قدَّم المعترضون على تغيير “المناهج” في الأردن مرافعاتهم، وكذلك “المؤيدون” قدَّموا تفنيداتهم لهذه الاعتراضات، وهذا حق محفوظ لهؤلاء وهؤلاء، وفي الشقين ثمَّة أساتذة رصينون، لكن في الحقيقة ما حدث كان خطوة غريبة من لجنة صياغة الكتاب المدرسي، وخطوة متطرفة من المعترضين، وإنني باق على رأيي في التحيز لإظهار عدم وجاهة الاعتراضات الشائعة على التعديلات، التي أفردت لها مقالة سابقة: المناهج الأردنية | قراءة في الحملة المسعورة، لكن تبنيّ لهذا الموقف يجبرني أخلاقيا أن أتطرق للمناهج، والكتب المدرسية والتعديلات بما تكره وزارة التربية أن تسمع.
المقدّمة
كان عليَّ في عرضي لأكثر الانتقادات شيوعا، أن أمر على كذبة إعلامية أشاعت بين الناس أن الكتاب المدرسي للصف الثالث الابتدائي الأردني أورد جملة “القدس عاصمة إسرائيل”، وفي الحقيقة الصورة التي رافقت الإشاعة تداولها بعض الإسلاميين والناس ذوي التدين الشعبي والبسطاء الذين لا يتحققون من الأخبار، هي صورة منهاج صهيوني يدرس لأبنائنا الفلسطينيين الذين يحملون جنسية الكيان.
لكن دعواي بعدم وجاهة اعتراضات الإعلام المجتمعي على التعديلات، لا تزكّي الكتب المدرسية بحالتيها، السابقة أو الحالية، ولا يجب أن يفهم مثل هذا منها، بل ويجب فهمها بقدرها، فالكتاب المدرسي انتقل من ضعف إلى ضعف، ولا يعني هذا بالضرورة أن الكتب قبل التعديلات أفضل، أو حتى أسوأ، الكتب المدرسية الأردنية في حالتيها كتب مدرسية ضعيفة، تتفاوت في ضعفها حسب الطبعة، والمادة، وهي بعمومها لا تصل للمستوى الذي تطلبه المناهج الأردنية (يجدر التذكير أن المنهاج هو شيء آخر غير الكتاب المدرسي وهو لم يتغير، المناهج تحوي الخطوط العريضة للكتب المدرسية وتعطى للجنة تأليف الكتاب المدرسي)، ولا تصل إلى ما يتطلَّبه العصر، ولا ما يتوق له أملنا بغد أفضل، ولا حتى إلى التحديات التي نمر فيها شعبا وأمة.
الجدال في البداية كان لتقويم عِوَج المعترضين من وجهة نظر متطرفة، لكن الآن وبما أن الأردن يبدو على أعتاب تغيير الكتب المدرسية مرة أخرى، وربما المناهج أيضا، فإن النصيحة الخالصة واجبٌ تقديمها، ولعلها تسحب أطراف النزاع إلى النقاش الحقيقي الذي يجب أن يدور حول المناهج والكتب المدرسية، وسأمر في هذا المقال على الأمثلة والأسئلة التي تسبق حكما الطرح الذي أبتغي إيصاله.
هذه كانت المقدمة حسبُ، وأعرف أنني أطلت، لكني أريد لكلامي هذا أن يقع موقعه، عند الطرفين كليهما، ومن خاف سوء الفهم أطال المقدمة والخاتمة، ولكن أعد القارئ أن أسلك أخصر السبل في أداء واجبي.
من الذي ينصحكم؟
كاتب السطور هذه لا يتحدث على أساس أنه “مثقف” أو “كاتب”، بل على أساس خبرة في التدريب امتدت لسنوات طويلة، مضافة إلى خبرة في تعليم الشعر للشعراء الشباب، فالمتحدث يقرض الشعر المشهود له بموافقة شرط العربية في أعلى مستوياتها، وله خبرة في إخراج البرامج التعليمية وصناعتها في عدة حقول معرفية، لا سيما اللغة العربية، مع سجل مشرف من الطلبة الأجانب ذوي القدرات المذهلة في اللغة العربية الذين درّس لهم، ودقق محتوى عدد من الكتب علميا ولغويا، وكتب عدّة أبحاث في مجال الدين الإسلامي من منظور لغوي وفلسفي، وهذا على أساس دراسة بعض العلوم الإسلامية على أيدي شيوخ أفاضل في “حلقات”، ودراسة الشعر والحكاية عن طريق “المجاورة”، وهو رغم ذلك ليس غائبا عن جوّ المدرسة، فهو مارس تدريس اللغة العربية لطلاب المدرسة العرب في مدرسة أردنية عريقة، وعرف المأساة المدرسية عن قرب، بعين نظيفة من الاعتياد الذي يعمي بعضكم عن إبصار ما يبصره هو.
