لو سمع عربيّ من العصور القديمة كلمة رواية لربطها بالشعر فوراً، فالرواية كانت عند العرب هي رواية الشعر، فيقولون فلان من الشعراء كان راويةً لشعر لفلان، أي أنه يستظهر شعره، وتنسحب على رواية الأحاديث ورواية الأقاصيص والأخبار، ومؤخراً باتت كلمةُ رواية اسماً لجنس أدبي مستقل وهو الرواية التي نعرفها اليوم.
رغم ما يقوله بعض النقاد والمؤرخين عن كون أقدم رواية في التأريخ “تصلنا كاملة” هي رواية (الحمار الذهبي) لأفولاي الأمازيغي 180 ق.م.، إلا أن الرواية في رأي كثيرين لم تظهر بشكلها الحالي الذي نعرف إلا في آيبيريا على يد سيرفانتيس في رائعته “دون كيخوته”، ولعلّ الجميع يتفق على أنها أول رواية حديثة، أثرت فيما بعد عالميّا وأنشأت سِمة الرواية الأبرز التي تفصلها عن الأجناس الأدبية المجاورة لها، وهذه السمة هي ما يصطلح عليه بالسرد متعدد الألحان، ألا وهو رواية الحدث من عدة وجهات نظر متراكبة، مما يوفر غوصاً في حقيقة الحدث وغوصاً في النفس الإنسانية، إلا أن الغوص في الحدث يورث ضبابية رؤيته بعكس الحكايا القديمة، والغوص في النفس الإنسانية يورث رؤية أكثر خصوبة لها بعكس الحكايا أيضا.
السرد الروائي هنا، بعكس السرد الإخباري، يقدم عدة وجهات نظر مما يترك الباب موارباً أمام الحقيقة، ويسقط سُلطة (صوت الراوي)، أي أنه يدعي تركه للقارئ حرية اختيار صورته عن الحقيقة، رغم أن هذا لا يحدث عادة، ولكن هذه هي مهمة هذا الجنس الأدبي عند كثير من النقاد، هنا لا بدّ أن نجعل الحديث يأخذ بعضه بأطراف بعض ونضيف أنّ هذه السمة أو المهمة كانت منوطة بالشعر عند العرب لا بالأسمار (الحكايا والأخبار- ما يُتسامر به)، ففي الشعر نجد الإلتفات من وجهة نظر لأخرى، بين الشخوص وبين الأزمنة، ويخفت صوت الإخبار على الأقل في جيد الشعر، حتّى أن التأريخ للحدث بذاته كان من مهمات الشعر أيضاً، فقالوا: “الشعر ديوان العرب”. فإذا كانت مهمتا الرواية وسماتاها الأساسيتان أقرب عند العرب للشعر، وهو بعيد بالنظر لشكله عن الرواية، فماذا كانت مهمة الأجناس العربية الأقرب شكلا للرواية؟ هذا السؤال سيكون الزاوية التي ستبين أننا إذ نتحدث عن الأجناس الأدبية المجاورة من جهة الشكل للرواية، فإننا نتحدث عن السمت الروائي العربي قبل التغريب فالعولمة، أي نتحدث عن أصل يمكن البناء عليه في حقل الرواية العربية.
لكن دعونا أولاً نفهم لماذا كان الشعر ديوان العرب، وهذا يرجع لشرط في بنية الشعر يجعله عصيا على التحريف، فنرى أن إنشاء القول شعراً كفيل بحفظه لفظاً ومعنى، ومن جهتين أيضا حفظ في الصدور والحفظ من التحريف، وقد لجأ النحاة والفقهاء لفكرة النظم لتسهيل حفظ القواعد الجامدة، لأن النظم المتوفر في الشعر كشرط فني يجعله أسهل للاستظهار، من جهة اخرى فالنظم يحد من إمكانية إبدال كلمة مكان كلمة وإن كانت من مرادفاتها، وهذا وفر لثقافة سمعية شفاهية كثقافة عرب الجزيرة وسيلةً تقربها من التدوين الكتابي، لكن يبقى أن الشعر كان قابلا للتحريف من حيث نسبة القصيدة لقائل غير قائلها، أو إبدال السياق الذي قيلت فيه، مما يغير المعنى بشكل رئيس لا يمكن تجاهله، ولذلك فراوية الشعر كان ملزما برواية سياق القصيدة، أو اختلاق سياق لها في بعض الحالات مما يدخل الشعر بطريقة أو بأخرى كمسمار ثابت في لوح الأسمار المتحرك، ونرى ذلك جليا عند تتبع أصول أخبار سيرة من السير، إذ نجد الحكاء أو القاص يركب من الأخبار المتفرقة التي حدثت مع شخوص مختلفة رواية سيرة متكاملة تحدث مع شخوص السيرة ذاتها.
