نسختي الخاصّة من “الاقتصاد في الاعتقاد”*

عرّف أفلاطون المعرفة على أنها الاعتقاد الصادق المبرر، وظل هذا التعريف معتمدًا لقرون عديدة بل لألفيات، ولم يشكك أحدٌ في هذا التعريف، حتى أجبرت إجراءات التعيين أستاذَ فلسفة مغمورًا من جامعة هامشية، أن ينشر مقالة فلسفية واحدة على الأقل لكي يقبل تعيينه، فكتب أستاذ الفلسفة واسمه “إدموند غيتييه”** على عجالة مقالا من ثلاث صفحات، أو على وجه التحديد 930 كلمة، تحدّى فيه تعريف أفلاطون، وكانت هي المنشور الوحيد للفيلسوف غيتييه فلم ينشر قبلها ولا بعدها أي شيء! لكن وحسب إحصاءات الاقتباسات كان هذا المقال العمل الفلسفيّ الأكثف اقتباسًا في التاريخ كله، بالنظر إلى نسبة الاقتباسات إلى طول المنشور.

يتساءل غيتييه في مقاله سؤالا وحيدًا (هل الاعتقاد الصادق المبرّر معرفة؟) وكان هذا السؤال عنوانَ المقال، الذي عرض فيه تجربتين ذهنيتين يبطِل فيهما تعريف أفلاطون، وقبل أن نفهم تجربتيه الذهنيتين لابدّ لنا من التأكد من أننا نفهم تعريف أفلاطون.

سنأخذ مثالين لبيان ماهية المعرفة حسب أفلاطون وكل من قال بقوله، وفي هذين المثالين سيختلف انطباق حدود التعريف على المثال لتوضيح معنى التعريف تماما.

المثال الأول: يقول زيد إن الأرض كروية وهو معتقد بذلك، وهذا صحيح في واقع الأمر، لكن عند مطالبة زيد بالقرائن على كروية الأرض يعجز عن الإتيان بقرينة حقيقية يلزم عنها الاعتقاد بكروية الأرض، ولذلك فهو في تعريف أفلاطون لا يعرف حقيقة أن الأرض كروية.

المثال الثاني: يقول عبيد إن السيارة تنطلق بقوة دفع الغاز من المدخنة الخلفية، وعند مطالبته بالقرينة يجرّب إغلاق المدخنة فلا تسير السيارة، فاعتقاده مبرر، لكن هذا الاعتقاد غير مطابق للحقيقة، فالسيارة تنطلق بقوة العزم الدوراني لمحرك الاحتراق الداخلي فيها. لذلك فهو في تعريف إفلاطون لا يمتلك المعرفة التي يزعم.

إذًا حسب أفلاطون فإنه لابدّ لزيد أن يعتقد بهذا الاعتقاد ويصدقه، وأن يستطيع تبرير اعتقاده أو تسويغه تسويغا مقبولاُ ويكون اعتقاده مطابقا للواقع، حتى نقول إن اعتقاده هذا يمثل معرفة حقيقية!

أتى غيتييه وضرب مثالين على تجارب ذهنية تضع تعريف أفلاطون على المحك، فقال في إحدى التجربتين:

لو أن سميث تقدّم على وظيفة وكان في جيبه عشرة قروش فقط، واعتقد بسبب خبر من مسؤول الموارد البشرية أنه سيحوز على تلك الوظيفة، فإن اعتقاده بأن من سيحوز على الوظيفة هو رجل يحمل في جيبه عشرة قروش فقط، يكون اعتقادًا مبرّرًا، ولو حصل على تلك الوظيفة رجل يحمل في جيبه عشرة قروش سيكون اعتقاده صادقًا أيضًا، لكن هل يستحقّ اعتقاده اسم معرفة، إذا عرفنا أن الشخص الذي حاز على الوظيفة هو رجل آخر غيره، صادف أنه يملك في جيبه عشرة قروش فقط! نحن هنا أمام اعتقاد صادق مبرر، لكنه ليس معرفة!

وكان هذا المثال كافيا في نظر كثيرين لهدم نظرية أفلاطون عن المعرفة، واستطرد غيتييه بمثال على تجربة ذهنية أخرى، زيادة في التوكيد، ولأنّ حالة واحدة تبطل التعريف الفلسفيّ كافية، فلن أذكر التجربة الأخرى.