غير أن هذا كله لا عبرة فيه، فالعبرة في الدليل والحجة وجَودة المرافعة، وليست العبرة في مصدر الكلام، وأقول هذا تجنبا لمغالطة المنشأ، لكن العادة جرت عند المعلمين والمشتغلين بالتعليم أن يسفهوا مقالة من لم يجرب التعليم، حتى لو امتدحهم، وفي معارضة إبراهيم طوقان لأحمد شوقي مثال على هذا الذي أتجنبه، إذ قال: لو جرّب التعليم شوقي ساعة…لقضى الحياة شقاوة وخمولا.
لماذا ذهبت للمدرسة؟
كنت في آخر عمل لي قبل تدريس اللغة العربية لطلاب المدرسة، أعمل كمخرج برامج تعليمية، وكنا نطلب كادرًا يلقي المحاضرات المكتوبة سلفا، لتنفيذ مشروع لحوسبة التعليم في دولة عربية ثرية، ونضع إعلاناتنا للتوظيف في منصات إعلانية شتى، وبعد اختيار أصحاب السير الذاتية المتوقع أن يكونوا على قدر جيد من إتقان اللغة، من حملة شهادات عليا، وأصحاب خبرات تصطكّ لها ركبتاي، كنا ندعوهم لاختبار التصوير، فنتفاجأ أنهم لا يحسنون القراءة، رغم أن النصوص في صلب تخصصاتهم! وهنا لا أتحدث عن فن الخطابة، بل عن محض القراءة من شاشة تعرض له النص بخط كبير وبتشكيل واضح!
وكنت أخدم كمتطوع في مدرسة بعد أن أجّلت قبول عرضهم للعمل كمعلّم للغة العربية، وفي أحد الأيام التي تلقيت فيها خيبة كبرى، من المستقدمين الجدد الذين لم نعيّن أحدًا منهم، واكتفينا بكادر من المسرحيين، والشعراء، وبعض الذين تلقوا تثقيفا حزبيا أو دينيا، وبعد لحظة انفعالية من رؤية مستوى أستاذ جامعة في القراءة، قررت قرارا حاسما بقبول عرض التعليم في مدرسة، رغم العقبات المادية التي جرتها عليّ هذه الخطوة.
عن أسوأ ما في مدارسنا
سأعدّد باقتضاب أسوأ ما في المدارس في وطني الأردن، حسبما شاهدته بأمّ عيني:
- الإدارات التعليمية متكلّسة، غالبا تكرر مغالطة عجيبة عند مطالبتهم بأي تجديد: “نفعل هذا منذ زمن ولم تكن فيه مشكلة!” ويعزون المشاكل إلى طريقة عمل الشيء، لا الشيء نفسه. وهذه الإدارات في الغالب مشكلة من معلمين سابقين، وليس من محترفي إدارة، وهذا له حسناته لكن سيئاته قاتلة.
- المعلّمون لا يتعلّمون، على سبيل المثال، عند النظر إلى قدرات المعلمين تكنولوجيّا، تعرف أن المعلمين لم يعودوا كائنات متعلمة، وأستغرب حقيقةً أن كيف لأناس فقدوا قدرتهم على التعلّم وشغفهم به، أن ينقلوا للطالب ما لا يملكون! فالتعليم ليس حقائق يجب نقلها إلى التلميذ، بل ديناميّات تعلّمية يمارسها الطالب بتيسير من المعلّم.
ولا أستطيع مقاومة التعليق على هذه النقطة بأنني أفسرها بكون المعلم يحتقر، إلى حد ما، موقف التلميذ، فيتجنّب هو أن يقفه، مع أن أشرف موقف بعد موقف المعلّم، هو موقف المتعلّم، الذي يسأل ويبحث، وربما يفضل الأول. ولك أن تتخيل، عزيزي القارئ، مدى اطلاع المعلّم على آخر المستجدات العلمية، إذا كانت هذه حاله.
