المرافعة الليبرالية

ليس بالضرورة أن يكون مستخدم ما أسمّيه (المرافعة الليبرالية) ليبراليًّا، حتى بعد قَبول المعنى المنحرف لمصطلح ليبرالية، والذي سنناقشه لاحقا، فمستخدم هذه المرافعة قد لا يكون ليبراليا أبدًا، ولا يؤمن بأي حرية بل وقد لا يؤمن بحريّته هو، لكنه يهرب للمرافعة الليبرالية كمخرج من أي نقاش يخسر فيه دفاعاته الأخرى، فتكون هي آخر دفاع له!

المرافعة الليبرالية ليست شيئا ثابتاً، ومن الصعب الإشارة لها بمحددات سطحية واضحة، ولكنها نمط يُنسج على منواله الكثير من الحجج، وإذا أردنا صياغة تعريف بهذا النمط قلنا: إن المرافعة الليبرالية هي مغالطة منطقية يحاول من خلالها المغالط تسويغ المغالطات بصفتها آراءً شخصية، يجب علينا القبول بوجودها حتى إن لم نقبل بها كطرح! ويكون هذا عادة من خلال الاستناد على فهم خاطئ للكون يمكن الرمز له من خلال جملة (الحقيقة شيء نسبي) مراعين أن الخلل يبدأ من فهم هذه الجملة بالأصل! أو قد يكون الاتكاء على الأشخاص بمساواة غير عادلة بين المخطئ والمصيب! أو إعادة تسمية الآراء خاطئة وصائبة على أنها “وجهات نظر”! أو كل ما جاء على هذا النمط الذي نلحظ فيه تحريكا للتسميات بحيث يمرر المخطئ خطأه دون محاسبة، أو يفلت الضعيف بما يعتقد أنه حق لا يمكن له الدفاع عنه دفاعا منطقيا رصينا.

الردّ على هذا النمط يستدعي رسم صورة أكثر ثباتا للعالم وللغة، مما يعيد الأمور لنصابها، أو على الأقل ينفي هذه الميوعة التي يريد تعميمها مستخدمو المرافعة الليبرالية للإفلات من الرقابة الرصينة، وهنا فالرد لابدّ وأن يحتوي توضيحا لحدود الكلمات، ومعاني المقولات التي يستندون لها، مما يضرب هذا النمط ويفقده الفعالية، وعادة ما يلجأ المناقشون لنفي المقولات التي تستند عليها هذه المرافعة، حتى ذلك الوقت الذي يضبط محاوروهم فيه لغتهم، فنقول مثلا: “لا الحقيقة ليست نسبية” حتى يتاح لنا أن نتناقش في معنى النسبية ومعنى الحقيقة من الأصل، أو نقول: “لا هذه ليست وجهة نظر”، أو: “لا أنت غير مخوّل باعتناق الرأي الذي تريد!” أو “لا لست حرًّا برأيك”!!! وحتى نضبط معاني كلماتنا نحن والمغالطون على أرضية واحدة، فلا يجوز أن نمرّر مثل هذه المقولات بالمعنى المغلوط السائد بين الناس.

كل ما ورد في الأعلى هو من المشهور في حقل الجدال المنهجي الذي يريد الوصول لفائدة، ويندر أن تراه في نقاش بين مختصّين يتكرر بالمجانية التي نراها في النقاشات اليومية، مع ذلك فإنه من الأجدى أيضا استغلال مقولات أخرى أو نحتها إذا لزم الأمر، تكون ذات معنى غير خلافيّ، بحيث إذا وضعت بجانب المقولات التي يساء فهمها فتستخدم كأساس للمرافعة الليبرالية، فإنها تحدّد معناها بالمعنى الصحيح لها وتنفي الفهم الخاطئ وتعيق من يريد إساءة استخدامها؛ من مثل أنه إن قال محاورنا “الحقيقة شيء نسبي”، نقول له: نعم ولكن هذا لا ينفي أن هناك خطأ وصواب! وإن قال “هذا رأيي وأنا حرّ به”، نقول له من باب التنبيه لإشكالية هذه العبارة: لا يحق لك أن تسميه رأيًك حتى تكون قادرا على الدفاع عنه دفاعا منطقيّا رصينا! وإن قال: “كل منا له وجهة نظر” حاولنا إيقاظه بشرح معنى أن الآراء والحقائق أشمل من وجهات النظر، وأنها لا تتكون في أذهاننا حتى تكون مرت على كل وجهات النظر المنظورة.

