دين أم جين؟

يُرجع دارسو الثورات ممانعةَ المجتمع للتغيير، إلى كون الطبقة ذات النفوذ في مجتمع ما مستفيدةً من الوضع القائم وهي إذًا غير معنية بتغييره، بل وهي معنية بالضرورة بالمحافظة عليه كما هو. ورغم صحة هذا إلا أنه لا يكفي ليجيب عمّا يتعلق بالديانة، فتصوّرنا عن الغيب أمر شخصيّ وخاص، ومع هذا فإن معتقدات الآباء تحميها في عقول الأبناء ممانعة شديدة حتى لو كانوا متضررين منها! فما الأمر يا ترى؟

دعونا لا نهمل أن التغيرات الثورية في المعتقدات كانت مرافقة لتغيرات ثوريّة اجتماعية اقتصادية سياسية، وهكذا فإن حالة من عدم الانسجام بين الواقع الجديد والمعتقد القديم فرضت التغيير فرضًا، إذ إن وراء الأفكار الجديدة واقع ثوريّ نشأت فيه طبقة جديدة ذات نفوذ، توسع نفوذها على حساب الطبقة الممانعة للتغيير، وكانت المعتقدات الجديدة مناسبة لنفوذ الطبقة المسيطرة الجديدة.
لكن مع كل هذا فإننا نستطيع أن نفتّش البنية الفوقية، عن أسباب لممانعة التغيير كامنة فيها، أي أننا هنا سنبحث عن الأسباب المتعلقة بما يعتلج داخل الفرد من أفكار ومشاعر تجعله متمسكّا بما نشأ عليه من معتقدات مستمدة من ديانة الآباء أو “دين” آبائه.
سبق وأن عرّف ثلة من المفكرين البارزين عالميّا حاجة الإنسان للاعتراف على أنها هي المحرك التاريخي الأكبر، وعلى فرض صحة هذا القول (الممكن)، تكون دراسة المعتقدات الفردية وما يعضدها من حقول كعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها، ضروريّة لفهم التغيير والتأسيس له.
الذي لفت انتباهي لهذا وجعلني أقدم على الكتابة فيه، خبرتي الخاصة في جدال الناس ضد الوهابية، والقبول الذي أحظى به إذا اتكأت على الأفكار القديمة لا الجديدة، فما أسهل أن تكسب الأشعريّ لصفك حين تذكره بأن الوهابية ليست على “دين آبائه”! وهكذا الصوفيّ وكذلك أبناء الأقطار العربية البعيدة عن مركز الوهابية مهما تكن ملّتهم.
وبعد، فإن الإنسان العربي “المسلم” اليوم يتمسّك بمعتقدات آبائه لعدّة أسباب فيما أرى، سألخص بعضها معلقا عليه:
أولاً: إن معظم التصور الشعبي للدين يتلقاه الإنسان في مرحلة الطفولة، فيقع في نفسه في مكان أدنى من المنطق، ولذلك فإن المنطق كثيرا ما يعجز عن انتزاع هذه التصورات.
وهنا السبيل لإيقاظ العقل ضد هذه التصورات، هو لفت الانتباه إلى عدم اتساق التصور الشعبي، فهو مليء بالتناقض، الذي إذا التفت له الإنسان عُنيَ بتمحيص معتقداته والتمسك بالمفاهيم المؤسسة لها، ونفي تلك التي تتناقض معها، وللأسف فإن هذه النقطة في صالح الوهابية أكثر من غيرها، فالسلفيون يقدمون نموذجهم متكئين على فضح تناقضات التصورات الشعبية الأخرى عن الدين، وآلتهم الإعلامية الضخمة أعلى صوتًا من الأصوات المنادية بفضح تناقضات الوهابية، ذلك عدا عن كثير من التواطؤ الممارس من قبل غير الوهابيين من المسلمين، الذين يعانون من التناقضات ذاتها التي تعاني منها الوهابية، فهم لا يقتربون مما يهدد وجودهم هم أيضا، فهم مستفيدون بدرجة ما من الوضع القائم. إلاّ أن يقول بعضهم: عليّ وعلى أعدائي!
ثانيًا: التصور الشعبي الديني تصوّر مغلق، أي أنه لا يحمل بذور تجاوزه فيه، فهو عبارة عن حلقة مغلقة من المفاهيم التي تنطوي على مصادرة على المطلوب من صنف الدور المنطقي، لكن اتساع هذه الحلقة يمنع الناس من ملاحظة هذا الإغلاق، ويرونه حصانةً أكثر من كونه انغلاقًا.