- الطلبة وردّة فعلهم على التسلّط، تنقسم حالات الطلبة بين متمرّد على تعليمات المعلّم والإدارة كلها، وبين مطيع ينفذ إملاءاتهم، ولا يظهر أثر لأي عقد اجتماعيّ في البيئة التعليمية، وكأن المدرسة هي المرحلة الأولى في تدجين المواطن العربيّ ليكون عضوا هادئا في القطيع، أو منبوذا إذا رفض.
- الألفاظ الفارغة من المحتوى، الجميع في المؤسسة التعليمية يصدر أصوات بعض الجمل السامية المعنى، دون أن يقترب اقترابا من أي ممارسة أو موقف حقيقي يتبنى أحد هذه المعاني السامية، وينقل هذا بالفعل إلى الطالب الذي يريد أن يرضي أستاذه، من موجّه يريد المعلم أن يرضيه، فتنتقل المقولات بالفعل، دون أن ينتقل معناها.
ولا أستطيع مقاومة إغراء التعليق على هذه النقطة، بأنها مظهر من مظاهر ثقافة التلقين، التي يقع المعلّم ضحية لها، بعد أن كان أداة لها ومصدرا من مصادرها، ولا أتحدث هنا عن التلقين الذي تهزأ المدارس الحديثة منه في الكتاتيب والمدارس التقليدية، بل عن تلقين آخر، ولي وقفة مع هذا لاحقا في المقال.
- المعلمون لا يتقنون سوى التعليم، المعلم الذي تخرج من الجامعة، وانتقل إلى التعليم فورا، يفتقر إلى أي ثقافة مهنية خارج القطاع التعليمي، ولذلك فهو سيكون أقدر على إعداد أناس يشبهونه، من قدرته على إعداد الطلبة للدخول في حقول مهنية أخرى مترامية الأطراف، وأتذكر عندما كنت طالبا في المدرسة أو في الجامعة، كيف كنت أتعلق بالمعلم ذي التجربة المهنية الحقيقية، الذي يملك أمثلة من الواقع نطبق عليها المفاهيم المجردة، فنراها في سياقها حتى تعلق في ذاكرتنا.
- المعلّم مهمل ومهمّش، ليس مادّيا فقط، والمال مؤشر مهم لتقدير الأفراد والمهن في المجتمعات التي تتبنى النموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي نعيش فيه، ولننظر إلى تاريخنا القريب الذي كان فيه المعلم يحصل على تقدير أعلى ماديّا ومجتمعيا، كيف أفرز لنا جيلا من المعلمين الصادقين المتقنين لعملهم، بقي هذا الجيل عالقا بحكم الزمن في مهنته، بعد أن ساء وضعها، ولم يقبل على السلك التعليميّ إلا من لم يجد خيارا أفضل منه، ولك أن تفكّر في ماهيّة محدودي الخيارات هؤلاء، وفي سويّتهم، وقدراتهم.
- الاتصال في المؤسسة التعليمية ضعيف جدّا، يقاس تطوّر المجتمعات والمؤسسات بقدرتها على التواصل مع محيطها وما بين أجزائها، وهذا عند تطبيقه على المجتمعات يشمل الزمان أيضا، فالقدرة على التواصل مع الماضي في قراءته أو المستقبل في ترك أوابد وعلوم وأفكار تعبر الزمن، لكن تواصل مجتمع المدرسة مع المجتمع والعالم شبه مقطوع، والتواصل البينيّ داخل أجزاء المنظومة التعليمية تواصل رديء النوعيّة، يحد من قدرة مجتمعات المؤسسات التعليمية على التعلّم كجماعة.
- الأهالي يريدون نسخا عنهم، أولياء أمور الطلبة هم أناس من مجتمعنا، مصابون بالأمراض المجتمعية التي تشكل ظاهرة عامة، فهم يريدون أن يصنعوا أبنائهم، لا أن يستمتعوا بمشاهدة أبنائهم يكتشفون أنفسهم ويصنعونها، ولذلك فهم يطلبون ما يجعل أبناءهم أكثر شبها لهم، في البيئة التعليمية كلها، فهم يريدون المعلم الذي يطابق المعلم المثاليّ في أذهانهم، والكتاب الذي يطابق صورتهم عن الكتاب الأمثل، وهكذا… وقلّما تجد مؤسسة تعليمية، تتمرّد على هذا، فالمدارس الخاصة غالبا رهينة إرادة المموّل، أي الأهالي، والمدارس الحكومية رهينة إرادة الحكومة التي تخضع للضغوط الشعبية مهما كانت مطالبها متخلفة، لاسيّما فيما ليس ذا طابع “سياديّ”، ولا نراهم ينظرون إلى التعليم بما هو، كأمر سياديّ.
