قطايف بالشطَّة | الإسلام بين المتنوِّر والمتنمِّر

قبل أن ندخل في موضوع المقالة، الواضح في عنوانها، دعنا نتناول مثالا ندلف منه إلى سبب كتابة هذه السطور، والمثال عن أفضل ما يمكن للإنسان الحديث أن يتخيله، الطعام! دعنا نتخيل مصنعا فيه عدد كبير من العمال، وهؤلاء العمال يتلقون وجبة مجانية كل يوم، تحتوي الوجبة على طبق رئيس، وسلطة، وعصير. قبل مدة استلم الطباخ “إسحق الفرحان: وزير تربية أردني سابق” مطبخ المصنع، وبسبب ذوقه الشخصي، المتناسب مع ذوق عدد من العمال، عدل وصفات الأطباق المقدمة، لتصبح كلها مليئة بالفلفل الحار، وهذا كان له أضرار صحية على العمال، لكنهم وبعد سنة من تعرض حليمات التذوق في ألسنتهم إلى الطعم الحار، لم يعودوا يشعرون بطعم آخر، فازداد عدد محبي الفلفل في المصنع.

رغم هذا فقد بقيت أقلية من عمال المصنع تكره حشر الفلفل في كل شيء، وتطالب بفصله عن الطعام وتقديمه على حدة، إلا أن محبي الفلفل كانوا يستمتعون بمضايقتهم، وبات الفلفل مع الزمن يكثر، فدخل إلى السلطة، ثم، ومنذ سنة واحدة فقط، استدخل أحد الطهاة الحمقى الفلفل على العصائر، وياللعجب فقد أسعد هذا مجموعة من العمال، لأن تناول الفلفل وعدم الشعور بالألم غدا رمز الفحولة بين العمال، وعندما تقدم أحد العمال المحبين للفلفل، المشفقين على أصدقائه ممن يحجمون عن الأكل في المصنع، إلى إدارة المصنع بشكاوى، نعته عشاق الفلفل بالمخنث، لكن الإدارة استجابت ونزعت الفلفل من الطعام، كانت استجابتها غبية فلم تحسن نوعية الطعام، لكنها ببساطة، وضعت الفلفل على جنب، هنا تضايق “الفحول” وباتوا يحرقون الوجبات، ويحملون معهم كميات هائلة من الفلفل، ويرشونها على كل شيء، ويفركونها في أعين “الأقلية” التي لا تحتمل الفلفل.

ليس صعبا تصنيف محبي الفلفل، في المثال السابق، على أنهم متنمِّرون، لكن إذا اختلط الأمر بقضية دينية، وافترضنا أنهم لسبب ديني يقدسون وضع الفلفل على كل شيء، بات تصنيف فعلتهم هذه أصعب، فقد تخضع الإدارة لمطالب المتنمرين بصفتها مطالب دينية، أو تطردهم من المصنع، أو تطرد الذين لا يحتملون الفلفل، أو تسكت إلى أن يخرجوا وحدهم دون طرد، لكن الأمر، في الحقيقة، لا يخرج عن كونه تنمُّرا في النهاية.

قضية “المناهج” التي تسيطر على أحاديث الأهالي في الأردن، تشبه حكاية الفلفل، فقد شغلتهم عن فساد إدارة المصنع، وتراجع إنتاجية العمال، وبعض الجرائم التي تهدد مستقبل المصنع كله، أو الأردن كله بالأحرى، لكنها أيضا يمكن تصنيفها على أنها ضرب من التنمر، فما ذنب العامل أن يشرب عصيرا مليئا بالشطة، أو منهاج لغة عربية أو علوم مليء بالمقولات الإسلامية، لاسيما وأن العامل قد يعاني من حساسية للفلفل، أو يعتقد أنه مضر بصحته، أو لا يوافق ذوقه الشخصي، والطالب قد يكون متبعا لدين آخر، أو من أسرة غير متدينة، ولنقل ببساطة: إن طغيان طعم على طعم يفسد الطعام ولا يراعي الأذواق كافة، فدخول الشطة على العصير يلغي طعمه، ودخول التربية الدينية على العلوم يلغي العلوم لصالح الدين، بل وإنه يلغي تذوق الأطعمة التي يدخلها الفلفل أصلا!