وهنا فإن كسر هذه الحلقة أو فتحها يعني إعادة التأسيس للعقيدة من سبيل مختلفة، ومن لم تتوفر عنده هذه السبيل، يخيّل له أنه أمام خيار مصيري، يكون الإلحاد فيه خيارًا قائمًا، بل أول الخيارات، وتلعب مغالطة الاحتكام إلى النتيجة دورها في عقول الناس ليتمسكوا بما هم عليه، وعادة ما يكون التحرر من فلك التصوّر المغلق بشكل مسار حلزوني يبتعد عن المركز، فهو يدور في فلك الفكرة المركزية لكنه يبتعد بسبب طاقته أكثر فأكثر حتى يتحرر من فلكه، والانفلات من فكرة مغلقة بشكل مفاجئ قد يكون له آثار نفسية وسلوكية خطيرة، يستشعرها الوعي فينفر منها، لهذا فإننا نقبل هلوسات أخف وطئًا من هلوسات سابقة حتى نصل لبرّ الأمان العقلاني.
ثالثًا: التصور الشعبي الديني غير مؤسس على أسئلة، بل على أجوبة مقحمة لم يتساءل عنها الإنسان.
لذلك فإن غياب الأسئلة يهدد بانهيار المفاهيم بمجرد الاستغناء عن الأجوبة الجاهزة، وإن الأسئلة التي تنشأ إثر الاستغناء عن تلك الأجوبة هي الأسئلة الخاطئة، وكأني بها لا تنتهي بعلامات استفهام بل بعلامات تعجب، وهكذا فإنه عند حدوث هذا _وهو يحدث كثيرا_ لا ينتج إنسانًا معنيًّا بتوعية غيره، بل ينتج إنسانا محبطًا من واقعه، ينشد الخلاص الفرديّ أو ينساق للمجتمع.
رابعا: جهل الإنسان العربي المسلم (الشعبي) بالعالم والأفكار التي تدور على الخاطر العالمي، بل وبالمجتمع الإنساني الواسع المتنوّع.
وهذا سبب للانغلاق الفكري وسبب حقيقي أكثر مما تتصوّر، فالإنسان غالبا ما يجد هويته الحقيقية عند مواجهة الآخر، وطالما أن من يواجههم ويتعرف عليهم هم من فئات مسلمة أخرى، يبقى تعريفه لذاته مقتصرا على المذهب أو الفرقة، بالإضافة طبعا للجنسية القطرية والأصل الاجتماعي والقبيلة. فهذه الأفكار تدخل في تعريفه لذاته، وهو لن يستغني عنها بسهولة.
وهنا تسطع نقطة قد تكون أكثر أهمية من سابقتها، وهي أن حاجته للاعتراف مقتصرة على حيازة الاعتراف من أهل قبيلته ومذهبه وقطره، وبذلك فهو سيبتعد عن كل ما يجرحه في أعين هؤلاء، ويبحث عن كل ما يعدّله في عينهم، فيميل للانتصار لدين آبائه، وتكون هذه الحاجة السايكولوجية الاجتماعية هي الدافع الأساس، فشبكة أمانه الاجتماعي مهددة إن أحدث أمرًا في دين آبائه! ولك أن تتخيّل كم من الشجاعة والامتثال للحق يلزمك لكي تصدح بالحق الذي عرفت!
خامسًا: الكسل المعرفي ولوم الخالق!
يربّينا آباؤنا على فكرة أننا على دين الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي مكان، وهنا إذا تصادمنا مع تناقضات تحتويها أفكارهم، فإننا أمام خيارين معرفيين، إما أن نبحث وندخل في المسار الحلزوني الطارد الذي ذكرته، أو نختار أن نلتصق بما نشأنا عليه، وعند سؤال الله لنا عن الباطل المفترض الذي تمسكنا به، فالإجابة جاهزة: “أنت خلقتنا هنا عند هذا الأب، فتعلمنا ما علّمنا والتزمنا بما أخبرونا أنه الخير لنا، فبأي حق تلومنا!” بالتأكيد هذه صياغة مبالغ بها للفكرة، ولكن أردت توضيحها بصورة كاريكاتورية فأتت على هذا النحو، لكن صدقًا هذا ما يحدث.
سادسًا: مغالطة المركب الغارق!