- الكتاب المدرسيّ ممجوج، النتيجة التي نراها بين أيدينا لعملية تأليف المناهج، تشير لنا بوضوح أنه ثمة خطأ كبير، في الحقيقة ثمة مصيبة عظيمة تنبع من مكان ما في عملية إنتاج الكتاب المدرسيّ، ولأنني غير مطلع على العملية فسألزم الحديث عن المنتج النهائي الذي بين يدينا، وقد تناولت النقاش الدائر حوله في المقالة المذكورة في مفتتح قولي.
- الجدل غير المفتوح حول نظام المدارس، بعد انضباط الحصة الصفية يمكن الحديث عمّا يلي ذلك من مقومات عملية التعليم، لكن الإدارات المدرسية مقيدة بمحظورات كثيرة من التربية، ولم تطلع على سبل ضبط جديدة، وهذا انتبه له الطلاب فاستغلوه أبشع استغلال، وليس في يد أغلب الإدارات والمعلمين، وسيلة غير الهيمنة بالكاريزما، أو بالتقريع اللفظي، وكلاهما له أثره المدمّر على بناء الطالب، وهذا يعيدنا إلى افتقار المجتمعات في المؤسسات التعليمية إلى عقد اجتماعي ينظم العلاقات بين أجزائها.
- العيارات لا تعنى بتعليم شخصي، الحكومات والعقلية الحكومية وحتى المدرسية معنية بالعيارات، والمناهج العيارية، والامتحانات العيارية، والتعلم غير معني بالعيارات، هو في الأصل عملية أكثر سيولة من أن تحكمها العيارات، وكل ما يمكن أن تقدمه العيارات هو القياس، الذي يعمل كتغذية راجعة توضح فشل أو نجاح الأساليب التعليمية، التعليم يجب أن يكون شخصيا، كما تتغير الرسائل بتغير مستقبل الرسالة، وهذا حديث طويل لم يحن موعده بعد.
ما المشكلة في الكتاب المدرسي؟
سأتخذ مدخلا عجيبا لكلامي عن علل الكتاب المدرسي، وهو الحديث عن التعديلات الأخيرة، والجدل القائم حولها، فالنقاش حول “تعديلات المناهج” بحد ذاته كنقاش يصرخ بصوت عال قائلا: ألا ترون حالي أنا بين النقاشات، أتظنون المصنع الذي أنتج نقاشا بهذه الركاكة قادرا على إنتاج مناهج أو كتب مدرسية أقل سوءًا! وهذا المصنع هو مجتمعنا، ومجتمع أطراف العملية التربوية.
النقاش كله يقوم على ما يجوز أو لا يجوز في هذه التعديلات الأخيرة، ذهنية التحريم، يقابلها ذهنية التحرر، الذهنية “التقليدية” يقابلها الذهنية “التقدمية”، لكن النقاش لا يصل للعمق المطلوب، ويبقى على القشور، والجميع معذور في هذا، لأن التعديلات في ذاتها تعديلات سطحية، والنقاش الذي جرتنا إليه يشبهها، فهي معنية بالتخفّف قليلًا من مظاهر أسلمة كل شيء، ولذلك فالردود عليها كانت إعتراضات إسلامية حادّة النبرة، واعتراضاتنا على هذه الاعتراضات أبقت النقاش محصورا، في تبرير هذا الميل إلى التخفف من الطرح الديني في الكتب المدرسية.
وهذا في الأصل منبثق عن مؤسسات حكومية لا تسمع إلا من أذن الإعلام، والمنابرُ الإعلامية لها خصائصها التي تؤثر على المضمون، فمحاولة الضغط على وزارة التربية من خلال مجموعة من المقالات الصحفية، التي تحكمها عيارات تحدد طولها، ودرجة وضوح طرحها، جرّت “تيار التنوير” إلى تقديم نقد إجرائي للمناهج، يقوم على إحصاء الشخصيات، والأسماء، والمواضيع الواردة في الكتب المدرسية، ولم تتح الظروف والأدوات المتوفرة لنا أن نخوض في عمق الكتاب المدرسي، وما يفترض به أن يقدّمه، ونقد أثره على العملية التربوية، ودراسة أسباب التطرف على الحقيقة، لا مظاهر التديّن فقط.