تحول “الدين” من معتقد إلى سبب للتنمُّر، أمر خطير ينمُّ عن خلل في التربية، فقد وصل الأمر في الأردن إلى أن تتسابق إدارة البلد مع المتنمرين من الإسلاميين، والإعلام الذي يريد الحظوة عند الناس، حول أيهم أكثر تنمُّرا على غيره، الإدارة تتنمَّر على الجميع، والإسلاميون يتنمَّرون على الجميع أيضا، لكنهم يخشون من غضب الإدارة، فيرهبونها بالتنمر على المستضعفين ممن قرَّروا، أن هذه الحال لا تناسبهم!

تعديل “المناهج”، رغم أهميته، جاء فقيرا، وغير جذري، كان ربما بسبب الكسل، أو الاستعجال، فقد اقتصر على حذف الطعم الإسلامي مما يجب أن يكون له طعمه المستقل، كاللغة، والعلوم، وغيرها، مع بقاء شيء معقول من هذا الطعم فيها، ومع بقاء وجبة كاملة من التربية الدينية، فهو لا يناسب الآن أي ذوق، ولذلك يقرن الذين يدافعون عنه دفاعهم بمطالبتهم بتغيير جذري، ويجد المهاجمون له سببا ليعتقدوا أنه مجرَّد استهداف لهم، وليس تحسينا، ولو كان ضئيلا، على نوعية الغذاء المعرفي للطالب.

الصورة المتنمِّرة من الإسلام، لا تروق أغلب المسلمين، لكنهم يشعرون بضعف أمام المتنمر الإسلامي، فيقتدون به على أساس اعتقادهم أنه يمثل الإسلام، ويعلن الغرب أنها لا تروقه، مع أنه استفاد كثيرا منها، فضرب بلادا بها، وضرب بلادا أخرى بسببها، وسيطر على مقدراتنا وأوطاننا بمساعدتها، حتى هؤلاء، المتنمرين لا يروقهم أن تكاشفهم بحقيقة تنمِّرهم، ويسارعون إلى القول: “إن هذه الجرائم لا تمثل الإسلام!” حسنٌ، صدقناكم في هذا، ونحن في النهاية مسلمون، فهلا تصدَّيتم أنتم لتمثيل الإسلام العقلاني السَّمح، الذي تتشدَّقون به!

الإسلام كي لا يكون متنمِّرا، يجب عليه أن يكون متنوِّرا، وهذه ليست مفارقة لغوية فقط، وإنما حقيقة موضوعية تفرض نفسها، فالإسلام الجديد الذي يحاول أن يلغي كل شيء مغاير له، بات الآن يحاول أن يطغى على كل شيء حوله، كان يمنحه هويته، فعند تلوين كل شيء بلون واحد لا يعود لهذا اللون أي ميزة، فهو يلغي اللون نفسه، أو بالأحرى، يحاول اليوم المتشدقون به، ومتَّخذوه سببًا للتنمُّر، إلغاءه هو، ويبدو أنهم ينجحون!

كي يبقى الإسلام قريبا من صورته الطوباوية المتخيلة، على جميع المستنيرين من جميع الديانات، والمعتقدات، دفع المتنمِّرين والأخذ على يدهم، بالنصيحة، وبالقوة إن لزم، وبفتح باب الجدل، وبسماع الرأي المخالف بجدية، وبرفض تنمُّرهم بصورة واضحة، ورفض اختطافهم للإسلام، وإلا فلا يلومُنَّ غيرهم إذا خذلوهم.

فلنتذكر مثال المصنع، إن تنمُّر محبي الشطة، سيدفع في النهاية ضحاياهم، ومماثليهم بكونهم ضحايا الإدارة الفاسدة، إلى ترك المصنع، والانضمام إلى مصنع منافس، وسيتركهم وحدهم يتنمَّرون على الإدارة المتنمِّرة بدورها، لينتهي المصنع إلى خرابة، وهكذا قد يفقدون باب رزقهم، وسبب حياتهم، والطعام من أي نوع، بفلفل أو بدون فلفل.

لا وجاهة أبدا في حشر الإسلاميات في تدريس مواد أخرى غير التربية الإسلامية، كما لا منطق في وضع الشطة في القطايف، ويجب على محرقي الكتب المدرسية، الذين داسوها بكل وقاحة، بما فيها من آيات وأسماء شخصيات رمزية للمواطن الأردني، أن يتوقفوا عن جعل حياتنا طبقا من الشطة! شبعنا من القتل والإرهاب، وها هم اليوم بمعونة سوء الإدارة، يحولون كل شيء إلى إرهاب، حتى الإسلام كما عهدناه، الذي يُفترض أنه بعيد عنه!