سأعلّق بردّة فعل رجل عاقل ناقشته طويلًا وكاد أن يقتنع بأن ديانة آبائنا معيبة لولا ما توضحه إجابته، قال: “أسمعك وأقرأ لك ولا أجد ما هو غير منطقي أو غير مقبول عقليًّا، لكن اقتناعي بما تقول سيتبعه اعتراف مني بأن أبي هالكٌ وأمي هالكة، وأن كلّ تلك الليالي التي أنفقتها فيما أظنه طاعةً ذهبت هباءً منثورا! ولنقل أن أبي دخل في عراك خاسر سينتهي بموته، فهل كنت سأنسحب! بالطبع لا، ثم ماذا عن الكتب التي قرأتها والعلم الدينيّ الذي تعلّمته، والشيوخ الذين عشت أقتدي بهم! هل سأترك كل هذا لأنني لم أجد ما أدفع به حجّتك!!!”
سابعًا: العرب لم يمرّوا بأي ثورة حقيقية بعد.
كل ما نسميه ثورات مررنا بها، هي ثورات غير مكتملة، لم تنتج واقعا مختلفا اختلافًا ثوريّا عن واقع آبائنا، وحتى التغير الثوري في واقع البشرية جمعاء، من تكنولوجيا واتصالات وغيرها، ترجمت بلغة التقاليد، فنحن على مواقع التواصل نتساءل عمّأ كنا نتساءل عنه في جلساتنا في القرية، ولا يعدو الجهاز الإلكتروني الثوري الجديد عن أن يكون قطعة في جهاز عروس عندنا! فالبنية التحتية لم تتغير بعد، فعلى أي بنية تحتية سنؤسس بنيتنا الفوقية الجديدة!
كل ما ذكرت لا يعني أنّ التغيير مستحيل، بل هو ممكن اليوم أكثر من أي وقت مضى، ففي الصراع الطائفي الدائر اليوم صراعٌ داخليٌّ في كل فرقة وفي كل نفس، يشدّها بعيداً عن هذه البشاعة، البنية التحتية تتغيّر بالفعل اليوم، وواقعنا يتهدّم ويتلاشى ليترك فرصة لواقع جديد، وثمّة نفس عربيّ ثوريّ في مراكز الحضارة العربية القديمة ينشد خلاصه من هذا الإرث الثقيل، ينشد على الأقل أن يمتلك هو الإرث لا أن يتملّكه الأرثُ! ثمّة احتكاك دائب مع واقع العالم وهاهي الحواجز تتلاشى ونقف أمام أسئلتنا الوجودية مرة أخرى، دون أن يقدر دين الآباء أن يجيبنا!
التوعية، وتكسير الأصنام بشكل ناعم، أمور مهمة اليوم، فالهجوم الصارخ يعني ردّ فعل متمترس، إذا أردت أن تهاجم ديانة الوهابيّ فواجهه بالسلاح ولا تتهجم بشكل ساخر على معتقده، فأنت في الأولى تقتل إرهابيًّا، وفي الثانية تخلق جماعةً من الإرهابيين، لا تخف فكل ما تقوله ومهما بلغ من النعومة والتوسّل للعقل سيبدو في عينيه هجومًا، لكن التشكيك العقلاني يقطع السلك الأزرق في قنبلة رأسه! وصدّقني أنت لا تريد قطع سلك آخر! ليس وهو جارك وأرضه متاخمة لأرضك وليس بينكم حاجز جغرافيّ معتبر!
الوعي الشعبي بدأ يسير في هذا المسار الحلزوني المبتعد عن مركز التطرف والغلواء، وإن كان مدفوعا بطاقة طاردة من المركز لا بطاقة حب العلم والحرية، وتظهر مرجعيات دينية أقل غلواءً وأقل إغلاقًا، تحتوي بذور تجاوزها فيها، وربّ حماقة عدوّ تفيد أكثر مما يفيدنا مكرنا. لكن يبقى حجر الزاوية هو إخراج المجتمع من نطاق راحته، وجعله ينبذ كسله، في أي من حقول المعرفة، فلابدّ للتيارات المستنيرة في أمتنا من جعل مفهوم تحرير العقل من الخرافات والأوهام والسيطرة الإعلامية بما فيها ذات الرأسمال النفطي، وأخطاء المؤسسة التعليمية الرسمية، لابدّ من جعل مفهوم تحرير العقل من كل هذا مفهوما مركزيّا، بثقل عداء الكيان الصهيوني، وبثقل التصدي للإمبريالية الأطلسية، وبثقل عداء داعش وأخواتها، وبثقل واجب النهضة والوحدة والتحرير، مع أن هذا قد يعني جمهورًا صعب القياد، مما سيصعّب مهمّة قائد هذه الحرب الأسطورية الذي يلوح خياله في الأفق وتتكشف ملامحه يوما بعد يوم!