هذه المقالة مثال جيد على المشكلة السابقة، فكلمة (السابقة) هنا هي الكلمة رقم 1824، ولم أزل قريبا من السطح، ولا يمكن الغوص في العمق من خلال مقالات محدودة بنحو 800 كلمة، وإذا كانت المقالة موجهة للجماهير كلهم، لا المعنيين بالأمر، فيغدو الأمر أصعب، فقد يتجنب الكاتب إثارة غضب الناس أو المسئولين عليه، ويكتفي بلمس المشكلة أو الإشارة لها من بعيد، مع أنه يعرف تماما، كما يظهر من منهجيته، أن المشكلة أعمق مما يمكن أن يقدمه النقد القائم على الإحصاء.
كان النقد مؤثرا بالفعل، وعمد القائمون على إنتاج الكتب المدرسية إلى التخفف من المظاهر الواضحة التي يمكن الإشارة لها من خلال الإحصاء، فاستبدلوا ببعض الكلمات التي يمكن تغييرها، مما يظهر فيها أسلمة كل شيء، كلمات أخرى تحافظ على مسافة آمنة من الدين، لكن هذا كان له أثر سلبيّ كبير على المجتمع، فردّة فعل المعلمين والأهالي، الظاهرة في مواقع التواصل الاجتماعي، كانت أكبر مظهر من مظاهر التطرف، وتبرير بعض القائمين على إنتاج الكتاب المدرسيّ كان في السياق نفسه، كل ما حصل وأغلب ما قيل، هو منافسة على لقب (الأكثر التزامًا برسالة الإسلام)، وهذا بحد ذاته دائرة مضخمة للتطرف، تأخذ منه ثم تغذيه ليكبر.
لكن هذه التعديلات كلها لم تتجاوز الخلل الأساسي في الكتاب المدرسيّ، وهو ذاته خلل في ذهنية المعلّم، وفي فلسفة التعليم في الأردن، وفي طريقة تفكير المسئولين عن تأليف الكتاب المدرسيّ، هذا الخلل، فيما أعلم، موجود في الكتب المدرسية كافّة، ولكنّي أستطيع أن أدلّل على ما أرى منه، بصورة أفضل، إذا ضربت المثال حول مادّة اللغة العربية، فقد درست العربية ودرّستها، لقطاعات مختلفة من الراغبين بإتقانها، بوسائل مختلفة، والنقاط التي سأطرحها حول كتب اللغة العربية، ليست معنية باللغة العربية فقط، ولا اللغات كلها فقط، بل معنية بالعملية التربوية والبناء المعرفيّ والنفسيّ للطالب فضلا عن المعلم، ومسير الحصة الصفية أيضا.
سأعود في الخاتمة لأجمل الطرح كاملا، لكنني سأبدأ من هذا السطر، بالحديث حول تعليم اللغة العربية حصرا، وما يدور في فلك هذا الموضوع من الحديث عن الكتاب المدرسيّ وفلسفة تعليم اللغة الأمّ، وأخصص الحديث عن العربية.
عن فضل الكتاتيب على المدارس
لست أروّج للعودة في الزمن إلى عصر الكتاتيب، ولم أشهد التعليم في الكتّاب، وقد تكون شدّتني ظرافة العنوان إليه، لكن الحديث هو عن سبب إتقان التقليديين وأبناء المدارس الدينية قواعد اللغة العربية بدرجة تفضل الطالب القياسيّ في “المدرسة الحديثة” في الأردن.
تعلّمت في “حلقات الشيوخ” وإليكم وصفا لمجريات حلقة شيخ منهم:
كان شيخي يطلعني على نصوص شتى، ويتركني أسأل عنها ويناقشني فيها، ثم ينقلب الحال إلى أن يسألني هو عن النص، وتكون إجاباتي في النقاش العامل الثاني في تقييمه لأدائي، والعامل الأول هو نوعية الأسئلة التي أكوّنها عن النص، وكان القياس الأخير حول فهمي للنص بأن يطلعني على نص مخالف للنص الأول، ويطلب مني أن أكتب تحكيما بين النصّين، ولا يجيزني في الموضوع إلاّ بعد أن أردّ بعض طروحاته بما يظهر له خطأه.
