عندما ترتحل فأنت تحمل معك ما هو ضروري، وما خفّ وزنه ونَدر وجودُه في منتهى رحلتك، وما يتصل بك مما له علاقة بإثبات هويتك للناس (أوراق ثبوتية)، أو بإثبات هويتك لنفسك (صورة المحبوب، أو رسالة منه)، وهكذا فسفرك سيكون خفيفا… لكن من الناس من يرهق نفسه ودابته بحمولة زائدة لامعنى لها بسبب أوهامه! ورحلتنا في الزمن كأمّة رحلة مثل رحلتك، علينا أن نحمل فيها ما ينفعنا من ماضينا، ونتخفف قدر الإمكان من الأحمال الوهمية.
الأكاذيب التاريخية كالأكاذيب في الحياة، هي حمولة زائدة مرهقة، إلا أن حبالها أطول، ومن يحملها في رحلته هو متحمّس غرّ، استعجل الرحلة وهو لم يؤدّ متطلباتها، من توضيب أغراضه قبل السفر، وها هي كواهلنا تنوء بما نحمل، وتنوء بنا رواحلنا، والأرض، والزمان! قد يقتلنا العطش قبل أن نبلغ مقصدنا،أما آن لنا أن نخيّم قليلا ونلقي بأكثر من نصف حمولتنا في الصحراء حيث تنتمي!
أسوأ ما في الكذب أنه يستدعي المزيد منه، هو ككرة الثلج تكبر كلّما انتقلت، حتى إذا ارتطمت بصخرة الواقع، فإذا بها هباء! لكننا مخدوعون بها، نظنّها مهمة، فنحميها من أي اصطدام بأرض الواقع، حتّى إذا خارت قوانا نزلت علينا فقتلتنا تحتها!
لو كنت تكذب على الناس وحسب لكان الأمر أسهل، فأنت ستختلق الأكاذيب الجديدة حين تحتاجها، لكن عندما تكذب على نفسك، فأنت في ورطة أمام وعيك، فأنت تضرب الحق بالباطل وتكتشف شيئا فشيئا أنك بحاجة لحمل أكاذيب أخرى، كي تبرر وجود الأكاذيب في رحلك! وفوق كل هذا فنحن إذ نكذب على أنفسنا كأمة ننسى أننا في سباق مع الزمن، في سباق مع الأمم، علينا أن نصل، وأن نكون أنفسنا عندما نصل، لا أن نتحوّل لغيرنا، فقد صدق من قال: (إن المنبتّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى-تروى عن الرسول محمد).
ها نحن نخيّم ونبدأ بتفحّص حمولتنا الآن، قد تتفاجأ بنسبة الأكاذيب داخل حمولتنا، لكن تذكّر أن رحلتنا طالت لغاية اللحظة، وأننا ضربنا في الأرض مستعجلين الانطلاقة، كنا نريد أن نتحرك وفقط، لم نعرف إلى أين، ولم نوضب أغراضنا، وارتحلنا نجمع الأكاذيب كحاطب الليل! كنّا نخادع أنفسنا، وكنّا في حرج مما نفعل، وفي حرج مما نحمل، فحربنا ضدّ وعينا حربٌ ضروس.
حتى نفهم خصائص الكذب فنميزه برائحته ولونه، تخيّل أننا أتينا بجرّاح دماغ ماهر، قادر على كتابة المعلومات في ذاكرتك، وأجرى لك عمليّة جراحية، زرع في وهمك معلومة مغلوطة، تقول: (إن لك أخاً في هولندا مثلا)! فإنك عندما تستفيق ستتذكر هذه المعلومة وتكون واثقا منها أيّما ثقة، لكن إن سألتك عن اسمه، فأنت أمام خيارين الآن، إما أن تشكك بها، أو أن تختلق لها غلافا من الأكاذيب التي تحميها! فإن اخترت الأول، فلديك من الحق ما تستنبط منه كذبها، فإخوتك معروفون لك، ومعروف عددهم، بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ هذه المعلومة خاطئة، تتنافر مع غيرها مما يتّسق فيما بينه، وبهذا ستلقيها في القمامة إلى حيث تنتمي، أما إذا اخترت الخيار الثاني، فأنت مجبر على نسج شبكة من الأكاذيب اللانهائية كلما واجهت نفسك بحقيقة أخرى تتناقض مع تلك الكذبة.(المثال الوارد عن الجراح الدماغي مثال مشهور بين الفلاسفة لشرح فكرة اتساق الوعي أو شملانيتّه).