كل ما سبق يمكننا من فهم كيف لبّى العربي حاجته للتدوين التاريخي مما يسمح بتراكم التجربة العربية، وكيف حقق الاتصال بين الأجيال وهو الضروري جدا لإضفاء صفة التراكمية على الثقافة العربية حتى البدوية منها، وجواباً على السؤال المؤجل عن وظيفة الأجناس الأدبية الأقرب للرواية، نستطيع أن نتلمس دور الحكاية، تخييلية كانت أم إخبارية، في قصص الأمثال التي حافظت على مستويات عُليا من معنى المثل، وفي أيام العرب التي حافظت على الإطار السياقي للشعر فحفظت معناه، وفي الحكاية الشعبية في بُعدها الميثولوجيّ والأسطوري المعني بنقل الحكمة بين الأجيال، وفي غيرها من الأسمار إذ أناط العربي بالشعر مهمة السرد المتعدد الألحان (كأن يتحدث على لسان الذئب والجبل والحمامة)، وأناط النسق الروائي والإطار السياقي بالجزء السرديّ من الحكاية.
وكإشارة مقتضبة لمثال على هذا الرأي نذكر الحكاية العربية الأشهر “ألف ليلة وليلة” التي استطاعت نقل محتوى هندي وفارسي (كما يقال) وضمتها للمحتوى العربي من حكايات، في شكل عربي من القصص المتداخل قصة في قصة (وهو طابع حكائي عربي صرف) مطرزة بشعر عربي خالص، يبدو طبيعيا وروده في سياق القصة، مع أنه قيل من قبل شعراء في مواقف حقيقية حدثت على أرض الواقع، لا بين شخصيات وهمية وجدت لتشكل حاملا لهذا المحتوى السردي، وفي الآن ذاته لُحمةً لسدى المقطعات الشعرية المتناثرة فيها، أو لنقل مادة روائية مالئة تغمر الشعر فتؤطره وتحفظه وتحسن التقديم له. لكن هذا النظام القصصي ورد في روايات أخرى، فحري بنا أن نتجاوز البحث في أثره وإمكانياته، إلى البحث في معناه هو كنمط نظام كلامي بغض النظر عن محتواه، فنحن نجده في (كليلة ودمنة) أيضا، وفي سور قرآنية، وفي المقامة، وغيرها.
