدماغ بيد الواقع والبيئة، فالمدخلات الحسية تشكل المفاهيم الأولى، وشيئاً فشيئاً ينطق الطفل بسبب بيئته أيضاً، ولأن اللغة هي وعاء الفكر، وهي من مركبّات عقل الفرد، فاللغة أيضاً بمفهومها الأوسع هي مادة العقل الجمعي، إذ أن المفهوم الأوسع للغة يشمل الصور الذهنية المشتركة، وإذا كانت الصور الذهنية المتعلقة بالمصاديق المحسوسة تنتج عن المدخلات الحسية، وأحياناً عن الخيال، فالأنماط الذهنية التي تترتب فيها هذه الصور تنتج في أغلبها عن اللغة، وهذه الأنماط لا يقتصر تأثيرها على الصور الذهنية التي كانت ملتصقة بها عند تعلمها، ولكن تحكم بمجموعها الصور الذهنية كلها، سواء أتت ملتصقة بنمط معين، أو طرأت جديدة مفردةً .

الخارطة ليست هي الطريق

(إنه عصر تفضيل الرمز على الشيء الذي يشير إليه أصلاً، النسخة عن الأصل، التمثيل عن الواقع، المظهر عن الجوهر، إن الوهم وحده المقدس، والحقيقة هي تدنيس للمقدس) (فيورباخ).

الخارطة ليست هي الطريق، هذا هو الافتراض الأول من افتراضات ريتشارد باندلر مؤسس البرمجة اللغوية العصبية، ومنه أيضاً أن الحديث عن الشيء ليس هو ذاته الحديث فيه، فكم من حديث يدور حول الشيء ولا يمسه، ومدارسنا مليئة بهذا، فنحن نتعلم الأسماء قبل أن نعرف المسميات التي ترمز لها هذه الأسماء، وسبق المفهوم على المصداق، أو لنقل سبق الاسم على المسمى، ينتج الوهم، وقد يطول بقاء هذا الوهم أو يقصر، حتى يلاقي حقيقة يرتبط بها، فإذا لم يجدها بقي وهماً، لكنه وهم لا كالوهم، فهو يقبع بين الحقائق، ويلبس زيها، ويؤثر بها بقدر ما تؤثر الحقائق ببعضها البعض.

هذا الوهم قد يتمثل صورة ذهنية لشيء مثل وحش خرافي، وقد يتمثل صورة ذهنية لنمط مثل مغالطة منطقية ما، ولا نقلل من خطر الوهم المتمثل في شيء، عندما نقول أن المغالطة النمطية خطيرة للغاية، وهي أخطر أنواع الوهم، فتأثيرها أوسع بكثير من تأثير الخرافة المتعلقة بشيء محدد، والفصل بين هذين الوهمين في الحقيقة هو ضرورة بحثية أكثر من كونه شيئاً علمياً، فهذان الوهمان هما جديلة من الوهم المتضافر، فالعقول التي تتوسع لتستقبل الخرافة، غالباً تفقد خصائصها التي تجعلها عقولاً، تعقل الإنسان أن يضلّ وينقطع حبل المنطق والتفكير المنتج للمعرفة، فينطلق في دنيا الوهم.

ولكن نحن لا ندرك الحقائق كما هي، بل ندرك صوراً ذهنية تشكل التمثيل أو المصداق العقلي لتلك الحقائق، وهذه إذا كانت متعلقة بشيء محدد يمكن مقارنتها بسهولة مع الواقع الملموس وبالتالي معرفة كونها حقائق أم أوهام، أما بالنسبة للأنماط فهي تمثيل عقلي لا تستطيع مقارنته بسهولة مع الواقع، فالعلاقات بين الأشياء في الواقع، وأنماط هذه العلاقات هي شيء لا يمكننا فصله عن العقل البشري كيفما اتفق، فهي لا يمكن الإحاطة بها باستخدام الحسّ المجرد، ولذلك فإن الفرضية العلمية لا يمكن اعتبارها حقيقة في العلم التجريبي (الهندسة!) حتى تظهر نتائج تؤكد أن هذا هو التصور الأصلح، كما افترض العلماء وجود عناصر لم تكن معروفة لملأ الخانات الفارغة في الجدول الدوري، ووضعوا تصوراً لخصائصها، ثم وجدوا بعض هذه العناصر مطابقة لفرضهم، فإذا وجدنا أن كثيراً من افتراضاتنا باطلة على المحك التجريبي، كان لزاماً علينا أن نعيد النظر في الأنماط التي يعمل عقلنا على أساسها، مما يعيدنا للحديث عن الأكاديميا بوصفها مجموعة الضوابط التي تشكل المنهج العلمي، فالأكاديميا في الوطن العربي تظهر فشلاً ذريعاً على المحك التجريبي، مما يدلل على فساد بعض الأنماط التي نصرِّف على أساسها معرفتنا.

