ما يسمِّيه كثير من الناس “نظرية المؤامرة” ليس نظرية بالفعل، وسنعود لتصنيفه الأنسب بعد قليل، لكن في البداية، علينا أن نسأل: هل يطلق هذا الاسم على الشيء نفسه؟ أي هل ثمة شيء محدد واحد وفريد، يسميه الناس “نظرية المؤامرة”؟ في الحقيقة، لا، فهذا الاسم يطلقه الناس على أفكار كثيرة، لا يمكن إحصاؤها، فالأمر قد يشمل سكان الفضاء، وقد يشمل الحكومات، والمخابرات، والعلاقات الإنسانية، ولهذا فليس ثم شيء واحد فريد يدعى “نظرية المؤامرة”.
اللغة العلمية تمتاز عن اللغة الشعبية بميزة محددة، وهي أنها تبني علاقة اقتران بين الكلمات ومعانيها، فلكل عنصر في المجال صورة واحدة في المدى، أي أن لكل كلمة معنى واحدا، بينما قد نصيب المعنى نفسه بأكثر من كلمة، في اللغة الشعبية الأمر مختلف، فالكلمات متعددة المعاني، وهنا لابد أن أقصر الكلام على المصطلحات، فاللغتان تتقاطعان في مساحة مشتركة، من كلمات لا تمثل اصطلاحا محددا، يكون معناها مرتبطا بسياقها.
هنا يصعب علينا المتابعة، دون أن نحدد ما الذي تعنيه كلمة “نظرية”، والنظرية هي: مجموعة متجانسة من الطروحات العامة المتجاوزة للاختبار، التي يمكن استعمالها لتفسير الوقائع والتنبؤ بها، مشكلة شبكة من الأفكار الصالحة لذلك، والتي تحظى بأعلى درجات المصداقية.
وحسب هذا التعريف، لن تجد أيا من الطروحات المتعددة المتباعدة المشمولة بكلمة “نظرية المؤامرة”، تستحق تصنيفها كنظرية، وهذه الطروحات في عمومها تفتقر لأي تصنيف يجمعها، فلا نستطيع تسميتها فرضية، أو نموذج، أو أي من قبيل هذه المصطلحات، فماذا هي؟
أصطلح عادة على هذه الطروحات بمصطلح مختلف عما يتداوله الناس، وهو “ذهنية المؤامرة”، وتصنيفها كذهنية لا يعني أن كلا منها يمثل ذهنية بحد ذاته، ولكن هذه الطروحات كلها لها منتِج واحد، هو طريقة تفكير، لا ترقى لمصطلح “عقلية”، فهي قائمة على التبرير أكثر من كونها قائمة على التفكير، وترتبط ارتباطا عجيبا بالحالة النفسية لفرد أو مجتمع ما، ولذلك فهي ذهنية لا نظرية.
تشترك إفرازات ذهنية المؤامرة بوجود درجة من الاعتقاد الجبري خلفها، وأعتقد أن هذا له أصوله الدينية، فذهنية المؤامرة إما أن تكون ذهنية دينية، أو ذهنية فارقت المعتقدات الدينية دون الاتكاء على المنهج العلمي، فكان سهلا عليها تبني فكرة تشبه الديانات، تقحم الإجابات على الأسئلة بما يسكت، لكن دون أن يشبع الفضول.
ذهنية المؤامرة تنمُّ عن موت العقل، فالعقل معني دائما بفحص الأفكار، إما بضربها ببعضها بعضا، أو باختبارها على أرض الواقع، بينما لا نجد نسخة واحدة من “نظرية المؤامرة” حدثت نفسها بطريقة ثورية، أو تراجعت عن مقولات سابقة لها، إلا أن تكون مقولات في الاتجاه نفسه.
ذهنية المؤامرة شغلها الشاغل، إنتاج أفكار حصينة، ثم الدفاع عنها، والفكرة الحصينة هي الفكرة التي لا تحمل بذور تجاوزها فيها، ولا تقدم منهجا لفحص طروحاتها، فمن يتبناها يعلق فيها إلى الأبد، أو يتخلى عنها بصورة نهائية، ولا وجود للحلول الوسط معها، وإذا بحثت جيدا فيها، ستجد مصادرة على المطلوب في مكان ما، وهذا ربما لا يحتاج كثير بحث، وبالتأكيد ثم احتكام للجهل، في مرافعات متبني هذه الذهنية، أو لنقل: ضحاياها!
هل يعني هذا ألّا وجاهة في كل ما يطلق عليه “نظرية مؤامرة”؟ في الحقيقة، ثم أفكار وطروحات تتهم أنها تندرج تحت “نظرية المؤامرة”، وهي براء من ذلك، لكن بعض الناس يعمد إلى تسخيف ما لا يعجبه بكونه “نظرية مؤامرة”، وليس كل ما يتهم أطرافا ما بالتآمر، يكون متبنيا لذهنية المؤامرة، بل وإن التآمر سمة بشرية، والتخطيط شرط من شروط بلوغ الأهداف البعيدة المركبة، ولذلك فمن يقدم طرحا متماسكا، خاليا من المغالطات، بعيدا عن الجوهرانية، يفضي للاعتقاد بوجود مؤامرة ما، يمكن فحصها وملاحظة أسبابها، وتوقع نتائجها، لا يقع ضمن هذا التصنيف.
لكن على المعتقد بوجود مخطط ما، أن يبين بطريقة عقلانية، بعيدة عن المعتقدات الجبرية، والمصادرة على المطلوب، والاحتكام إلى الجهل، وجود المخطط وأبعاده، ويحدد طرق فحص أفكاره، وكيفية تجاوزها، كي لا يقع فريسة لذهنية المؤامرة.