وفي محاولة لتجريد صورة هذا النمط العربي في السرد، لننظر المثال التالي لتعاقب سردي عربي افتراضي: [قول إنشائي استفتاحي مضمونه على الخاطر العام لكن زاوية تناوله خاصة بموضوع الحكاية، بداية الحكاية (أ)، مآل الحكاية (ب)، عبرة الحكاية (ج) كاملة، حكمة، بداية الحكاية (ب)، تتمة الحكاية (أ)، حكمة مبنية على المشترك في كل ما سبق]… وهذا التعاقب مبسط، لتسهيل التعامل معه، قد نجده في بعض سور القرآن، ففي ألف ليلة وليلة مثلا الحكاية (أ) تتضمن داخلها مئات الحكايات، كذلك في كليلة ودمنة، وهذا النمط لا يُعرف في هذه الأيام نموذجٌ منه أقدم من القرآن، ويغلب على الظن أن منشأه قرآني، ونلاحظ في هذا النمط إغلاقاً للرواية بطريقة حمائية، تجعل من نقل حكاية واحدة من الحكايات نقلا مخلاً بالمعنى الكلي بالضرورة، ما يقابل فكرة عدم جواز تعضية القرآن، لأنها تؤدي بالضرورة إلى معنى خاطئ، على عكس الشعر الذي يركب من وحدات تامة المعنى في مقطع أو بيت أو شطر، وإن كان تجاورها ينتج معنى تكامليا أكثر شمولية، كما أن تداخل الحكايات وتراكبها وتفرعها واشتباكها في نظام السرد العربي ينتج معنى للحكاية الكبيرة (أ) لا يمكن فصله عن الحكايات الداخلية فيها، لكن الحكاية (ج) مثلا يمكن أن تنقل مستقلة بصفتها حكاية مسمطة لا تحتوي في داخلها حكايات فرعية، وهذا نظام اختياري فالتراث العربي مليء بالقصص الشعبي البعيدة عن هذا النظام، حتى أن القرآن ذاته ضرب مثلا للقصة المستقلة في سورة يوسف والتي من أولها لآخرها لا تحوي حكايات أخرى، وهذا يثبت أن هذا التداخل في النظام العربي هو خيار قصدي له معناه، وفي اعتقادي أنه يعبّر أول ما يعبّر عن نظرة عربية في فهم الكون، قرآنية النشأة، أي أنه يمكن إطلاق صفة “إسلامية” عليها أيضاً، تقول بأن المعرفة كل لا يتجزأ، وتجزئتها وإن كانت ضرورية باعتبار محدودية قدرة الإنسان، فهي تسبب انحرافاً في الفهم إذا ظن الإنسان أن ما امتلك من حقيقة هي الحقيقة كاملة.
ومن المُعيب ألا تحظى الليالي (ألف ليلة وليلة) عربياً بالدرس الذي حظيت به أوروبياً وعالمياً، فهي وحسب كثير من الباحثين بئر روائية لا قرار لها، وهذا لا يعني أنها لم تدرس وإنما نحن نتكلم عن كم الدراسة ونوعها، فالدراسات العربية لليالي، كانت غالباً تدور في فلك الدراسات الغربية لها، وهي أهملت مؤخراً لأنها تحتوي على مشاهد “مخلة بالحياء” المتأسلم الزائف، أي أنها لم تكن أخذت حقها واليوم تظلم، خصوصاً في المشرق العربي، فالمغرب العربي منذ أفولاي الأمازيغي وحتى اليوم، مروراً بالسيرة الهلالية وحي بن يقظان وغيرها، كان معنياً بالسرد أكثر من الشعر، ولا غرابة أن ينطلق السرد المتعدد الألحان من إسبانيا بُعيد سقوط الأندلس، ويمكننا استنكاه الأنواع السردية في الليالي من زوايا المقاربات التي درستها، ومنها (حسب د.سعاد مسكين في خزانة شهرزاد):
“ما ركّز على الجانب الموضوعاتي في رصد صور المجتمع العربي، والعلاقات التي تربط بين مختلف فئاته، وفي إظهار أساليب الحكم ومقومات الخلافة، ثم في الإحاطة بالأبعاد الأخلاقية والسلوكية للإنسان العربي في تلك الحقبة.
ومنها ما اتخذ من التاريخ مقوماً استراتيجياً للمماثلة بين الأحداث الحكائية للنص، والأحداث الواقعية عبر المقارنة بينهما…
سلكت دراسات أخرى منحى مقارنا بين الليالي العربية، وبين بعض النصوص العالمية لإبراز مدى تأثر الثقافات الغربية بها، والانجذاب نحوها.
دون أن ننسى تلك المقاربات التي حاولت التأصيل لها، بالبحث في جذورها لمعرفة مؤلفها الحقيقي، وقد شكلت أبحاث المستشرقين اللبنة الأولى لهذا النمط من الأبحاث.”