مشكلتنا هنا أننا أمام قسمين من الحمولة، كل قسم متسق فيما بينه، قسم الحقائق متسق، لكن فيه فجوات لأنه لم يضطر للنمو والتشعب، وهو صغير كثيف واضح، وقسم الأكاذيب وهو متسق (حسب مهارة الكاذب!!! الذي لم يكن ماهرا كثيرا لحسن الحظ) وهو كبير، متشعب، والأهم من ذلك أنه ثقيل، ثقيل للغاية! وعلينا أن نختار بين القسمين، إما الحقائق وإما الأكاذيب، لأننا إن أبقينا على كليهما، احتجنا المزيد من الأكاذيب لنوفق بينهما، فنحن لا نقدر على خلق الحقائق!
ولأن الأكاذيب متسقة فيما بينها، متعالية كالبناء فوق كواهلنا، صرحاً ممرّداً من أكاذيب، فإننا إن دحضنا إحداها، انهار من عليائه وسقط فوق بعضه، حتى تهشم كله عن آخره، ولن يحمينا من حطامه أن يشوّه وجوهنا، فلا نعود نعرف أنفسنا، إلا خيمةُ الحقيقة، خيمةٌ صغيرة، ننصبها ونحتمي بها عند انهيار صرح الأكاذيب، خيمة قد لا تكون جميلة لكنها كفؤة، وخفيفة لدى الترحال نطويها ونجعلها في رحلنا، ونكمل مسيرتنا في التاريخ، إلى حيث ننتمي.
يا سيّدي قد زرعوا في أوهامنا أننا أقوام عديدة، مع أننا نتشارك الدم والأرض واللغة والهمّ والمصير، على مساحة الأرض الناطقة باللغات العربية، قديمها وحديثها، وقالوا لنا إننا نتبع ألف دين. والدين مايدان له، فبما أننا لا ندين لشيء واحد كلنا، فنحن لا دين لنا حتى اللحظة، بل إنّ مانطمح له هو أن يكون لنا دين واحد (الدين: القانون المطّرد)، وكذبوا علينا بأخبار آخر الزمان، حتى بتنا في آخر ركب الزمان، ونحن ننتظر مهديّهم ومسيحهم ودجّالهم! وما المهديّ غير ملك يسير على هدىً، جاءنا بما ينفعنا، فوظفناه بما يهلكنا، وقالوا لنا إن الإسلام هو التسليم للأقدار، فجعلونا ريشة في مهب الأمم! وما هو إلا أن يسلم قومُك من لسانك ويدك، حتى نعمل معا ونصنع قدرنا، ونكون قدرا لأعدائنا! وقالوا لنا إن الإيمان هو التصديق بخبر الغيب، فجعلوك تصدق من الغيب ما تكذّب به المشهود، وما هو إلا دفاعك عن أمن قومك من الداخل والخارج! وقالوا لنا أن الله شاب أمرد يجلس فوق الغيم، حاد الطباع جلف، يستبدّ بخلقه، وما الله إلا روح الجماعة والحق والخير!
ولكي تعرف الحق من الباطل،فهاك نهج العقل، هو ذاته ما يتبناه القرآن: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }، هاك فاقذف حقّ اللغة على ما لديك من تفاسير باطلة له، وستعرف حينها كم حملت من وهم، اضرب حقّ الجوار بالفتنة الطائفية، وستعرف كم حملت من تخريف، اضرب حقّ التسامح بما حملت من أحقاد على من يشاركونك المصير من الأمم، وستعرف كم حملت من وهن، اضرب حقّ الجماعة بالتطبيع مع الغازي الذي يحتل أرضك، لتعرف كم حملت من مخازٍ، اضرب حقّ الفرد بتدخّلك في عقيدةأخيك، لتعرف كم حملت من عادات بالية، اضرب حقّ القرآن بما حكّمته به من مرويات حديثية، لتعرف كم تهينه من حيث تظن أنك توقّره، اضرب حقّ السنن الكونية التي لا تنقض، بوهم المعجزات والخوارق والكرامات، اضرب حقّ الفكرة بما يسكنك من مغالطات، تجعلك تتبع شخوصا ماتوا وصاروا ترابا! اضرب رأسك بحائط صرح الأكاذيب، وأرحنا منك ومنه، أو عش كالرجال!
لا تترك الأكاذيب تنمو أكثر، لا تتركها تتكاثر وتفرخ غيرها، لا تسوّق لوعيك القُطريّ الزائف، لا تروّج لوعيك الإقليمي المغفل، لا تنجرّ لخطاب الطوائف بدعوى محاربته، إن نقضت لك خرافة في عقيدة أمّك وأبيك، فارم بها، واتبع ما علمت من الحق، لا تقل لي: “ماذا عن خرافات الطائفةالأخرى!”، ابدأ بنفسك، ثم أهلك، ثم أبناء محلّتك، وهكذا عندما يسمعنا أخونا الذي لا يسمعنا اليوم، سيقول: هم بدأوا بأنفسهم! ولم يلزموني بما لا يلزمون به أنفسهم! …
استفق، نبّه غيرك، وضّب متاعك، واترك سقطه،وهيا بنا نسير! أو فلتنم نومة لا تفيق بعدها!