الأعراض الجانبية للمؤسسة التعليمية

نرسل أبناءنا للمدارس وكلنا أمل أن تتقد أذهانهم، أو هذا على الأقل ما نقنع به رغباتنا التي يصرّح بها البعض، من تزويدهم بما يلزمهم من شهادات “علمية” تضمن لهم المكانة التي نتمناها لهم بين أقرانهم، متمثلة بمال أو جاه، ولا نلتفت إلى التأثير السلبي للمؤسسة التعليمية على عقل الطفل، إلا إذا مس أحد المحرّمات المجتمعية العرفية، من جنس ودين وسياسة، ونتحدث هنا فقط عن المساس المباشر الفج الذي ينتبه له الأهل، فلا ننتبه للآثار السيكولوجية المترتبة على الانتساب للمؤسسة التعليمية مثلاً، أو حتى على تعاملنا مع الطفل ضمن هذه المنظومة عند سؤاله عن علاماته ومقارنتها مع علامات أقرانه، طبعاً هناك ما هو أعمق وأكثر خطورة من هذا، مما لا مجال لذكره هنا.

بيد أن الأهم من الطعن في المؤسسة التعليمية، هو إيضاح أنه من الظلم نسبة المؤسسة التعليمية للأكاديميا، فهذه النسبة هي في الحقيقة نوع من المغالطة حيث لا ينطبق تعريف الأكاديميا على ما تفعله المؤسسة التعليمية، والشطط بين المفهوم والمصداق الزائف الملتصق به يتباين في مقداره، فالمؤسسة التعليمية الغربية وإن كانت لا تتطابق مع تعريف الأكاديميا، إلا أنها أقلل شططاً من المؤسسة التعليمية العربية بالنسبة لتنشئة عقول بنيها هي طبعاً، وهذا ما يظهر على المحك التجريبي، فالمؤسسة التعليمية العربية تقدم “معرفةً” لا تحمل بذور تجاوزها فيها، وهذا أول أسباب انحدار أدائها مع مرور الزمن، ومخرجات هذه المؤسسة تُستغل في مغالطة هي الأشهر بين المغالطات الأكثر شيوعاً، وهي مغالطة اللجوء للشخص، فالعلم ما قاله “العالم”، والعالم من شهدت المؤسسة التعليمية بكونه عالماً، والمؤسسة التعليمية ذاتها هي ذراع من أذرع السلطة الفاسدة التي هي وجه من وجوه الاستبداد الغربي الشمالي، وهكذا فالمؤسسة التعليمية العربية هي مزرعة تنتج العبيد، المستلبين معرفياً، للغرب، ولصورة غير حقيقية عن علومه، وللنسخة الاستشراقية من الأديان العربية، والطريقة التي يعالج بها الأثرياء من العرب هذه المعضلة هي معضلة أكبر، كعلاج المريض بقتله، إذ يرسلون أبناءهم للغرب فيصبحون جزءاً منه أكثر من كونهم جزءاً من أمتهم.

وإذا كانت المعرفة العلمية تبنى عل المشترك الإنساني، مما يجعلنا لا نرتاب من الأكاديميا بتعريفها المجرد عن الممارسة، فإن لكل حضارة معارفها التي تبني هويتها، وتدخل في لغتها كأنماط ذهنية قادرة على إنتاج المعرفة وإدارتها، وبهذا فإنه من الضروري الالتفات لبنية العقل الجمعي العربي، المتمثل في اللغة العربية، التي يحول تخلفنا دون تطوّرها لتتسع لمعارف العصر الحديث مصطلحاتٍ وأنماطاً لغوية تحكم التفكير العربي، بل إن تخلفنا الحضاري يقصم ظهر اللغة، ويجعلها تنحدر لطور أسوأ من الطور الذي بلغته ذات نهضة، ومن باب التمثيل على الفرق بين حال المؤسسة التعليمية العربية من قبل وحالها اليوم، فلنتذكر أن ما عابه روّاد التعليم العربي الحديث على الكتاتيب من تحفيظ التلاميذ النصوص، كان لا يسلب التلميذ حقّه بتشكيل الأسئلة الخاصة به، مما أنتج ضروباً متعددة من أنواع الفهم للنص القرآني مثلاً، وكانت ضروب الفهم هذه متصالحة مع بعضها إلى حد بعيد، بينما احتكار سلطة السؤال للمعلم حديثاً، بما ظنه الرواد حضا على التساؤل والفهم الأمثل، أوقف عجلة إنتاج المعرفة، إذ بات يقدم الأجوبة قبل الأسئلة، فأضحت المفاهيم التي يتعلمها التلميذ قبل التعرف على مصاديقها، تخلق أوهاماً في عقله، وهذه الأوهام هي ما يقوم عليه العقل الجمعي العربي اليوم، فالكل مثلاً يمتدح الديموقراطية التي لم يرها ولم يعرف عنها شيئاً.

ولأن الممكن محصور بالممكن تخيله، والممكن تخيله محصور بالأنماط التي يدركها الإنسان، فنحن لن ننهض ولن تقوم لنا قائمة، ما دمنا نحصر عقولنا وعقول أطفالنا بحدود المؤسسة التعليمية، وإذا كنا لا نختلف على حاجتنا لأمثال أكاديموس من أبطال قوميين عرب، يبذلون الدماء في سبيل تحرير الأرض العربية، فيجب علينا أيضاً أن نبحث عمن يسطر مداداً يحرر به العقل العربي، في سبيل تحرير الإنسان العربي معرفياً، من أمراض وقيود تمنعه من النهضة، متمثلة في تراث الوهم الذي يعضد بعضه بعضاً، وفي الاستلاب المعرفي للإمبريالية الغربية الشمالية، هكذا وهكذا فقط يمكن الحديث عن مؤسسة تعليمية حقيقية تشكل نظيراً عربياً لمفهوم الأكاديميا.