كنا إذا تعبنا من النصّ، يقول لأعضاء الحلقة: سرّوا عنّا! فننطلق بالنكات وبأخبار مختلفة، ثم يعود ليستخدم بعض هذه الأخبار في الدخول في موضوع الدرس مرة أخرى، وكان عليما بأخبارنا الشخصية، يعرف أهلنا، ويعرف ميولنا، ويقبل حتى تفاهاتنا، والأهمّ من ذلك كله أنه كان المتفضّل علينا من الناحية الماديّة، فتدريسه لنا طوعيّ، وما يقدّمه من ضيافة لنا كان على حسابه الشخصيّ.
كنّا نتعامل مع نصوص ذات موضوع دراسيّ محدّد، ويكون الاستشهاد بالنصوص الخارجية والشعر العربي، والأخبار، إثراءً لدرسنا للموضوع ذاته، وتتعقّد لغة الدرس ولغة التلاميذ وتصبح من درجة أعلى كلّما تعقّد موضوع النص الذي نتناوله، نحن لم نكن ندرس اللغة العربية، كنا ندرس موضوع العقيدة الإسلامية، وآراء الفرق جميعها والأديان والفلسفات، لكننا كنا ندرس هذا كله باللغة العربية، أمام عالم بها ينبهنا على أخطائنا التي تقلّ مع الزمن، ويزيد تشديده على أخطائنا مع الزمن أيضا.
الحلقة التي رويت لكم مجرياتها لم تكن وأنا في العشرين من العمر، كنت حين دخلت حلقة الشيخ في الصف السادس الابتدائي، وأجازني بعد أربع سنوات، وفي هؤلاء المعلمين الذين ترددت إليهم على مدى عمري كتبت مقالة قصيرة، أجدها أفضل ما أعبّر به عن الحالة التي أدخلوني فيها، أترك لكم رابطها، بعنوان: مغانط بشرية دوّراة.
الكتاب المدرسيّ بين وظيفته وواقعه
لأن اللغة وعاء للمعنى، فدراسة اللغة تتطلب معنى ما، يكون قيد الدرس، اللغة وعاء شفاف لا يظهر إلا إذا امتلأ بسائل المعنى الملوّن، ودعونا لا ننسى أن الدين يقدم أجوبة للأسئلة الوجودية التي تهمّ الأعمار جميعها، ولذلك كان الدين في حلقة الشيخ سببا في إتقاننا للغة، لكنْ بعكس حالة شيخي وأبي (أبي وشيخي كانا أعضاء في الحزب نفسه، وقد تجاوزته وغادرته في سنّ مبكرة)، فالناس في الوطن من طوائف مختلفة، ومن خلفيات اجتماعية متنوعة، والتعليم الرسميّ ليس رفاهية، ولا “فرض كفاية” يتصدّى له بعض “الخاصة”.
لهذا كله، يجب على الكتاب المدرسيّ تقديم نصوص تهمّ الجميع، حتى بعض النصوص التي تمتلك قداسة عند طائفة ما من المجتمع، من المهم دراستها، لكن دراستها على الحقيقة، تعني، فيما تعني، تناولَها بالنقد، الإيجابيّ والسلبيّ، ولأننا لم نصل لهذه الدرجة من التحرر في المجتمع، فيفضل عدم تناول النصوص الدينية عند دراسة اللغة، ثمّ مَن الضامن للأهالي وللطلبة أن يكون المعلّم ممتلكا لمهارة نقد مثل هذه النصوص، وإدارة حوار مسالم حولها!
النصوص التي تهمّ الطلبة كلهم، يجب أن تكون بالفعل مهمّة للطلبة، أي أن تكون لصيقة بهمومهم، الحديث عن المهن المختلفة التي لابدّ وأنهم تخيّلوا أنفسهم يشغلونها، والسينما التي يشاهد الطلبة كلهم بعض منتجاتها، والخيال العلميّ الذي يتخيّل الطلبة من خلاله مستقبل عالمهم، وسرد أقاصيص الماضي، والأمثال، التي هي لصيقة بهويتهم اللغوية، وأسئلة الفلسفة وألغازها التي تقدّم لمفاهيم معقدة، كلها أمور من الممكن أن يدور حولها نص من نصوص كتاب اللغة العربية، ويكون الطالب قد استفاد من لغتها، ومن موضوعها، ومن نقدها، وشكّل عنها أسئلته بحرية تامّة، دون أن تشعل نارا في غرفة الصف بين طالبين أتيا من خلفيتين مذهبيتين مختلفتين.