الأصل في أي رأي معتبر ألا يكون متناقضا مضطربا من داخله، وناهيك عن أن الليبرالية بصورتها المشهورة مليئة بالتناقضات التي تهدمها، فمن يستخدم “المرافعة الليبرالية” هو غالبا شخص غير ليبرالي، وطرحه لا يتسق وهذه المرافعة، لاسيّما إذا كان محاوره غير ليبراليّ، فلا وجاهة أبداً في أن تطالب غير الليبرالي بالتسليم لك بأن رأيك مقبول أو وجيه، باستخدام مقولات ليبرالية هي في ذاتها محطّ خلاف، فهذا يعدّ مصادرةً على المطلوب، أو أحد المطالب على الأقل.

والأصل أنك لك الحق في جدال نظيف وجاد ما دمت جادّا ونظيفًا، ولا تسيء استخدام المنطق، لكن أي قول يصدر منك بغرض تسفيه رأي معتبر بتسميته “وجهة نظر”، يعدّ احتقارا له وتقليلا من وجاهته، وإضفاءً لشرعية مزيفة على ما يناقضه، وما دمت غير قادر على إثبات هذه الدعوى بطرح وجيه متزن، فإنك تستغني عن حقك الطبيعي في الجدال النظيف الجاد، وتفتح الباب لنا لنسخر منك إذ لا نأخذك على محمل الجد، وأنت المذنب الأول في هذا.

أخيرًا يجدر بنا أن نذكر أن الليبرالية ليست فكرة الحريات وفقط كما يفهمها بعضنا اليوم، وأننا لا نترجمها (الحرياتية) لسبب، هو أننا لا نقرّ بصلتها بالحرية التي نعرفها، وأن الاسم في الأصل كان يخص نهج التحرر لكنه انتقل لمفهوم الفردانية المجانية، فكلمة (فري Free) باللغة الإنجليزية كما تستخدم اليوم أقرب في ترجمتها الدقيقة إلى (المجاني) من (الحر)، فالحر ككلمة عربية تعني الخالص غير المشوب بشائبة، وتعني سيّد نفسه كنقيض لكلمة (عبد)، لكن المجانية في التعامل مع الأفراد بما قد يفرط في حقوق الجماعة فهو ليس نهجا محترما، وحتى الليبرالي الصميم إذا جادلته في هذا فهو لن يرهقك جدلا وسيعترف بوجود أولويات وتراتبية بينها، وسيقر بأن المنطق العقلي ومنطق الأشياء ليسا بالميوعة التي تصورها (المرافعة الليبرالية)! لكنه سيعارضنا في ماهية هذه الأولويات وشكل تراتبيتها، لكن الجدال بيننا وبينه والذي سيحسمه المنطق الرصين لصالح نفي فكرة الليبرالية (وهذه دعوى تحتاج إثباتا من قبلي تركتها لأنها ليست هي موضوعي هاهنا)، لكن يجب ألا ننساق لاستخدام المخرج الذي يمنحه لنا باستخدام “المرافعة الليبرالية” بأي من صورها!

استغلال الطرح الليبرالي كمهرب لكل مخطئ لا يستطيع الدفاع عن هراء أدلى به، يجب أن يتوقف، وهو غير مقبول جملة وتفصيلا، ومن يهرب لمثل هذا التفكيك يبرر لخصمه تفكيك مقولاته وتحويل النقاش لدرس أوّلي في المنطق، وكل من يهرب للمرافعة الليبرالية، كدفاع أخير عن “رأي” يعجبه مؤداه أو يضايقه مؤدى نقيضه ولا يمكنه الدفاع عنه، لنا الحق كلّه في رميه بالحمق، غير ظالمين! ولنا أن نصرخ في وجهه: جادل كالعقلاء أو اخرس!