تصدّى فلاسفة آخرون لاختراع شرط آخر للمحافظة على قوامية تعريف أفلاطون، وكانوا في كل مرة يواجهون تجربة ذهنية جديدة يحوكها أحد مناصري غيتييه تبطل شرطهم، وما يزال الجدال حول حدّ المعرفة قائماً، ولكن بات ثمّة تيارٌ فلسفيّ يقول إن المعرفة بحدّ ذاتها مفهوم أوّليّ غير قابل للتعريف، وهذا التيار لم يكن لينشأ لولا مقال أستاذ الفلسفة المغمور الذي أجبرته الظروف على كتابة عمل فلسفيّ واحد فكتبه ولم يكتب غيره!

للحقيقة فأنا أميَل لتعريف أفلاطون _بعد إعادة صياغته_ مني للرأي القائل بأن المعرفة مفهوم أوّلي لا يقبل التعريف، لكن لدى تعرضي للمسألة تأكّدت من فكرة فرضها عليّ تتبع التطور العلمي الهندسي، وهو يندرج في المعرفة الإمبريقية التجريبية، وهي أن حدّ المعرفة كالتالي: “التصوّر الراجح القائم للواقع” ورجحان التصوّر آتٍ من تبريره، لكنه رجحان لا يصل القطعية مهما بلغ من التأكيد عليه بالتجريب والمشاهدة، فهذا يثبت له القوامية أي يثبت أنه قائم، لكنه لا يثبته هو بشكل نهائي قطعي، لكن رأيي هذا ليس هو مدار البحث.

في الحقيقة، السبب الذي دعاني لكتابة هذه السطور ليس البحث في ماهية المعرفة ولا إمكانيّتها، لكن هذه السطور هي دعوة للنظر في قوة السؤال، التي منحت أستاذًا مغمورًا اضطر أن يشارك شكوكه حول تعريف لاقى القبول من ملايين العقول لمئات السنين، شهرةً عظيمة ومجدًا عاليًا، وأنه هو كأستاذ فلسفة كان يريد وظيفة يتمكن من خلالها متابعة حياته في عمل يحبه، وهو التدريس، وكان زاهدًا حتى في أن يردّ على مساجلات كثيرة من فلاسفة كبار، فجرتها مقالته.

تذكرني قصة غيتييه بزيارتي لصديق دارس للفلسفة أعدّه في أساتذتي بل ومن أهمّهم، إذ كنت مندهشا بقدرة نموذج لاتخاذ المواقف اشتققته بنفسي، على أن يعفيني من الاعتذار عن مواقفي المفكّر بها، أو التي طبقت النموذج عليها قبل اعتمادها، فذهبت له أسأله النصيحة هل أكتب ما وعيت اليوم، أم أنتظر حتى أهضم التراث الفلسفي، لأعرف بالفعل إن كنت قد أتيت بجديد! وسؤالي هذا كان وراؤه خوفي من أن تجذبني الأفكار التي سأدرسها بعيدًا عن فكرتي، إذ إن الفتوحات في المجرّدات من الأفكار أقرب عادةً ليد المستجدّين، فهم الأبعد عن التنميط. فأوصاني بقراءة بعض الكتب، والتريّث قبل التصدّي للدفاع عن فكرتي، لكنه أوصاني أيضًا بصياغة هذا النموذج والتعديل عليه أثناء القراءة والدرس.

أذكر قصتي مع فكرتي هذه، وقصة غيتييه لأقول شيئًا أراه ذا غورٍ بعيدٍ، بل قد يكون أفضل ما يستدعيه نقاش أفلاطون-غيتييه في ذاته فضلًا عن سياقه: إن أعظم ما يخدمك في رحلة التعلّم هو وفاؤك لجهلك، وجرأتك على التساؤل، وعدم قبول الأفكار دون تمحييص وتقليب كافٍ، وإبقاؤها بعد ذلك في منزلة دون اليقين، وليكن هذا هو “اقتصادنا في اعتقادنا”، فلا خرافة أسوأ من اليقين، وإن كان اليقين موجودًا بحقّ فلن يضرّه السؤال، بل إن المتيقن بحقّ هو ذلك الذي لا يخاف على يقينه من الفحص والتمحيص، والتشكيك والمماحكة، أما الذي يضرب على يقينه سورًا من القدسية خوفًا من الشكّ فهو جبانٌ جبان، بل إنه ليس واثقا أقل الثقة بما يدّعي أنه اليقين.
_________________________________________

*كتاب لا أوصي بقراءته لأبي حامد الغزالي.
**قد يلفظ الاسم إدموند غيتير أيضًا.