لكن النصوص في كتاب اللغة العربية، أتت على طريقة “من كل قطر أغنية”، فطلبة الصف التاسع مثلا يدرسون اليوم في كتاب العربية قصة “الحمامة والثعلب ومالك الحزين”، التي حفظتها صغيرا عن أبي عقب استغنائي عن الحفاظات! ويدرسون قصيدة ركيكة ضعيفة السبك للأستاذ محمود الشلبيّ، قيمتها الغذائية معرفيّا صفر، وتشجع الطلبة على الخطابية الفارغة، ثمّ يعلو المستوى قليلا مع قصيدة جيدة للشاعر حيدر محمود، لكنّ القصيدة تتناول مفهوم الوطن بطريقة حربية، ثم يعود المستوى ليرتدّ مع نص علميّ انتهت مدة صلاحيته عن الميكروبات، مأخوذ من كتاب “الميكروبات وكرامات الشهداء!”، ثم يعود المستوى ليعلو كثيرا مع قصيدة ابن زيدون في ولّادة “أضحى التنائي”، أي خليط عجيب هذا! هذه النصوص متفاوتة المستوى بشكل عجيب، وأنا لم أوردها على الترتيب.
أسئلة الكتاب عن النصوص حكاية أخرى، وناهيك عن أن النصوص لا تنطلق مما يهم الطالب، فالأسئلة بحد ذاتها أسئلة اقتراحية في أغلبها، تحمل الجواب المراد داخلها، وهذا هو ما قصدته بالتلقين السائد في مدارسنا “الحديثة”، فبعد أن كنا نتعرض لتلقين يصادر علينا حقنا بتشكيل أسئلتنا عن النصوص، بتنا نعرض طلابنا لأسوأ أنواع التلقين، وهو تلقينهم الأسئلة “الأنسب” من وجهة نظر مؤلف الكتاب، وهي أسئلة تقود إلى تلقين الإجابة.
فرق كبير بين أن نسأل الطالب سؤالا مفتوحا على إجابة حرة، يكون تقييمنا للغته ولقدرته على التدليل على رأيه فيها مطلبَه هو منا، وبين أن نسأله سؤالا نكون نحن فيه الذي يطلب سماع إجابة محددة، تلغي رأي الطالب، مصادرتنا حقه بالسؤال هي مصادرة لسائر حقوقه الأخرى، وهذا ما لم أتعرض له في “حلقة الشيخ”، كما أسلفت في فقرة سابقة.
المدارس لم تعد تعيننا على ملاحقة أجوبة أسئلة شكلناها نحن، كما يفترض بها، وفضلا عن تقديم أجوبة معلبة لأسئلتنا قتلت فينا زخم الفضول الأول، انطلقت تلقننا حتى الأسئلة، وتلقننا طيَّها أجوبة مرغوبة، ثم جاء الأستاذ الذي يبتغي عوننا في الحصول على أعلى الدرجات، ليقدم لنا الأجوبة في كراسة أو “كورس”، ننفق عليه الوقت والمال فنحصل على العلامة، فأي تعلُّم يحصل خلال هذا!
التطرف، يا سادة، منشؤه مصادرة حق السؤال، فالعقلية الحتمية التي تتوافر عليها مدارسنا وتنتجها باستمرار، هي أساس التطرف، والعقلية الحتمية لا يمكن أن توجد في عقل يتقن التساؤل، التطرف لا ينبع من دراسة دعاء أو آية، مع أن ثمة موانع أخرى لوجود الآيات في كتب اللغة العربية كما أوضحت من قبل، لكني أجزم أن من يتقن النقد والتساؤل وتحكيم الأفكار بعيدا عن العقلية الحتمية التي ينتجها تناولنا المعيب للعلم كله، وللغة، وللدين، لا يمكنه أن يتطرف، لذلك فملايين ممن درسوا كتبا تحتوي على ما نعترض على وجوده، نجوا من التطرف، وقد أصيب به أشخاص درسوا في مدارس الغرب، لكن حكومات دولهم سبق وأن لاحظت أنهم من خريجي الكليات العلمية التي تدرس العلم البحت، بعيدا عن الأدب، فهم ضحايا العقلية الحتمية التي أشير لها.
