كما أن الإنسان أسير أدواته، فالعقل أسير اللغة إلى حد كبير، واللغة محكومة للتداول، لاسيما إن كنا نتحدث عن اللغة في مستواها المنطوق، بعيدا عن الاصطلاح العلمي الحاضر في بعض الكتب والدراسات والنقاشات ذات الطابع المتخصص، والتداول بدوره محكوم للجماعة الناطقة بهذه اللغة، وإذا تعسفنا في جعل هذه العلاقة متعدية، متجاوزين بعض الأفراد المتخصصين، فنحن نستطيع أن نقول: إن العقل الفردي أسير للوعي الجمعي، إلى حد بعيد.
وقد تناولت بعض الدراسات أثر اللغة الأم في السمت العام للشعوب، ومن ضمنها دراسة تناولت مفهوم المستقبل عند الشعوب التي تملك لغتها سابقة أو لاحقة أو صياغة خاصة بالأفعال المستقبلية، مقارنة إياها بمفهوم المستقبل لدى شعوب أخرى تتحدث لغتها عن المستقبل بصيغة الحاضر، دون صيغة خاصة بالمستقبل، فوجدت أن الذين يتحدثون عن المستقبل بصيغة الحاضر، أكثر التزاما تجاه مفهوم المستقبل، من جهة الادخار للشيخوخة، أو الانتباه للصحة مثلا، وهي أمور تستلزم وعيا أكثر حدة بالمستقبل.
اللغة العربية، لغة ضاربة في القدم، متصلة الوجود إلى حد بعيد، تولي الشعر مكانة قدسية لا يطالها فن آخر من فنون القول، ورغم ما يشيع عن تراجع دور الشعر في المجتمعات العربية، وهو أمر نصدقه، ولا نتكلف إثباته بسبب هامشيته كمفهوم في فكرتنا هنا، إلا أن عامل الشعرية في اللغة العربية، لم يضمر بالقدر ذاته، ونستطيع بسهولة ملاحظة شواهد العقلية المبنية على اللغة الشعرية.
كما يبدو من مخرجات أكثر القنوات الفضائية المتلفزة انتشارا، قناة الجزيرة، فإن سياسة التحرير فيها اعتمدت على اللغة الشعرية كثيرا، وقد لا يتكلف المرء عناءً كبيرا لكي يلاحظ التعبيرات الشعرية التي يسكها مذيعو الجزيرة ومقدمو برامجها، وانتشارها في أوساط المتبنين لطرحها المخترق.
نعني بالتعبيرات الشعرية، تلك التعبيرات التي لا حقيقة لها موضوعيا، وهي حاضرة في الخطاب الإعلامي الذي يلقى رواجا في الوطن العربي، كقولهم: “خرجوا بصدورهم العارية” مثلا، فهذا التعبير عند فحصه هو تعبير شعري بحت، ولن تعجز أن تجد مئات التعبيرات المشابهة خلال ساعة بث تلفزيونية واحدة، حتى ولو كانت نشرة الأخبار، أو بالأحرى، لاسيما وإن كانت كذلك.
إن للعامل الشعري أثرا ملاحظا في العقلية العربية، يمنع الجماهير العربية من خطوتين مهمتين على طريق تحرير العقل والأرض والإنسان، فيبقى الإنسان مستعبدا للنظام القائم، وتبقى الأرض محتلة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويبقى العقل أسير الخطاب الغيبي، والخطوتان هما:
- المباشرة في الطرح، أي قول ما يريدون بوضوح دون التفاف أو تنميق، وهذا وإن كان من ملازمات الصدق والصراحة، فهو يعد ضربا من الوقاحة في المجتمعات العربية، وغياب اللغة المباشرة خطير على عملية الاتصال بين مكونات الاجتماع العربي.
- رؤية الواقع كما هو، بعيدا عن التأويلات الشعرية للواقع، إذ إن اللغة تنحت أنماطا إدراكية في الوعي، فتنتقل الشعرية من طورها الاتصالي، إلى طور إدراكي، يدرك الإنسان واقعه بوساطتها إدراكا مشوها.
نرى اليوم بوضوح افتقارنا إلى الخطوتين الأوليين، فنحن مجتمع لا يدرك واقعه كما هو، ويصر على حشر التأويلات الشعرية في تفسير ما يراه، مما يضر بقدرته على الملاحظة، وإذا تسنى لنا وجود مفكرين قادرين على إبصار الواقع بصورة مستقلة عن العامل الشعري تأويلا، فهم يفقدون قدرتهم التواصلية مع المجتمع، الذي لا يرحب بالخطاب المباشر، فإما أن ينساقوا إلى حشر التعبيرات الشعرية في خطابهم، مما يضر برسالتهم، أو يقابلوا بالنبذ والجحود إذا أصروا على اللغة المباشرة.
يجدر بي قبل إجمال الفكرة والتمثيل عليها، أن أتطرق لحاجة الإنسان للاعتراف ممن يعترف بهم، ما يعرف بالآثوس، فالمفكرون الذين ينبغي لهم أن يكونوا قادة الرأي في مجتمعاتهم، إذا قاموا بواجبهم كاملا، وخطوا الخطوتين الآنفتي الذكر، فإنهم معرضون، لا ريب، للنكران من قبل مجتمعاتهم، وهكذا فهم أمام حقيقتين مرعبتين لهم: الأولى، إنهم يفقدون الحافز الداخلي للعمل، من خلال فقدانهم الاعتراف، وهذا حدث كثيرا، وما يزال يحدث، والثانية، إنهم يشعرون بلا جدوى جهدهم الفكري، أي الحافز الخارجي للعمل، فهم دائمو الإحساس بأنهم ينفخون في قربة مخرومة.