نكتفي بهذا القدر من الحديث الوصفي عن نظام السرد العربي، لنعود للفكرة الأساسية لهذه المقالة، وهي أن الإغراق في الذاتية الذي يرافق السرد المتعدد الألحان _وهو يبقى ذاتيا ولو كان يرد على لسان أكثر من شخص_ تركه العرب للشعر، وأناطوا بالسرد العربي مهمات أخرى أوسع من ذلك، ولا نطلب هنا انغلاق الثقافة العربية على نفسها، لكن نؤكد أن الدراسات التي تعافت من النفس الإستعماري، سواء عند المستعمِر أو المستعمَر، وجدت في أنماط السرد العربي غنى لا مثيل له، والبناءُ على هذا الإرث الضخم ينتج أدبا يعيد تعريب الذات العربية دون استنساخها عن الغرب، ودون الرجوع فيها إلى الزمن الماضي، لاسيما وأن البناء على هذا الإرث لم يتوقف ولكنه اتخذ طابع الأسلمة والحنين المرضيّ إلى الماضي، الذي لا يبرره إلا استشعارنا لسوء الحاضر.
هذا الذي يحدث اليوم من تعلق الجماهير العريضة بالواقع الإفتراضي القصصي الذي يقدمه لهم الكهنة المسلمون من “الشيوخ” بطريقة الثقافة الشفاهية ذاتها، يمكن فهمه بطريقة تسمح بتوظيفه توظيفا نهضويا وحدويا تحرريا، لا يُهمل مركزية الحكاية أو السرد العروبيّ النظام في بناء الذات العربية الحديثة، لا لصالح استغلال إرثه شكلاً أو مضموناً في عملية إنتاج نمط تديّن متخلّف، ولا لصالح الإرتهان لوجهة نظر الأدب العالمي وحدها، لا سيما وأن العالم عند الكثيرين يعني الغرب المستبدّ وحده! تعدد وجهات النظر مهم، فما تبصره العين الواحدة كصورة مسطحة تختفي منها الأبعاد، إذا أضيف لما تبصره عين أخرى فهو يساهم في تكوين صورة أقرب للحقيقة، أي أنه ثمة مساحة بين رواية العربي للشعر والأحاديث والأخبار، وبين “فن الرواية” الغربي (فن الرواية اسم كتاب في التنظير للرواية للروائي ميلان كونديرا)، هذه المساحة يغطيها السرد العربي بالكامل تقريباً (التقريب سببه اختفاء بعض الأجناس كروايات الخيال العلمي مثلاً، وليس اختفاء التقنيات السردية).
ونستطيع أن ننطلق من هذه المساحة لرواية عربية لا تتحول لأحلام يقظة معلبة يبيعها رأس المال للناس لكي يحسوا أنهم يعيشون حياتهم المعطلة، أو يشتريها من يساريين ليحسوا أنهم قاموا بثوراتهم الوهمية، ودون أن تفكك الوعي العربي وتنهكه في متاهة اختلاف وجهات النظر الذاتية عن العالم الحقيقي خارجنا، فتُمحوِر ثقافتنا حول الفرد بدلا من الجماعة، ودون أن تنقل اهتمام الذات العربية من الفعل إلى المشاعر والانعكاسات الذاتية (في السرد العربي تجد حتى أسماء الشخصيات مشتقة من فعلها أو دورها في الحكاية) لكن هذا لا يتأتى إلا بدراسة معمقة لا تخلو من افتراض وتجريب للنظام السردي القرآني المنشأ والعربي الطابع للحكاية المتداخلة، الذي بلغ من علو الشأن أن شكل لاوعي الأمة وحمّل عليه العرب يوما من الأيام حلمهم في التحرر والوحدة في تكرار فكرة المخلص، إلى أن أنجبته الأمة بالفعل بعد تشرّبها لسرديته، وهو للآن لاوعي الأمة الجمعي الحاضر في القرآن الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار، والحاضر في الزخرفة العربية وسائر الفنون، والحاضر في حديث “الشيوخ” الكهنة، فمن انبرى لمهمة استعادة هذه الأداة لتكون معنا لا علينا، ووظفها في ما يخدم بناء الذات العربية المبتغاة، غير آبه بجوائز نوبل والبوكر وأوسكار ورفوف الأكثر مبيعاً، فقد أهدى أمته خلوداً على خلودها، ولا عجب أن تبادله هي الهدية!