الخوف من إيقاع الطالب في الحيرة هو نوع من الرعائية الزائدة، الحيرة هي التي تضمن الخيرة، فبعد أن يحتار أحدنا يكون أمامه مجال أن يختار، وهذا مما أثبتته من قبل أدبيات مبادرة معرفية مجتمعية أردنية اسمها (جيرة| عمان مدينة تعلمية مضيافة)، ونحن إذ نسلب الطالب حقه بتشكيل أسئلته، نسلبه حريته، ثم بعد أن بات عبدا مطيعا ستتخطفه الآلات التي تطلب الطاعة، ومنها آلة التطرف.
الخاتمة
الكتاب المدرسي جزء ضئيل من العملية التعلمية، لكنه جزء مهم إن وافق المتوقع منه، من تقديمه مختارات تفتح نقاشا بين الطلبة، فأي مختارات نقدمها عندما نقرن قصائد محمود الشلبي الركيكة، بقصائد للمتنبي وابن زيدون! دون أن يكون ثمة دافع حقيقي عند الطالب لدراسة أي منها، الجيد منها قبل الرديء، وأي معرفة بالواقع نتوقعها من الطالب وقد أطلعناه قسرا على نصوص تاريخية ونصوص معاصرة موجهة! أليس تمرينا جيدا أن يتعلم الطالب المفارقة مثلا وطرق كتابة النكتة! ماذا عن إدارة محتوى الإعلام المجتمعي وكتابة منشورات الفيسبوك وتويتر باللغة العربية؟ هل ندرب أبناءنا على الطباعة باللغة العربية؟ هل ندرب أبناءنا على الخط العربي؟
الكتاب المدرسي مطلوب منه أن يعين الأستاذ على تقديم أسئلة مفتوحة على إجابات مختلفة ومتضادة، لا أن يطلب إلى الطالب أن يتحدث عن الأخلاق الحميدة مستعينا بآية أو حديث، ولا يشترط بهذا أن نستبدل بهذا السؤال سؤالا عن حماية الوطن، فلنسأل طلابنا مثلا: هل تستحق الأخلاق الحميدة عناء امتثالها؟ ونترك الطلاب يتناظرون حول ذلك كتابة أو حديثا، دون أن نحكم على شيء من آرائهم، بل على أسلوبهم في التدليل على رأيهم، ولغتهم خلال ذلك.
فلنعلم أساتذتنا المغالطات المنطقية، ليتجنبوا ممارستها على الطلبة، وليكتشفوها في كتابة الطلبة، وليكشفوها لهم، ليكن التعلم مسيرة مشتركة بين الأستاذ والطالب، ما المانع من ذلك؟ أهو مثلا تنفيع للجنة محددة لتأليف الكتاب المدرسي؟ أم إشهار لكتاب لم يحصلوا على الحظوة التي يطلبون في الساحة الثقافية؟
جرُّ النقاش حول المناهج إلى تلك الزاوية الضيقة مضر بالمجتمع عموما، وكان يجب صرف الانتباه عنها حتى نتحدث بما يجاوز السطح قليلا، لنا معين على كتابة كتب مدرسية متطورة في مجتمعنا، فمن حق الدراما الأردنية التي أنتجت مسلسلات ناطقة بالفصيحة ذات جودة لا بأس بها، أن نسائلها عن أساليب تعليم العربية، وكذلك من حق “حلقات الشيوخ”، والتعليم الكنسي، والتثقيف الحزبي، والجماعات الشعرية، أن نسألها جميعا عن أسباب إنتاجها لأناس تتقن اللغة العربية، وهنا أنا لا أطلب تبني أحد هذه النماذج وإنما الاستعانة بها للوصول إلى ما نبتغي.
وما ينطبق على اللغة ينطبق على سائر المعارف والمهارات، فالعلوم أيضا ليست بهذه الحتمية التي نتداولها في الكتب المدرسية، والقارئ في فلسفة العلم وبنية الثورات العلمية لا يعوزه أن يجد حشدا من الشواهد على هذا، وبعد الوصول لكتاب مدرسي “مثالي”، لن تكون المشكلة انتهت، فمشوارنا طويل، يجب أن نمر فيه على مكامن الخلل كلها في المؤسسة التعليمية، وقد يكون النقاش حول الكتاب المدرسي أفضل ما نحدث به المجتمع عن فلسفة التعليم.