الحاجة للاعتراف تتمد للجماهير أيضا، فإن كان المفكر عرضةً لما ذكرنا، فأجدر بالإنسان العادي أن يحسه، وأن يبقى لصيقا بأخلاقيات القطيع، تبعا لإحساسه ذاك، فحاجة الإنسان للاعتراف من مجتمعه، تمده بطاقة هائلة، لا تتوفر لمن يغادرون القطيع ذهنيا على الأقل، ويجدر ذكر عدد كبير ممن تمرد على هذه المشاعر بين المفكرين، بينما لم يصل عدد معتبر من الجماهير إلى هذه المنزلة، وإن وصلوا فإن أثرهم كأفراد معدوم، بعكس أثر المفكرين.
الفكرة هنا أننا لم نفهم الواقع كما هو بسبب العامل الشعري في العقلية العربية، وهو لم يزل طاغيا يكفر الموضوعية ويغطيها تحت المشاعر، بالمقابل، فإن قيادة العدو فهمت الواقع كما هو، وتركت المشاعر للجمهور، وهذا يتضح إذا نظرنا لانتفاضة الحجارة أو السكاكين، والحديث عن انتفاضة الحجارة مفهوم أكثر، كوننا نقف على مسافة زمنية معتبرة منها.
في الانتفاضة كان العرب ينظرون لأطفال وشباب الحجارة على أنهم محررون قادمون على خط الزمن، بسبب العاطفة التي لا تستند إلى أي حقيقة، بينما نظر العدو لهذا ففككه موضوعيا وواقعيا، والتفَّ عليه، فالذي يراجد الجندي الصهيوني والمستوطن، لا يتوقع رحيله أو موته بحجر، لكنه يستحي ممن هم حوله، فلا يقف متفرجا، ولا يملك إلا حجرا يقذف به باتجاه الهدف الجماعي، وهكذا فقد استهدف العدو الوعي الجمعي في فلسطين ثم عند العرب كلهم.
فهم الصهيوني والإمبريالي الأطلسي، أن الحجر المقذوف صوبه، تعبيرٌ فلسطيني عن ثقافة عربية، يستحي فيها الشاب الذي يريد اعترافا ممن هم حوله بذاته، أن يقف دون أن يحرك ساكنا، وينادي من خلاله المجتمع الفلسطيني إخوته العرب، بأنه ليس ثمة ما تخشونه في هؤلاء، ويقدم المجتمع بهذه الممارسة قدوة ملحمية لإخوته العرب.
وبينما انطلق العربي يمجد ظاهرة أطفال الحجارة، انطلق الصهيوني يستهدف داينميات الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، فجعل الاعتراف مقرونا بالنجاح المالي، أو المجد الإعلامي، المقترن بفكرة الفرجة، مما حدا بالشباب إلى البحث عن الاعتراف بذواتهم في مجال آخر، وحول الصرخة المنطلقة من يد الفلسطينيين حجرا، إلى صرخة ضد “العنصرية”، وضنك العيش، وقلب معنى الصرخة في آذان العرب، من “ليس ثمة ما تخشونه في هؤلاء”، إلى “ليس ثمة ما يمكن فعله”.
دعونا نغُص بالفكرة إلى بعد أعمق من هذا، فالحاجة للاعتراف المقرونة بطغيان العامل الشعري في العقلية العربية، ولدت مسوخا جديدة مختلفة عن كل ما اعتدناه، فبات الاعتراف بمفكر ما، وبالآتي بأفكاره، مقترنا بالحظوة التي يلقاها عند العدو، أو لنقل “الآخر” المتفوق، ودعونا نعترف بوجود عقدة نقص عامة، عندنا كأمة أمام الغالبين لنا، وجائزة نوبل مثال جيد على هذا، والأمر مركب هنا، فقائد الرأي بات مشغولا بتحصيل الاعتراف ممن تعترف به أمته، أي العدو، والجمهور بات مستتبعا، يمنح الاعتراف بصورة متعدية لمن يعترف به العدو، فكلما علوت في سلم الطبقية في المجتمع، لاحظت التبني الواسع لطروحات فكرية مستعارة من العدو، وهذا له أبعاده الطبقية أيضا.
الطبقات الدنيا ليست معافاة من هذا الوباء، وقد لا يكون هذا على مستوى فكري، لكنه حاضر على مستوى قادة الرأي الذين يركبون وجدان الفقراء، القطاع الأكثر التصاقا بالغيبيات، وبالآتي على ما يقدمونه من طروحات، قد لا تكون مطابقة للرؤية الغربية لما يجب فعله، لكنها مطابقة للصورة الغربية عنا نحن.
أخيرا، وبيت القصيد، تكمن قدرتنا على تجاوز ما نحن فيه، باستعارة الأدوات المعرفية الغربية، لكن دون نتائجها إذا أعملها العقل الغربي في واقعنا، نستعير الأداة لنخرج بنتائجنا نحن، غير آبهين بمدى الاعتراف الذي نحصل عليه من مجتمعنا، الذي غدا وعيه محتلا، أو ممن يحتل وعيه فيعترف به، وحتى نصل لهذا فلابد من الحفاظ على صورة مثالية عن مجتمعنا في أذهاننا، صورة إن لم توجد، فنحن نسعى لأن توجد، ونقصر الاعتراف الذي تطلبه نفوسنا من جماعة ما، عليها هي، دون غيرها.